بيروت - لبنان

26 كانون الثاني 2024 12:13ص الموازنة مرآة للواقع

حجم الخط
الصراع حول موازنة 2024 يعود الى ندرة الخيارات المتوافرة لمعالجة الأوضاع الحالية المتعثرة. تعود حدة الصراع الى عدم معالجة الأوضاع المالية الصعبة المتراكمة منذ أكثر من عقدين من الزمن.  تفاقم الصراع العلني مؤخرا بسبب انهيار الليرة وتعثر المصارف وغياب المعالجات المقنعة التي يلتزم بها الجميع. تعمق الصراع بسبب الفراغات الكبيرة في المراكز السياسية والادارية الأهم في الدولة.  يعود الصراع أيضا الى الشلل الحكومي والتعثر النيابي والخلل الدستوري الممزوج بالطائفية والمذهبية والمناطقية.
لن تكون الموازنة حقيقية بمعنى أنها تعكس أوضاع الدولة والمواطن الا بعد الاستقرار السياسي وعودة المؤسسات الى عملها.  في أهم دولة في العالم، لو حصلت فراغات في السلطات كالتي نعيشها اليوم في لبنان لسقطت تلك الدول على رؤوس سكانها.  فعلا أوضاعنا صعبة، لكن المعالجات السياسية الداخلية والخارجية المختلفة لمنع السقوط تعطي نتائج ايجابية وان تكن غير كافية وغير فضلى. في أي موازنة ومنطقيا يجب أن يعتمد سعر صرف واحد لليرة تجاه الدولار أي في الايرادات والانفاق حتى تكون الحكومة شفافة أمام الرأي العام في وعودها والتزاماتها وقدراتها.  الجدية في العمل تقضي باعتماد سعر صرف واحد للدولار للجميع ولكل الحاجات.  من الأفضل أن يكون ذلك سعر السوق الناتج عن العرض والطلب.
الصراع السياسي الشعبي حول الموازنة هو أيضا ممزوج بالعلاقات التي يغلب عليها الفساد الممتد في كافة أرجاء القطاع العام وحتى في القطاع الخاص. دخل الفساد في الثقافة الوطنية وما يجري من فوق مقبول أيضا من الأسفل، مما يجعل من أي محاولات صادقة لضرب الفساد صعبة جدا. تعكس الموازنة قدرات الدولة على تسيير أمورها، لكن في نفس الوقت تستطيع توجيه الاقتصاد نحو أهداف معينة اقتصادية واجتماعية.  من الممكن مثلا لأي موازنة أن تساهم في تخفيف فجوة الثروة والدخل عبر أنظمة ضرائبية وانفاق مدروسين.  من الممكن وضع رسوم عالية على بعض الممنوعات ترفع الايرادات العامة وتصب في مصلحة صحة المواطن. هنالك بنود في الموازنة تهدف أيضا الى التخفيف من التضخم أو الى تحفيز النمو وغيرهما.  قانون الموازنة مهم جدا ويؤثر شرط أن تكون الموازنة واقعية في أرقامها وفي سياساتها الهادفة الى تحقيق الخير العام.
تكمن مشكلة الموازنة اللبنانية في أن الحاجات الحقيقية الحالية كبيرة والايرادات المنطقية قليلة.  كل الوزارات والمجالس والمؤسسات تحتاج الى أموال أكثر من المعطى لها لتقوم بالحد الأدنى من واجباتها. وزير الأشغال والنقل أعلن مرارا أن وزارته تحتاج الى أضعاف ما يعطى لها لتقوم بأعمال الصيانة في الطرق وببعض الأعمال الأخرى الضرورية.  هذا هو حال الجميع في الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية وغيرها، لكن من أين تأتي الأموال؟. لا شك أن الفساد الموجود يشكل تكلفة ايضافية كبيرة تثقل كاهل الموازنة وتعيق عملية خدمة المواطن في الجودة والعمق.  فالمواطن يعاني اليوم معيشيا وحياتيا وينتظر المساعدة من الدولة.
ليس المطلوب اليوم أي موازنة بل موازنة حقيقية بأرقام قريبة الى الواقع والقدرات حتى يؤمن بها الناس ويحترمون أرقامها.  تبنى الأرقام على دراسات موضوعية تناقش ضمن المؤسسات وفي وسائل الاعلام لتنتج في آخر المطاف مشروع قانون يبته المجلس النيابي ونسير جميعا على توجيهاته.
أولا: في الانفاق حيث لا بد وأن نفرق بين الانفاقين الجاري والاستثماري. فالمطلوب أقل الممكن من ناحية الاستثمارات أي للطارئة المهمة في المرافق الرئيسية والبنية التحتية.  أما الأهم فهو احتساب الانفاق الجاري خاصة الأجور والمنافع بحيث يعود الموظفون والعمال الى أعمالهم مما يسهم في تحصيل ايرادات الدولة.  يجب الانتهاء من الغضب الوظيفي واعطاء الموظفين حقهم ضمن المفاوضات والمنطق والامكانات كي تعود الادارة العامة الى العمل.  واجب الدولة خدمة المواطن والادارة العامة تمثل الأجهزة التي يلجأ اليها المواطن للحصول على حقوقه وتسديد واجباته.  حاليا، الادارة العامة لسببي الأجور والفساد لا تخدم المواطن باحترام وفعالية.
ثانيا:  في الايرادات يجب التنبه الى المصادر. هنالك نوعان أساسيان هما الضرائب والرسوم وثم الخصخصة.  في الضرائب والرسوم يجب التنبه الى أن المواطن والقطاع الخاص تعبان من الأوضاع وبالتالي لا يتحملان ضرائب ورسوم ايضافية. هنالك قدرة محدودة على ذلك ساهمت الأوضاع العامة المتردية منذ 2019 في تفاقمها.  من الكورونا الى الأزمة المالية المصرفية والى الأزمة الديموقراطية، لم يعد المواطن اللبناني في نفس الحيوية والطاقة. فالمواطن لا يواجه ضرائب ورسوم ايضافية فقط، بل أيضا أقساط مدرسية وجامعية مرتفعة وأقساط تأمين صحية وغيرها باهظة وبالتالي هو يعاني جدا.
أما المصدر الثاني فهو الخصخصة ايجارا أو بيعا وهذا مهم لتفعيل الخدمات الكهربائية والهاتفية والمائية وغيرها بعد نقلها الى القطاع الخاص.  هذا ضروري في أوقات طبيعية، أما اليوم فالأوضاع العامة السياسية والادارية والأمنية غير جاهزة له.
ثالثا: في تمويل العجز اذ أن أي تقييم حقيقي واقعي للانفاق والايرادات لا بد وأن ينتج عجزا.  اذا رفض مصرف لبنان تمويل العجز وهو على حق في ذلك، فلا بد وأن تحاول وزارة المالية الاقتراض من الأسواق الداخلية والخارجية.  لكن عدم تسديد لبنان لديونه السابقة يمنع واقعيا عليه فرصة الاقتراض لغياب المقرض.  ما الحل؟  اعادة النظر في الايرادات والانفاق.  واقعيا ستكون النتيجة تخفيضا للانفاق لأن القدرة على زيادة الايرادات محدودة جدا. أما تخفيف الانفاق، فممكن مما سينعكس أكثر سلبا على وظيفة القطاع العام ودوره في الاقتصاد. هنالك طريقة أخرى تقضي بعدم توظيف أشخاص مكان الذين يتقاعدون في كل القطاع العام مما يخفف التكلفة على الدولة وبالتالي على جيب المواطن.  أما الحصول على مساعدات وهبات خارجية ودولية فلا يظهر أنه واقعي اليوم في ظل الأوضاع الخطيرة في المنطقة.