بيروت - لبنان

12 أيار 2023 12:46ص تضخم اليوم مختلف؟

حجم الخط
منذ زمن بعيد يمر العالم في فترات تضخم وركود، وكأن اقتصاد الدول كما العالمي يتطور عبر دورات واضحة متكررة.دورات التضخم والركود كانت تختلف جدا في توقيتها وعمقها ومدتها، لكنها لم تكن طويلة الأمد. هل هذا هو حال تضخم اليوم الناتج عن أسباب عميقة مرتبطة ليس فقط بالحرب الأوكرانية وانما أيضا بالمواضيع الصحية كالكورونا والكوليرا وغيرهما؟ هل تضخم اليوم سيزول كليا بعد فترة أم سيكون حاضرا لفترات طويلة بسبب تغيرات جوهرية في الاقتصادات المحلية والعالمية. من أسبابها تغير المناخ والصراعات الاقليمية وضرورة بناء سلاسل امدادات جديدة مكان القديمة التي لم تتجاوب مع التغيرات الاقتصادية الكبيرة.
هنالك تغير واضح في العلاقات الاقتصادية الدولية أساسها ضعف العولمة والعودة الى العلاقات الاقليمية أو علاقات الجوار التي لا تنتج اقتصادات حية فاعلة. بنيت العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية ليس فقط على المصالح السياسية وانما على المصالح الاقتصادية، أي توجه المنتجون نحو الموقع الأرخص وهذا مفقود اليوم. أهم مؤشر لهذا التغيير الكبير هي العلاقات الأميركية الصينية التي تتردى بعد الضرائب الجمركية المفروضة أميركيا على الواردات الصينية، كما بسبب تحديد نوعية الصادرات الأميركية الى الصين. عندما يتأثر الانتاج الاقتصادي بالمصالح السياسية والأمنية، لا بد وأن تتأثر الأسعار ويشتعل التضخم وهذا ما يحصل. من الأمثلة الأخرى اليوم اضطرار أوروبا لايجاد مصادر طاقة بديلة بسبب الحرب الروسية، مما يعني تكلفة ايضافية جديدة وكبيرة أيضا. تشير الوقائع الى أن التوازن بين العرض والطلب سيستمر لكن في ظروف تضخمية مرتفعة للأسباب التالية مجتمعة:
أولا: خلال الثلاث سنوات السابقات أي منذ الكورونا تأثر عرض السلع والخدمات سلبا. هنالك شركات أفلست وأخرى أستمرت لفترة لكنها لم تستطع ايصال المنتج الى المستهلك بسبب سؤ سلاسل الامداد. حصل تجمع شركات في بعض القطاعات ساهم في اضعاف المنافسة وبالتالي في رفع الأسعار. العرض تدنى، ونعرف جميعا من فترات صعبة سابقة أن عودة العرض الى حيويته السابقة يتطلب الوقت والجهد وحتى الاستثمارات.
ثانيا: مع عودة الحياة جزئيا بعد الكورونا وهذا ما يظهر جليا في قطاعي الطيران والسياحة، يرتفع الطلب على السلع والخدمات مما يرفع الأسعار بسرعة في غياب العرض الكافي. هنالك ملايين المستهلكين الذين غابوا عن الأسواق ويعودون تدريجيا مع التحسن النسبي والبطيء للاقتصادات. أسواق آخر 2022 الاستهلاكية تحسنت نسبة لأسواق 2021 لكنها لم تعد الى مستويات 2018. لا ننسى أنه حتى في ظروفنا العالمية الحالية الصعبة، تنمو الاقتصادات وان بنسب ضعيفة. تبعا لصندوق النقد، نمت الاقتصادات الصناعية 2,4% سنة 2022 والناشئة 3,7% منها 5% لمجموعة الدول العربية التي استفادت كمنطقة من ارتفاع أسعار النفط.
ثالثا: خلال الثلاث سنوات السابقة وبسبب الأوضاع الاجتماعية العالمية المتردية، عادت الروح الى النقابات التي تنظمت أكثر وأصبحت تضغط باتجاه الحصول على الحقوق الشرعية للعمال وبالتالي ارتفعت تكلفة الشركات وتأثرت مؤشرات الأسعار. هذا وضع مؤقت، لأن انتاجية العمال سترتفع مع معيشتهم مما يصب في مصلحة الشركات وأرباب العمل والاقتصادات بشكل عام.
رابعا: التغير الديموغرافي يؤثر كثيرا على أسواق العمل وبالتالي على نسب البطالة. دوليا ترتفع نسبة المتقاعدين من عدد العاملين بسبب تقدم الطب والعناية الصحية أي بسبب ارتفاع العمر المرتقب. هذا يؤثر على سوق العمل اذ يحدد العرض بينما يبقى الطلب قويا خاصة في ظروف نمو كالتي نعيش فيها بعد الأزمات. هنالك قطاعات تأثرت أكثر بكثير من غيرها بسبب عدم تجاوب الأجور مع الطلب على خدماتها، منها التعليم والتمريض والصحة عموما حيث نرى حصول اضرابات موجعة في هذه القطاعات الأساسية حتى في أغنى الدول.
خامسا: تحسن الدولار عالميا بسبب بعد أميركا عن الحرب الأوروبية وبسبب ارتفاع الفوائد على الدولار مما جعل النقد الأميركي موضع استقطاب واضح للمستثمرين والمدخرين العالميين. ارتفاع الدولار رفع أسعار السلع الأساسية في الطاقة والمعادن والغذاء وبالتالي ساهم في تعميق المشكلة التضخمية العالمية.
كيف يواجه العالم هذا التضخم العالمي المخيف؟ وكيف يمكن تعزيز هذه المواجهة ليس بالضرورة لقتل التضخم وانما أقله لتخفيف أوجاع المواطنين والفقراء تحديدا دون احداث مصائب جديدة اضافية؟.
أولا: رفع الفوائد كسياسة طبيعية لتخفيف الطلب، لكن الثمن يمكن أن يكون كبيرا أي الركود والبطالة. نجاح هذه السياسة يعتمد على جدية واضعها، أي المصرف المركزي ومدى التزامه بمحاربة التوقعات التضخمية المضرة. الجدية الصارمة تؤدي الى ركود خفيف فقط.
ثانيا: تعزيز سياسات العرض لرفع الانتاجية التي بدورها تؤثر على الأسعار. الاستثمارات في القطاعات الرقمية والمشفرة كما في القطاعات التي تحمل درجات مرتفعة من التكنولوجيا المتطورة هي أساس هذه السياسات. لا شك أن قطاعات الفيزياء والكيمياء تدخل ضمنها أيضا.
ثالثا: المطلوب أن تتأقلم السياسات المالية والنقدية مع الأوضاع الجديدة. وقف مد أوروبا بالغاز من قبل روسيا بسبب الحرب والسقوف على الأسعار جعل الأوروبيون يمضون شتاء صعبا باردا. ارتفاع أسعار الغاز والتضخم عموما سيدخل أوروبا في فترة ركود يمكن أن تكون قاسية. في الحقيقة من الصعب توقع تحسن سريع في العلاقات بين روسيا وأوروبا حتى بعد انتهاء الحرب. هذه الجروح لا تنكفئ بسرعة، وأوروبا ستنوع حتما امداداتها في نوعية ومصادر الطاقة.
رابعا: يبقى التأثير الأهم ليس فقط على النمو وانما على أسواق العمل. بسبب الكورونا وتحول العديد من العمال الى الشركات الناشئة والصغيرة، هنالك طلب قوي على العمال وعرض ضعيف في مهن مهمة كسائقي الشاحنات والمعلمين ومؤخرا بعض المهن الحرة. بقاء أسواق العمل فاعلة مع أجور تتحسن بسبب ضعف العرض يساعد الأسر على الانفاق وبالتالي الاقتصاد العام على الاستمرار والنهوض.