بيروت - لبنان

17 تشرين الثاني 2023 12:02ص لماذا يتفكك الاقتصاد؟

حجم الخط
يتفكك الاقتصاد الدولي بوضوح بعد عقود طويلة بنى خلالها العالم ما سمي بالعولمة أي الغاء الحدود الاقتصادية وزيادة التبادلين التجاري والمالي بين جميع الدول.  أصبح العالم «قرية واحدة» تنمو أقسامه بشكل متواز وان يكن بنسب مختلفة. أما اليوم ونتيجة عوامل ثلاثة أساسية وغيرها يعود العالم الى وضع حواجز جديدة بين الدول مما يعرقل النمو المستقبلي وسيؤدي الى نزاعات كبيرة على الموارد الحيوية للانسان كالطاقة والغذاء. هذه العوامل الضاربة للعولمة هي الكورونا والحربين الأوكرانية والغزاوية والصراع الأميركي الصيني.  نتائج هذه الوقائع هي اعادة تحويل النشاط الانمائي الى داخل كل دولة عوض أن يكون مشتركا لمصلحة الجميع.
من نتائج التفكك عاملان مهمان هما أولا الحروب التجارية كما يجري عمليا بين الغرب والصين كما بين الغرب وروسيا وثانيا انتشار السياسات الصناعية في كل الدول وبالتالي العودة الى الانغلاق.  يتم ذلك عبر الدعم وسياسات تنشيط الصادرات كما تخفيف الواردات عبر التعريفات وعبر انتاج بدائل داخلية.  هنالك جو عالمي جديد يعيدنا عقودا الى الوراء ليس لأن العولمة فشلت بل لأن المستجدات السياسية والصحية فرضت ذلك.  لا ننكر أن العولمة لم تنجح في توزيع الدخل والثروة بين الدول الغنية والفقيرة كما بين الميسورين والفقراء داخل كل دولة.  هنالك نقمة شعبية مبررة ضد العولمة نمت بسرعة حتى قبل الكورونا لكنها بقيت محدودة حتى سنة 2019.
أين أصبحت توصيات منظمة التجارة العالمية التي أسست لتحرير التجارة الدولية؟ أين هو جهاز فض النزاعات داخلها الذي ساهم سابقا في حل مشاكل تجارية كبرى مهمة حتى بين أوروبا والولايات المتحدة؟  هنالك دول بينها الولايات المتحدة لم تعين الخبرات المطلوبة داخل الجهاز وبالتالي عطلته.  في الاحصائيات الحديثة، تضاعف عدد القيود على التجارة والاستثمارات الدوليين 3 مرات منذ 2018. تشير الأرقام أيضا الى أن الاستثمارات المباشرة تتركز ضمن مجموعة دول حليفة، وبالتالي لا تبغي الربح فقط بل تراعي مصالح سياسية تتوضح أكثر فأكثر. من نتائج الخلاف الصيني الأميركي مثلا تخفيف قيمة المحفظة الصينية من سندات الخزينة الأميركية بنسبة 11% بين شباط وأيلول 2022. قال «هنري كيسينجر» في عيده المئة وهو الذي أسس العلاقات الأميركية الصينية أن على الدولتين بناء استراتيجية مشتركة جديدة تجنبا لأي مواجهة مباشرة مستقبلية.
لم تنجح العولمة كليا أي أن ضحاياها كانوا كثر وهم فقراء العالم. لكن هنالك أيضا نتائج جيدة أهمها صعود دول من مستويات اقتصادية متدنية الى أخرى مرتفعة كالصين والهند.  أين كانتا وأين أصبحتا اليوم؟  بدأ التفكك الاقتصادي العالمي في سنة 2019 ومن نتائجه الواضحة التضخم العالمي لأن الاقفال والانحسار وسلاسل الامدادات جميعها تسبب ارتفاع الأسعار. من نتائجها الأزمات المصرفية الجديدة الناتجة عن غياب عمليات الرقابة الجدية كما بسبب المواضيع الصحية والتجارية الأكثر أهمية. تؤثر هذه الأزمات على فرص اقراض الأسر كما الشركات الناشئة التي تحتاج للمال للاستثمار في المستقبل. هل تم حل الأسباب التي أدت الى الأزمات المصرفية الحديثة؟  حتما لا اذ أنها تتكرر بين فترة وأخرى. ما جرى حتى اليوم هو معالجة نتائج الأزمات المصرفية تجنبا للانعكاسات الاجتماعية والشعبية السلبية دون معالجة الأسباب. هنالك عجز واضح تجاه معالجة أسباب الأزمات حتى لا تتكرر.
لا خروج من التباطؤ الاقتصادي العالمي الحالي الا عبر سياسات تعالج الخلل الثلاثي التالي، مما يسمح بتطوير القطاع الخاص والثقة به تعزيزا لفرص الازدهار الطويل الأمد:
أولا: لا تكفي معالجة مشاكل سلاسل الامدادات التي أتت مع الكورونا وما زالت موجودة وان يكن بنسب أقل.  المطلوب معالجة مشاكل الانتاجية في كل دولة وعبر سياسات مشتركة لأن المشاكل تتشابه والتعاون مفيد للجميع.  تحاول الولايات المتحدة اليوم معالجة مشاكل البيئة متكلة على قانون جديد سمح للحكومة بانفاق الأموال على الصناعات الجديدة النظيفة.  هنالك أجواء تدخل حكومي في الاقتصاد لم تكن موجودة حتى في فترة أوباما.
ثانيا:  لا بد من اصلاح قوانين العمل كما ممارسته عن قرب أو بعد.  مع الكورونا زاد العمل عن بعد وهنالك من يريد اعادة الأمور الى ما كانت عليه قبل التغيير المهم.  يقولون أن الانتاجية تأثرت سلبا.  ممكن، لكن العالم وفر الكثير على صعيد تكلفة النقل كما أعطى الامكانية للسيدات للعمل من المنزل والاهتمام بالاطفال وبالتالي ينعكس هذا الأمر ايجابا على الأجيال المستقبلية.  وفر على الأسر تكاليف العناية الداخلية الناتجة عن غياب الأهل عن المنزل كل فترات النهار. انتاجية الموظف الأميركي أعلى من الأوروبي، وهذا صحيح لكنه عائد الى أن العامل الأوروبي يعطل أكثر من الأميركي وبالتالي الأرقام ليست كل شيء.  باختصار، العمل من المنزل عندما كان ذلك ممكنا أثر على حجم الانتاج مما انعكس سلبا على الناتج المحلي الاجمالي.  لكن النتائج الرقمية ليست كل شيء، اذ أن مؤشرات السعادة الانسانية لا تدخل فيه وهي حتما تتأثر ايجابا بالعمل عن بعد.
ثالثا:  الاصلاحات المالية وهي في غاية الأهمية وتؤثر على الدخل والاستهلاك والاستثمار كما على الاقتراض.  النموذج الشرق أسيوي لم يعد صالحا اليوم.  سابقا قامت الدول المعنية بدعم الشركات الصناعية الكبيرة القابلة للتصدير بسخاء ونجحت في ذلك في غياب المنافسة الخارجية الجدية كما في غياب القوانين الدولية التي تعرقل ذلك.  كما أن نمو اليوم مرجح أن يأتي من الخدمات والشركات الناشئة والصغيرة وليس من الشركات الصناعية الضخمة.  تبقى الاصلاحات المالية ضرورية لتسهيل عمليات التمويل ووقف الكوارث المؤدية لسرقة ودائع المواطنين.  ضمان كل الودائع عبر نظام تأميني متطور يمكن أن يحل المشكلة لأن التهور المصرفي سيستمر مهما كانت الحواجز القانونية التي تقف في وجهه.