بيروت - لبنان

15 كانون الأول 2023 12:00ص هل تقوم الأسواق بواجباتها؟

حجم الخط
بعد 300 سنة على ولادة «أدام سميث» مؤسس العلوم الاقتصادية الحديثة، لا بد من القاء الضوء على وضع الأسواق أي هل كانت بالمستوى المطلوب من قبل المؤسس؟  هل قامت بالأدوار الطبيعية التي من المفروض أن تقوم بها؟. هل أعطت النتائج التي رغبت بها المجتمعات من ناحيتي الانتاجية والفعالية؟  الأوضاع الاقتصادية العالمية المتشنجة تفرض طرح هذه الأسئلة.  هل تكمن المشكلة في النظريات أم في التطبيق؟  لا شك أن العالم يمر في ظروف صعبة لا يمكن تحميل أدام سميث المسؤولية عنها، بل يجب دراسة ما حصل وتقييم المسيرة الاقتصادية ليس بالضرورة منذ 300 سنة بل أقله خلال العقود القليلة الماضية.
ما هي النتائج الاقتصادية المقلقة التي تفرض طرح مشكلة صحة النظريات المتتابعة الناشئة مع أدام سميث والتي تغيرت مع الحفاظ على جوهرها أي أسس النظام الاقتصادي الحر. ما هي النتائج السلبية التي تفرض اعادة النظر أو تقييم ما جرى سابقا؟.
أولا:التضخم القوي الذي نعيش معه والذي يعتبر الأعلى منذ سبعينات القرن الماضي.  طبعا هنالك سبب أساسي لا دخل لسميث به وهي الحرب الأوكرانية التي أشعلت أسعار الغذاء والمحروقات ومعها كل مؤشرات الاستهلاك العالمية.  كانت البذور التضخمية موجودة حتى قبل حربي أوكرانيا وغزة لكنها اشتعلت معهما. أسباب وجود البذور تعود الى موجات من التقلبات المؤذية أحيانا من ناحية العرض وأخرى من ناحية الطلب علما أن الاثنين يتحركان سوية أحيانا.
ثانيا:  قلب نظريات سميث التاريخية هو التأثير الايجابي للحريات الاقتصادية على انتاجية كل القطاعات. عرض سميث في نظرياته أهمية تخصص العمالة في الانتاج أي تقسيم مهمات العمل بين الأفراد مما يؤثر على الانتاجية وثم الانتاج.  تحركت الاكتشافات التكنولوجية كما لم يحدث سابقا الا أن الانتاجية بقيت متعثرة أو أقله متأرجحة في معظم الدول الأساسية.  حصلت عوائق جدية منعت ترجمة التكنولوجيا في الانتاجية لأسباب قانونية ومؤسساتية كما بسبب صعوبة تطبيق بعض هذه التكنولوجيات بسرعة في العملية الانتاجية كما التربوية.
ثالثا: توقع سميث أن يؤدي الاقتصاد الحر الى انتعاش اقتصادات الدول النامية والناشئة بفضل التجارة الدولية والمنافسة.  لكن هذا لم يحصل بل استدانت هذه الدول قسرا الى حدود مرتفعة جدا نسبة لناتجها المحلي.  توقع سميث أن تؤدي التجارة الى انتعاش كل المشاركين، الا أن هذا لم يحصل بل هنالك دول استفادت أكثر بكثير من غيرها وأخرى تأخرت لأنها لم تستطع اللحاق بتطور تقنيات الانتاج والعلاقات الدولية المعقدة.  توقع سميث أن يؤدي الاقتصاد الحر الى أن يعطي الانسان أفضل ما عنده للمجتمع.  توقع أن تؤدي هذه التصرفات الى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكافة الدول وهذا ما لم يحصل.
رابعا:  سببت الكورونا كما الحرب الأوكرانية توترا كبيرا في العلاقات التجارية الدولية انعكس سلبا على الجميع وخاصة على الدول النامية والناشئة. وضعت أميركا مثلا ضرائب جمركية على الواردات من الصين بالرغم من حاجتها للسلع المصنعة هنالك. دققت في صادراتها الى الصين وأوقفت بعضها خاصة تلك المرتبطة بالتكنولوجيا المتطورة التي تتفوق بها أميركا. أما العقوبات الموضوعة على روسيا بسبب الحرب، فلم تؤذ روسيا فقط بل العديد من الدول التي كانت لها علاقات مزدهرة معها في الغذاء والنفط والغاز. ما يجري اليوم دوليا في موضوع التجارة الدولية يأتي عكس ما أوصى به سميث وبالتالي نحصد نتائج هذه الحواجز التجارية.
خامسا:  من وصايا سميث تشجيع المنافسة في الأسواق وبالتالي محاربة كل الاحتكارات مهما كانت مصادرها أي قانونية أو تكنولوجية أو اقتصادية أو غيرها.  ما يحصل اليوم عكس ذلك تماما اذ نرى في معظم القطاعات شركات قليلة تسيطر على الأسواق وبالتالي تنعكس الاحتكارات سلبا على نوعية السلع والخدمات كما على أسعارها.  من يكون ضحية الاحتكارات؟  حتما المواطن المستهلك وبالتالي تتعثر أوضاعه المعيشية في غياب الرقابة الصارمة من قبل السلطات الرسمية.  يقلق العالم اليوم من الذكاء الاصطناعي الذي يرفع مستوى الانتاجية على حساب العامل الذي يمكن أن يخسر وظيفته لعدم قدرته على منافسة الآليات والحواسب الكبيرة المتطورة التي بدأت تحل تدريجيا مكانه في بعض المهمات.  لا مانع من انتشار الذكاء الاصطناعي ليسهل عمل الانسان ويرفع انتاجيته وليس للحلول مكانه.  هنالك دور كبير للسلطات الرقابية والقانونية في تنظيم هذا الذكاء ليفيد مختلف المجتمعات حتى الناشئة والنامية.
هنالك من يعتقد أن تأثير الذكاء الاصطناعي على العالم سيكون أكبر من أي اكتشاف سابق بما فيه الكهرباء والنار.  تشير بعض الدراسات الى أن انتشار الذكاء الاصطناعي في المجتمعات سيرفع الناتج المحلي الاجمالي العالمي ما بين 2,6 و4,4 ألف مليار دولار سنويا.  لذا تكلفة رؤوس الأموال ستنخفض مما يسمح بالاستثمار أكثر في كل الاقتصادات والقطاعات. كي يكون الذكاء الاصطناعي مفيدا لكل الاقتصادات يجب أن ينعكس دوره ايجابا على العمال، أذ من غير المقبول أن يكون العامل الضحية.
هنالك اكتشافات تكنولوجية كبيرة انعكست ايجابا على كل جوانب المجتمعات منها الطاقة الشمسية وكافة أنواع اللقاحات والأسمدة الزراعية وغيرها.  بسبب التكنولوجيا، انخفضت أسعار الطاقة الشمسية 90% بين سنتي 2009 و 2019 وهذا كبير ومدهش وله افادات ضخمة للجميع. التطور التكنولوجي الزراعي سمح بزيادة الانتاج وتوافر السلع السليمة بسرعة وأسعار مقبولة للمستهلك.  لذا المجتمعات الناجحة هي التي سمحت بوضع آليات لتشجيع التجدد والابتكارات.  حماية الملكية الفكرية كما تمويل البحث والتطوير هما منها بل أهمها.  امكانية الفشل في اصدار اكتشافات جديدة يفرض نوع من المساعدة العامة المسبقة في التمويل ولاحقا في التسويق.  واجب السلطات العامة تشجيع التجدد خاصة في كل ما يفيد الفقراء.