بيروت - لبنان

8 كانون الأول 2023 12:01ص وقف الهجرة ضروري

حجم الخط
تعاني منطقتنا من هجرة كبيرة للشباب كانت أكثريتها الساحقة في الماضي شرعية، أما اليوم فأعداد كبيرة تحاول المغادرة بكل الطرق المتوافرة مهما كانت تكلفتها المادية والانسانية. في الماضي كانت الهجرة أساسا اقتصادية، أي يحاول الانسان تقديم طلب المغادرة الشرعية للاقامة والعمل لتحسين أوضاعه المادية وبالتالي كانت الهجرة شبابية بامتياز. هجرة اليوم ليست فقط اقتصادية انما أيضا حياتية انسانية لكافة الأعمار وبكافة الوسائل. من يشاهد القوارب تغادر من مختلف الشواطئ العربية وتغرق ويموت المئات وربما أكثر، يحزن ويأسف على أوضاعنا المتردية باستمرار.
رسالة الدول المضيفة واضحة وهي عدم الرغبة في الاستقبال،وبالتالي كان من المتوقع أن يشكل هذا رادعا أمام الراغبين في الهجرة. العجيب أن الهجرة تستمر والمغادرة بأي ثمن هي الواقع المؤسف. الحقيقة أن المغادرة على هذه القوارب هي نوع من «الانتحار». مجرد مشاهدة تلك الأعداد البشرية الهائلة على قوارب لا تتسع حتى لقسم قليل منها، مؤلم ويشير فعلا الى عمق مشاكلنا. رغبة المواطنين بالمغادرة كبيرة ووراءها دوافع قوية لا يمكن مواجهتها بسهولة لأنها ترتبط بأوضاعنا الاقتصادية والحياتية والانسانية. من يريد المغادرة انتحاريا، من الصعب منعه أو حتى اقناعه بالعكس.
صعب جدا أن يغادر الانسان بالقوة الى دول ومجتمعات لا تريده بل ترفضه. المفروض أن يشكل هذا الواقع سببا كافيا لعدم الهجرة أو أقله أن تخف الأعداد الى عشرها مثلا. المدهش أن أعداد المهاجرين غير الشرعيين تزداد، وعدد الضحايا يرتفع أيضا لكن الرغبة في الهجرة أكبر وأعمق. تركيز الهجرة غير الشرعية على الدول الأوروبية التي لا تريدهم وتصرح عن ذلك محيِّر. فلماذا لا تتوجه هذه الهجرة المؤسفة الى دول تستقبلهم ربما تركيا، الاقتصاد التاسع عشر عالميا، حيث الفرص كبيرة وستكبر لأن تنوع الاقتصاد التركي واسع وقابل للتوسع. هنالك ربما دول آسيوية تحتاج الى العمالة كالصين ربما تستقبلهم بسهولة أكبر حتى لو كانت المسافة من هنا أبعد ببضع ساعات؟ ما تعاني منه الصين اليوم ونتيجة سياسة الطفل الواحد هو النقص في العمالة الذي يمكن التعويض عنه من مصادر خارجية متعددة.
بين دولنا العربية، تختلف أسباب الهجرة وبالتالي الدافع لها. من يهاجر من سوريا مثلا غير الذي يهاجر من لبنان أو تونس أو ليبيا. لكل دول مقوماتها السلبية الخطيرة والكبيرة التي تدفع للمغادرة. يمكن للحكومات المختلفة أن توقف الهجرة غير الشرعية اذا أرادت ذلك، لكن لا شيء يشير اليه. هنالك دول عبر العالم شجعت الهجرة منها لوقف الضغط على السياسيين بشأن الحقوق المعيشية والسياسية والانسانية المسلوبة وفي مقدمها الحريات. يمكن لدول المنطقة أن توقف الهجرة منها أو أقله تخفف منها اذا أرادت. عمليا هذا لن يقضي على الرغبة في الهجرة التي ستبقى قوية طالما أن مجتمعاتنا لا تتقدم على صعيد الحقوق والحريات. أفضل طريقة لتخفيف الهجرة غير الشرعية من منطقتنا هي تحسين الأوضاع الاقتصادية داخل كل دولة بحيث يعيش الانسان بكرامة وحرية وسعادة أكبر.
لا شك أن المصالحة الايرانية الخليجية تساعد كثيرا على تحسين الأجواء المختلفة في المنطقة شرط أن تنفذ توصياتها الجيدة على الأرض. حرب غزة أعادتنا جميعا الى الوراء، لكن حصول السعودية على حق تنظيم معرض 2030 يبقى ايجابيا جدا. استضافة الامارات لمؤتمر البيئة cop28 هو جيد ويعطي املا في المستقبل. تحسن أوضاع دول المنطقة الاقتصادية سيتطلب بعض الوقت بعد انتهاء حرب غزة. سابقا، كانت الدول العربية وايران وتركيا تحاول جميعها التقدم، بينما المجتمع الاسرائيلي كان يذهب الى العنف المتزايد والى تقييد الحقوق داخله عبر القوانين والتغييرات الديموغرافية المستمرة. قال الكاتب «توماس فريدمان» ان اسرائيل تؤذي نفسها اقتصاديا بسبب القوانين الجديدة خاصة وأن الاقتصاد ينتج أعدادا كبيرة من الشركات الناشئة التي تنجح عالميا. قال فريدمان أن هنالك 37 شركة ناشئة حولت حديثا 780 مليون دولار الى الخارج مما سيترك نتائج سلبية مهمة على الاقتصاد تكبر مع الوقت.
 الأسباب التي تدفع للهجرة بأي ثمن وطريقة من منطقتنا متعددة أهمها:
أولا: ضعف الحريات الاعلامية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. جميع المؤشرات الموضوعية تؤكد على ذلك وهذا مضر لمستقبل مجتمعاتنا. تتراجع المؤشرات الاجتماعية في أكثرية الدول مما يقتل أمل الأجيال الجديدة.
ثانيا: حربا أوكرانيا وغزة ونتائجهما التضخمية تمنع عمليا على المواطن العربي العادي أن يعيش بكرامة. ها هو يعمل في عدة وظائف في اليوم دون أن يستطيع تأمين المال للعيش الكريم. حتى في المجتمعات التي طورت قوانين استقبال النساء في سوق العمل، هي تعاني أيضا من المشاكل الاجتماعية الحادة أي غلاء في غياب مساعدات اجتماعية وانسانية كافية.
ثالثا: السياسات العالمية الاقتصادية تخنق اقتصادات الدول النامية. توسع السياسات الحمائية في الدول الصناعية وارتفاع الفوائد كما اعطاء أفضلية للانفاق العسكري تمنع جميعها عمليا الدول الفقيرة من تحسين أوضاعها. تصبح الاستفادة من علاقات تجارية مالية صحية ومفيدة مع الدول الصناعية أصعب بكثير. تضييق التعامل مع الدول الغنية من قبلها يؤذي الدول الفقيرة التي تحتاج الى المساعدات والاستثمارات.
رابعا: الأوضاع السياسية المتطرفة في الدول الصناعية التي تحمل اشارات سلبية تجاه الدول الفقيرة. تسبب الكثير من التشنج في العلاقات وتعيق عمليا نمو دول العالم الثالث.
خامسا: تتوسع الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة. يرتكز الاقتصاد العالمي اليوم على تكنولوجيات جديدة بدءًا من الذكاء الاصطناعي الذي يصعب على الدول النامية متابعته والمشاركة به. مجتمعات الدول الفقيرة غير جاهزة عمليا لدخول سباق التكنولوجيا الحاصل اليوم بين الغرب وآسيا. هذا الواقع الجديد يؤثر على أسواق العمل وعلى دور الانسان في الاقتصاد كما يقلق الدول النامية والناشئة.