بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 شباط 2020 09:21ص "ناشيونال انترست": لبنان "الممزّق" برميل بارود في الشرق الاوسط!

حجم الخط

أدى اغتيال الفريق قاسم سليماني، قائد "قوة القدس" في إيران، والهجمات الصاروخية الإيرانية اللاحقة على القاعدتين الأميركيتين في العراق، إلى إثارة الحديث عن الحرب في الشرق الأوسط. أعضاء في الكونغرس، ووزير الدفاع الأميركي السابق ليون بانيتا، وخبراء السياسة مثل دانييل بيمان وتريتا بارسي، ووسائل إعلامية مختلفة ادعوا أن الأحداث قد أوصلت المنطقة إلى حافة الحرب.

إن هذه الآراء وردود الفعل كانت بشكل مباشر أو غير مباشر حججاً مثل مقالة روبرت مالي في العدد الشهري لمجلة "فورين أفيرز" الأميركية لشهري تشرين الثاني/ كانون الأول 2019 تحت عنوان "الحروب غير المرغوب فيها: لماذا الشرق الأوسط أكثر احتراقاً من أي وقت مضى". ورأى مالي أن الشرق الأوسط يجسّد حالياً مفارقة. في الوقت الذي أصبحت فيه مجتمعاته وبلدانه والمنطقة منقسمة، أصبحت في الوقت نفسه أكثر اندماجاً من خلال ظهور الحركات العابرة للوطنية وتدخّل الجهات الخارجية الفاعلة في النزاعات المحلية. ووفقاً لمالي، حوّلت هاتان الظاهرتان الشرق الأوسط إلى صندوق صغير حيث يكون الحدث المحلي قادراً على إشعال حرب أوسع بين بلدان مختلفة.

على سبيل المثال، أدى تشتّت المجتمع العراقي إلى اندماج بعض المجتمع الشيعي العراقي مع إيران، فقد أصبحوا امتداداً للنفوذ والقوة الإيرانيين. وكان دعم سليماني للميليشيات الشيعية العراقية وتعاونه معها هو مظهر واضح لهذه الظاهرة. لذلك، فإن أي مواجهة أميركية مع الميليشيات الشيعية العراقية يُمكن أن تشعل حرباً بين الولايات المتحدة وإيران. وأشار مالي، في مقاله، إلى أن سوريا واليمن هما منطقتان مؤهلتان لإثارة حرب، ستجرّ إليها الولايات المتحدة أو بلدان أخرى. وتغريدة مالي الأخيرة وإعادة التغريدات، تعكس وجهة نظر مماثلة فيما يتعلّق بالأحداث في العراق.

إن الأحداث المُحيطة بمقتل سليماني، أو في حال عدم وجودها، تُشير إلى أن تأكيدات مالي وغيره غير مبررة. فالمنطقة ليست على شفا الحرب. إنها ليست الصندوق الذي يعتقده الكثيرون، ولن تكون كذلك في المستقبل القريب. أظهرت الدول التي تتدخّل في نزاعات الشرق الأوسط المحلية عدم استعدادها للتصعيد عندما تتعرّض مصالحها للخطر أو التهديد.

إن استخدام السيناريوهات المُوجزة والمُعاصرة للعراق وسوريا واليمن وتأمّلها يفشلان في إدراك حقيقة المنطقة. يجب على المرء مراقبة ديناميات لبنان على مدى فترة زمنية طويلة لفهم أن المنطقة ليست عرضة لصراعات أكبر. في النهاية، يمنع هذا الإغفال للبنان إجراء تحليل أكثر إيجازاً وفهم أعمق وتقديم توصيات لسياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط.

فلبنان - وليس العراق أو سوريا أو اليمن - هو نموذج ودليل للشرق الأوسط المعاصر. يجسّد لبنان المفارقة التي حدّدها مالي - التمزّق والاندماج. على مدى سبعين عامًا، تمتّع لبنان بتاريخ من الانقسامات الاجتماعية العميقة والصراعات المتداخلة مع التدخل الخارجي والحركات العابرة للوطنية. تجعل هذه التجربة الطويلة الأجل لبنان من المختبرات الغنية لفهم التطوّرات والنقد وبناء سياسة فعّالة لصراعات الشرق الأوسط اليوم. يُمكنه أيضاً تحضير صنّاع السياسة لما ينتظرنا بعد استنتاجات هذه الصراعات.

لقد اختبر لبنان بنية الدولة الضعيفة والجهات الفاعلة القوية من غير الدول لعقود. لقد كان لبنان ولا يزال صورة مصغرة عن الخلافات العديدة في المنطقة: فالصراع العربي-الإيراني-الإسرائيلي يستهلكه؛ الدينامية السنية في مقابل الشيعية موجودة دائماً؛ ومجتمعه السني مُجزأ على نحو متزايد. إنه أيضاً موقع للمواجهة الأميركية-الإيرانية.

التمزق والاندماج المتزايدان في الشرق الأوسط يخلقان أكثر من لبنان. فقد بدأ كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا في محاكاة لبنان عن كثب في أوقات السلم والحرب. وقد تتبعه السودان والجزائر ومصر قريباً. إننا نشهد ارتفاعاً في عدد الدول التي ليست لها أمة أو قومية في الشرق الأوسط - وهو وضع يُعاني منه لبنان منذ العام 1943.

فدولة من دون أمة تستلزم وجود مكاتب إدارية مستقلة وهيكل اجتماعي اقتصادي، ومع ذلك، تكون الهوية الوطنية ضعيفة. بينما الهويات الطائفية / الإثنية، والحركات الأيديولوجية، والانتماءات القبلية في هذه الدول تُنافس الهوية الوطنية أو تتحدّاها. إن غياب وجود مجتمع متماسك يُقوّض وظيفة الدولة، وينتج عن هذا الواقع سوء الإدارة - استبعاد المجتمعات والفساد وعدم المساءلة - ويُوفّر دعوة للجهات الفاعلة الأخرى للتدخل.

تُظهر الدول من دون أمم سمات ونتائج معينة أثناء أوقات الحرب والسلام. توجد المعضلات الأمنية في المجتمعات والحركات احتكاكات وعنفاً داخل هذه المجتمعات والحركات وفيما بينها. في هذه البيئة، تتطور العلاقات متبادلة المنفعة بين المجتمعات/ الحركات والجهات الفاعلة الخارجية. هذه الخصائص تُنتج عدم الرغبة في حل وسط، وإسقاط التأثير الخارجي على الشؤون الداخلية، وحساسية تجاه التطوّرات الإقليمية. وتشمل النتائج: العناد، والاستقطاب الإضافي، والحلول المُغرضة أو غير المكتملة، والافتقار إلى إنفاذ السياسات، وإنهاء العلاقات مع الجهات الخارجية الفاعلة.

توجد أوجه تشابه مذهلة بين لبنان والشرق الأوسط اليوم. على غرار الطائفة الكاثوليكية المارونية في لبنان، يرى التُبو في ليبيا، (وهم مجموعة إثنية من الرُعاة الرُحّل وشِبه الرُحّل، يَستوطنون في الجزء الأوسط من الصحراء الكبرى الأفريقية، على امتداد الجزء الجنوبي من ليبيا) أنفسهم تحت تهديد وجودي. إن فشل الحكومة العراقية في تحقيق احتكار استخدام العنف (أو السلاح) في حقبة ما بعد "داعش" يشبه تجربة لبنان المستمرة منذ عقود مع "حزب الله" و"منظمة التحرير الفلسطينية". ستظهر سيناريوهات مماثلة في سوريا واليمن وليبيا. إن العراق ومشاكله في المرافق العامة تُعادل إخفاقات لبنان المستمرة في مرافقه العامة. إيران تبسط نفوذها في العراق وسوريا واليمن كما فعلت في لبنان منذ حوالي أربعين عاماً. يُنافس عدد الجهات الفاعلة المحلية والأجنبية المُشاركة حالياً في الحرب الأهلية في ليبيا، عدد الجهات الفاعلة المُشاركة في لبنان خلال أوائل ثمانينيات القرن العشرين.

برميل البارود من دون فتيل

إن التمزّق والاندماج المتزايدين في المنطقة، يُقلّلان من احتمال نشوب صراعات أكبر. يؤدي العدد المتزايد من الدول التي لا تتكوّن من أمم إلى توفير المزيد من الفرص للجهات الفاعلة الخارجية للتدخّل. مع المزيد من الفرص، لا يُطلب من أي شخص وضع كل بيضه في سلة واحدة أو وضع جميع أوراقهم على الطاولة. هذا الواقع يجعل من غير المحتمل أن يغمر المنطقة نزاع أو صراعات أكبر. إن الهزيمة أو الانتكاسة في موقع واحد لا تعني النهاية لبلد مثل السعودية أو إيران. هناك فرص أخرى أو فرص أخرى لا محالة ستُعاود الظهور في نفس الأماكن.

ستُواصل الطبيعة المتمزّقة للمجتمعات اللبنانية والعراقية والسورية واليمنية والليبية إنتاج الصراع والتوتر، ما يجعلها أرضاً خصبة للتدخّل (الخارجي) وعرضة لتفاقم العنف. ستستمر الدول في إسقاط نفوذها في هذه الأماكن، ولكن بحدود. يوضح التاريخ أنها لا تخاطر بكل شيء. عندما يتعلّق الأمر بالدفع، فإن الجهات الفاعلة الخارجية مثل السعودية وقطر وإيران وغيرها ليست على استعداد لكسر أعناقها من أجل عملائها. ليس ذلك من مصلحتها، ولا يتعيّن عليها ذلك. لماذا تُخاطر بحدوث نزاع أكبر عندما يُمكنها متابعة العلاقات الأخرى أو يُمكنها إحياء العلاقات مع العملاء في المستقبل؟

مرة أخرى، لبنان هو شاهدنا على هذا السلوك. إن الهجوم السوري في العام 1976 على عناصر "منظمة التحرير الفلسطينية" في لبنان، نيابة عن قيادة لبنان المارونية، لم يُشعل حرباً عربية. كما أنه لم ينهِ العلاقات بين سوريا وجميع فصائل "منظمة التحرير الفلسطينية". لم تتدخّل إيران نيابة عن "حزب الله" خلال حرب "إسرائيل" (تصفية الحساب) في العام 1993، وحرب "عناقيد الغضب" الإسرائيلية في العام 1996، وحرب الـ33 يوماً على لبنان في العام 2006. خلال الوجود السوري في لبنان، لم تردع سوريا عمليات التحليق الإسرائيلية فوق لبنان، وقد شاهدت "إسرائيل" وهي تقصف البنية التحتية اللبنانية.

إن عدم رغبة إيران أو سوريا في مساعدة حلفائها اللبنانيين لم يمنع هؤلاء الحلفاء من الاستمرار في طلب المساعدة الإيرانية والسورية. فضلاً عن ذلك، لم تنتج الحرب الجوية السورية-الإسرائيلية في سماء لبنان في العام 1982 حرباً أوسع بينهما. كما أن تفجير مقرّ مشاة البحرية الأميركية في لبنان في العام 1983، لم يُعجّل بصراع واسع النطاق ضدّ سوريا أو إيران.

التصرف إقليمياً وتجاهل المحلي

حاليًا، لا يملك صُنّاع السياسة في الولايات المتحدة خيارات قابلة للتطبيق في حلّ النزاعات بين العراقيين واليمنيين والسوريين واللبنانيين والليبيين وغيرهم. إنها تمرين في العبث وإهدار لموارد الولايات المتحدة للمشاركة بعمق في المستوى المحلي لهذه البيئات السالفة الذكر. تزداد تعقيدات السياسات والصراعات اليومية في الشرق الأوسط، وخاصة في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا، بسبب الاستقطاب والاندماج.

لقد أدى تمزّق هذه المجتمعات بين جماعاتها وداخلها، مترافقاً مع التدخّل الخارجي، إلى مضاعفة عدد الجهات الفاعلة والمصالح المتورطة. الأمر الذي يجعل التسويات التي يتمّ التفاوض عليها أو تسهيل الاتفاقات السياسية صعبة بشكل لا يصدق لتحقيقه. على سبيل المثال، يستغرق تشكيل الحكومة العراقية وقتاً أطول، وقد أسفرت العديد من مؤتمرات القمة المتعلّقة بالصراع السوري فقط عن نتائج قليلة ملموسة وطويلة الأجل.

يحتاج صنّاع السياسة الأميركيون أولاً إلى مشاركة هذه الصراعات والتوترات السياسية على المستوى الإقليمي. يؤدي التدخل الخارجي إلى تفاقم الصراع والحالة السياسية عن طريق منع التسوية والحفاظ على المساعدات العسكرية. إن تقليل عدد الجهات الفاعلة الإقليمية المتورطة يُقلّل من عدد المصالح، الأمر الذي يُقصّر فترة الجمود السياسي والصراع. ثم تُلقى المسؤولية على الجهات الفاعلة المحلية لمعالجة الانقسامات والخلافات. هذا هو الطريق البناء الوحيد للتقدّم إلى الأمام، وإن كان بطيئاً للغاية وليس سلمياً تماماً. لم ينهِ "اتفاق الطائف" الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمسة عشر عاماً. كانت العزلة الدولية لجيش العماد ميشال عون وهزيمته من قبل الجيش السوري هما اللتان أنهتا الحرب.

يُمكن للولايات المتحدة تحقيق هذا الهدف من خلال مقاربة ذات شقين. ديبلوماسيًا يجب عليها أن تُعالج الانقسامات والخلافات مع حلفائها وبين حلفائها. يجب عليها أيضاً تقليص التدخّل الإيراني في هذه الأوساط من خلال الحفاظ على سياسة "الضغط الأقصى". إذا تمّ الإبقاء على سياسة الضغط القصوى، فستضطر الحكومة الإيرانية على نحو متزايد إلى الاختيار بين مواطنيها وحلفائها اليمنيين والسوريين والعراقيين. تظهر لمحات من هذا الأمر في إيران مع الاحتجاجات على ارتفاع أسعار الوقود.

إن العودة إلى الوضع في لبنان يُخفّف الهستيريا المحيطة بقرب نشوب حرب كبيرة في الشرق الأوسط. لقد أغفل روبرت مالي وآخرون فائدة لبنان لتشخيص وعلاج العديد من مشاكل الشرق الأوسط. إن لبنان مورد قيِّم وغير مستغلّ إلى حد كبير من قبل صانعي السياسة في الولايات المتحدة، لأن لبنان لديه تاريخ حافل بالديناميات والاضطرابات الحالية في المنطقة.

للأسف، فإن علاج المنطقة، من خلال مُقاربة لبنان، لا يُبشّر بأي طريق مثالي للتقدّم إلى الأمام. ستكون السياسات الفعّالة شاقّة وبطيئة ومؤلمة في بعض الأحيان. وعى غرار لبنان، لا يبدو أن المنطقة ستتخلّص من آلامها في أي وقت قريب.

 نقلًا عن مقال لإريك بوردينكيرشر، الباحث في مركز تنمية الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا.

ترجمة: نغم أسعد