بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 تموز 2019 12:05ص دُرّة عمر وتورّم الرؤوس

حجم الخط
محمود حطب*

المشكلة الكبرى تكمن في الكواليس المقفلة بإحكام، وخلف الأبواب الموصدة بإتقان، خشية استراق السمع لسقطات اللسان وأصوات النّشاز، فالمخفي يبقى هو الأعظم على الدوام، والمستور عن الأعين يحاكي العجب العجاب، ويثبت الخفّة والهوان.

انها مشكلة الوجهين والكيل بمكيالين، وهي تكاد تشمل كبار القوم وصغارهم، ولكنها محدودة المفاعيل والآثار، أما عن عليّة القوم والكبار ممن يتولّون القيادة ويمسكون بمقاليد الأمور، فانها تضع الأهلية على محك الشك والريبة، وتبعث مكامن حسن الفطن من النفوس وذروتها سوء الظنون بين التابع والمتبوع.

وهكذا كلما ازدادت الأهواء في القمة، عصفت الرياح في القاعدة، واتسعت الهوة، وكلما ظهرت الانحرافات في الأعالي ولاح الفساد في الرؤوس، فان البلاء يزحف الى الأبصار ويمتد الى القلوب «انها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور»، وعندها لا تستقيم المعالجة بتسكين هذا الوباء بالبلسمة والمهدّئات، انه بحاجة الى مشرط لإستئصال أصل الداء للحؤول دون انتشاره، وإلا عبثا كل المحاولات ويأسا كل الاجتهادات.

تناقض القول والعمل

يلحّ علينا هذا الكلام، ما نشهده من بعض المرجعيات ممّن هم في موقع القدوة ومنهجها «سددوا وقاربوا وقولوا للناس حسنا»، فلا نشهد سوى الرعونة التي تحلّ محل الحكمة والاستهتار والخفّة محل الرشد والرشاد، وما نسمعه من أخبار لا صلة لها بأخلاق الرعاة، ولا بمنهجية الأخيار، فكيف وهي تتجاوز حدود ما تعنيه الغطرسة ويتعدّى حجم فجورها كل ما ينتج عن الذي يتخذ إلهه هواه، والأدهى في هذه القيادات والمرجعيات، ان جموحها عن جادة الحق، وجنوحها عن الصواب يبرز صارخا، وينقله المحيطون وكل من تهيّئ أمامهم سبل الشاهدة والاستماع، وهم بطبيعة الحال من المرافقين والحرّاس وسدنة المنصب والمقام الأشدّ قربا وإلتصاقا، فهؤلاء بثقافتهم المحدودة وبسذاجتهم الفطرية كالأطفال ولو شاخوا وهرموا، وهم بمثابة الكاميرا اللاقطة، تنقل الصور بأحجامها والأصوات بنشازها ورنّة ذبذباتها، لذلك تتجلّى في هؤلاء أكثر ما تتجلّى أمثولتان، الأولى: «خذوا أسرارهم من صغارهم»، والثانية: «أكثر ما يفضح الأمير الخادمة والسائق والأجير»، وعلى الرغم من ذلك كله، يبقى لومهم من العقلاء مستحيل، وهم يقفون متراصين ويطلقون النفير افسحوا لأمير المؤمنين، ثم أوليس من يأكل مما يجبيه السلطان من المكوس وأموال الزكاة والصدقات يضرب بسيفه بعد أن سقط سيف الحياء.

من هنا وفي ضوء ما تضبطه العين وتنسلّ الى سماعه الآذان، فان صفحات الوجه المشرقة وافترار الثغور، ليست بحال هي العنوان، فإشراقة الوجنات تظهر على الدوام أمام جموع الناس وفي الاحتفالات، ولكنها ليست دليلا على طهارة القلب وعفّة اللسان، انها مشرقة لانها من مقتضيات عدة الشغل وأدوات تمويه الحقيقة التي باتت مكشوفة لا يسترها التواضع المزيّف ولا الرقّة المصطنعة ولا الابتسامة الصفراء.

أفلا تستدعينا هذه الازدواجية، وتلك المفارقات العجيبة الى استحضار سيرة الفاروق عمر والى استحضار دُرّته التي أوجع بها ظهور المنحرفين والمتكبّرين، وأنهال بها على أقفية الضالين والمنافقين. ان مجتمعنا بأمسّ الحاجة إليها لكي تلعب دورها في الرؤوس الوارمة تجبّرا وزهوّا لتقويم المعوجّ من صلف الممارسات ولتصحيح الخلل في النهج والأداء، فبصماتها على الأبدان، بل التلويح بها يحقق ما تعجز عن تحقيقه المزامير والآيات وأنواع القراءات، فدُرّة عمر بمقدورها أن تزيل هذه الأورام من الرؤوس وتنقلها من الغيّ والفساد الى التواضع والرشاد، ومن الاستخفاف بالضعفاء الى العدالة بين الرعية على السواء، ومن التفريط الى الالتزام ومن الإفراط الى الاعتدال.

هل نسينا تاريخ عمر؟!

ترى أين هم هؤلاء الرجال؟ أين نعثر من بينهم على القدوة التي تتجنّب الوقوع في براثين النفاق وآيته ثلاث: «إذا حدّث كذب وإذا وعد اخلف وإذا أؤتمن خان وإذا خاصم فجر».

وهيهات هيهات عن الرأي والنقد والنصيحة إذا خرجا من غير ذي المال والجاه، فمردودة ومتبوعة بالعزّةّ وبالاثم، «وإذا قيل له اتق الله أخذته العزّة بالاثم»، مع العلم بان و«رُبّ اشعث اغبر لو أقسم على الله لابرّه».

أوليس الأحرى والأجدر بنا جميعا وعلى قدم وساق أن نبحث عن اليد المؤهلة للإمساك بدرّة أمير المؤمنين عمر لما لها من فعل في الرؤوس، خصوصا في وجه ومواجهة من يدّعي القدوة والقدرة على حمل الأمانة، ويزعم انه يؤدّيها بحقها، أم اننا نسينا تاريخ عمر وتناسينا درّته وأثرها في الهامات التي تتهاوى وتمشي مرحا وتختال، ولو كانوا في عداد عليّة القوم وأبناء الأكرمين.

يرد هذا كله بدافع الغيرة على المهيمنين على شؤون الناس والقابضين على الزمام، ومن زور القول وزيفه انهم بما يتمتعون به من حصانة تجعلهم فوق النقد والحساب، فالحصانة لم تكن يوما سدا أو متراسا تحمي المسؤول من ألسنة الناس وغضب الناس وإنتفاضة الناس، والأمثلة كثيرة أمام ناظرينا وماثلة في الأذهان.

يرد هذا الكلام من منطلق الحرص على من يتولّى شؤون ورعاية المؤسسات والجمعيات الاجتماعية والتربوية والنقابية وصناديق البرّ والزكاة، ولماذا لهؤلاء بالذات، لانهم خلاف الموظف والأجير، نذروا أنفسهم للبذل من غير عوض، ووهبوا جهودهم حرصا على الأجر والثواب، لذلك فهم الأولى من سواهم في أن يكونوا في دائرة الرصد وتحت المجهر والحساب. أوليسوا أصحاب دعوة وحملة رسالة توجب عليهم التحلّي بقيمها والتخلّق بأخلاقها والإلتزام بمنهجها.

نعم نستذكر درّة عمر، وندعو الى استحضار وهجها من جديد، فهي جزء لا يتجزأ من شخصية عمر الفذّة، ومواقفه المشرقة التي أزهقت الباطل وأشاعت العدل وطردت عوامل الجبروت والقسوة من القلوب والطغيان من العقول، واجتثّت مكامن الأهواء والشهوات من النفوس.

درّة عمر، لم تكن إلا وسيلة متواضعة لا تقاس بأدوات البطش والتنكيل، ولا تقارن بما يملكه الطغاة من وسائل الاذلال وسفح الكرامات والتعذيب، وبات جميعه مسموح به للمستبدين (بنصوص شرعة حقوق الإنسان!!!)، أما قول عمر «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، فقد طواها النسيان في هذا الزمان.

درّة عمر رغم لينها ورقّة ملمسها، كانت أشدّ تأثيرا على الناس، لان العبرة لم تتجسّد بها، بل بهيبة العقل والرشد والحكمة البالغة وحسن التدبير، وموئلها العدالة العمياء التي لا تفرّق بين السيد والأجير ولا بين الغني والفقير، فاجتمعت بأمير المؤمنين، فكان بحق القدوة، فصحّ فيه، وهو ينام تحت شجرة من دون مواكبة ومرافقين، «عَدَلتْ فَأمِنْتَ فَنِمْتَ يا عمر».

ألا ليت ولاة أمورنا يستحضروا سيرة عمر، ويسترجعوا مواقفه ويعيدوا قراءة سجلّه الذهبي في الحكم والقضاء والسياسة، في الرقة والرحمة على الضعفاء، وفي الجرأة والبأس على الأقوياء، وفي التقوى والصلاح.

ألا ليتهم يستوحوا من شخصية عمر سمة التخفّي للوقوف على حاجات الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.

لقد سقط هذا كله من برامج وجداول أعمال الأولياء، لانها غصّت بلقاءات ذوي الجاه والسلطان والمال حتى سادت مقولة «لا رأي يطاع لغير هؤلاء...».

نحتاج الى درّة عمر والى فراسة عمر والى عدل عمر لان الكبرياء قد ورم في الرؤوس والانحراف قد ران على القلوب وانسلّ الخيلاء الى النفوس، وبهذا تكاد الأمانة تضيع وهيبة المسؤولية تترنح رغم كل مظاهر الأبهة وشكليات المواكبات والحراسات والاعلام المطهمة بالرموز والسمات والآيات.

وحسبنا أن يدرك الولاة هذا الواقع المرير، فالتجارب براهين قاسية لمن لا يتّعظ ولا يعي وخيم المآل.



* المدير العام للأوقاف الإسلامية سابقاً