بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 أيلول 2019 12:04ص عناية الإسلام بالمبدعين

حجم الخط
الشيخ د. يوسف جمعة سلامة*


يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ}، وجاء في كتاب صفوة التفاسير للصابوني في تفسير الآية السابقة: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ} أي يُعطي العلم النافع المؤدّي إِلى العمل الصالح مَنْ شاء من عباده، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} أي من أُعطي الحكمة فقد أُعطي الخير الكثير لمصير صاحبها إلى السعادة الأبدية، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الألباب} أي ما يتعظ بأمثال القرآن وحكمه إِلا أصحاب العقول النَّيِّرة الخالصة من الهوى.

من المعلوم أن اهتمام الإسلام بالموهوبين والمبدعين يأتي إنطلاقاً من إدراكه بأن الثروة البشرية هي الثروة الحقيقية  للأمة، وأن الأمة الناجحة هي التي تستثمر  في أغلى ما تملك ألا وهو الإنسان، فديننا الإسلامي الحنيف ينظر للموهبة على أنها عَطِيَّةٌ ونعمةٌ من الله سبحانه وتعالى، يجب على المسلم أن يؤدّي شكرها، ومن الجدير بالذكر أن أمتنا الإسلامية قد أنجبت عدداً من العلماء الأفذاذ في مختلف المجالات، منهم علماء فضلاء في علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والسيرة، كما أن التاريخ شاهد على إبداعات المسلمين العلمية، فكان منهم: ابن الهيثم، والرازي، وابن النفيس، وابن سينا، وابن رشد، والفارابي، وابن خلدون... وغيرهم كثير.

شهادات نبوية للمبدعين

لقد أثمرت المدرسة النبوية التي بدأت في دار الأرقم بمكة المكرمة في اكتشاف كفاءات كثيرة ومواهب متعددة لدى الصحابة الكرام  - رضي الله عنهم أجمعين –، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بن عفّان، وَأَعْلَمُهُمْ بالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبيٌّ بن كَعْبٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاح». وعند دراستنا للسيرة النبوية الشريفة نجد أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قَدْ رعى مواهب الشباب رعاية تامة وحَمَّلهم المسؤوليات الجسام التي يعجز عن حملها أعظم الرجال، فعليّ – كرّم الله وجهه - ينام في فراشه صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، وَيُوَلّي أسامة بن زيد - رضي الله عنه - جيشاً فيه أبو بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم أجمعين -، ويثق في قوة حفظ زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فيأمره بتعلّم العبرانية والسريانية فيتعلّمهما في أقل من ثلاثة أسابيع.

إصطفاء النبهاء

أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ زَيْداً أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، قَالَ زَيْد: (ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُعْجِبَ بِي، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا غُلامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ، بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَال: «يَا زَيْدُ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي»، قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ [لَهُ] كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ). لقد أبصرَ رسولنا صلى الله عليه وسلم ملامح الإبداع والذكاء المتوقّد عند زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، من خلال حفظه المتقن لسورٍ من القرآن الكريم ، فحضَّه – عليه الصلاة والسلام – على تعلّم اللغة العبرية، وبذلك يكون زيد – رضي الله عنه - قد تميَّز عن أصحابه من خلال نبوغه في علوم مختلفة.

تقدير عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - للنابغين

لقد اشتهر عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما – بفهمه للقرآن الكريم وتفسيره، حيث لُقِّب – رضي الله عنه – بحبر الأمة وترجمان القرآن، ومن أسباب نبوغه – رضي الله عنه - دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)، وملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم كما رُوِي عنه - رضي الله عنه - أنه قال: (ضَمَّنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: («اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ»، وفي رواية: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ»)، وكذلك ملازمته لشيوخ الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين – حيث كان ينهل من علمهم الفَيَّاض، وإحاطته - رضي الله عنه - بلغة القرآن الكريم اللغة العربية وفهم معانيها، مما ساعده على تَدَبّر معاني القرآن الكريم وتفسيره.

ومن الجدير بالذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان من أكثر الناس إعجاباً به - رضي الله عنه - تقديراً لعلمه ومكانته، حيث كان عمر – رضي الله عنه - يستفتيه ويعدّه للمعضلات، وكان يقول فيه:  (ابن عباس فتى الكُهُول، له لسانٌ سَئُولٌ، وقلبٌ عَقُولٌ)، كما كان يجلسه مع كبار الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين -، حيث اتخذه مستشاراً له وعمره وقتئذ خمس عشرة سنة، ومما يدل على علمه الغزير ما روى الإمام البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَ عُمَرُ  يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ منْ حيثُ عَلِمْتُمْ!! فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} - وَذَلِكَ عَلامَةُ أَجَلِكَ - {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاّ مَا تَقُولُ).

المـــرء بأصغريــه

لما اسْتُخْلِفَ عمرُ بن عبد العزيز – رضي الله عنه -، قَدِمَ عليه وُفُودُ أهلِ كلِّ بلد؛ فتقدَّم إليه وَفْدُ أهلِ الحجاز، فاشْرَأبَّ منهم غلامٌ للكلام، فقال عمر: مَهْلاً يا غلامُ ، لِيتكلمْ مَنْ هو أَسَنُّ منك، فقال الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين، إنَّما المرءُ بأَصْغَرَيه قلبهِ ولسانِه، فإذا مَنَح اللَّهُ العبدَ لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً، فقد استجاد له الحِلْيَةَ – استحق أن يتكلم -، ولو كان التقدّم بالسنّ لكان في هذه الأمة مَنْ هو أحقّ بمجلسك منك، فقال عمر: صدقت، تكلّم، فهذا السّحْرُ الحَلال، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفد التهنئة لا وَفْد الْمَرْزِئة، قدِمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي مَنَّ بك علينا، لم يُخرجنا إليك رغبةٌ ولا رهبة، لأنَّا قد أمِنَّا في أيامك ما خِفْنا، وأدركْنَا ما طلبنا؛ فقال: عِظْنا يا غلامُ وأوجِز، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنَّ أناساً غَرَّهم حِلْمُ الله عنهم، وطولُ أملِهم، وحسنُ ثناء الناس عليهم، فلا يغرَّنك حِلم الله عنك، وطول أملك، وحسن ثناء الناس عليك، فتزِلَّ قَدَمك. فنظر عمر في سنّ الغلام، فإذا هو قد أَتَت عليه بضعَ عَشرةَ سنة، فأَنشأَ عمر يقول:

تَعَلَّمْ فليسَ المرءُ يُولَدُ عالِماً         وليس أخو علمٍ كمنْ هو جاهلُ

وإنَّ كبيرَ القومِ لا عِلْمَ عنده        صغيرٌ إذا التفَّتْ عليه المحافلُ

إن الإسلام منذ أن أشرقت شمسه، ثورة على الجهل، ودعوة إلى القراءة والدراسة والعلم، فالإسلام دين لا يحمله إلا أمة واعية متعلمة، والله تعالى هو الذي خلق، وهو الذي علَّم، فالعلم يحتاج إلى التواضع والسكينة، والمواظبة والجدّ والاجتهاد، وهذا هو حال العلماء المسلمين – رضي الله عنهم أجمعين – عبر التاريخ.

فهذه دعوة لأبناء الأمتين العربية والإسلامية بأن يُقبلوا على العلم، فالعلم بحاجة إلى التضحية والصبر على نوائب الدهر، حتى يحصل الإنسان بجدّه واجتهاده على ما يصبو إليه، فبالعلم ترتقي الأمم، وبالعلم يحيا الإنسان، وبالعلم تتطوّر الشعوب، وبالعلم ينتصر الحق على الباطل، وبالعلم ينتصر المظلوم على الظالم، لأن العلم نور، والله نور السموات والأرض.

 * خطيب المسجد الأقصى