بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 شباط 2024 12:00ص الإبداع الفلسطيني هالة من الحضارة الساخنة

حجم الخط
شعب حيّ لن يذوب أو تمحى ذاكرته من خارطة الحضارات الساخنة التي تعرّضت إلى التهميش، والتي استطاع شعبها النضال بفعل العوامل الإبداعية الراقية التي تتحدّى بها الشعوب الأخرى في تأريخ ثقافي أصبح يمتلك من القدرات ما ينافس به الثقافات الأخرى، ليجعل من فلسطين حضارة عابقة بالفن والجمال، وبثورة علمية بدأت بتطوير القدرات على صعيد محلي، وبمهمات إنسانية تتضمن ثقافات الشعوب الأخرى والاندماج فيها. إذ تبدو الخطى المتسارعة في التقدّم الثقافي بكافة نواحيه ملموسة في مجالات عدة حيث يبدو الإبداع الفلسطيني هالة من الحضارة الساخنة التي تتحاور مع الثقافات الأخرى بعقلانية ووجدانية تتيح للبعض الاضطلاع على المخزون التراثي وأبعاده الجوهرية، والعوامل الذاتية والموضوعية التي تدفع إلى الإبداع الجدير بحل مشكلات فلسطين عبر الزمن، ولكن ضمن الفكر الوطني المرتبط بالهوية من الماضي حتى الآن.
لا ينحصر النشاط الإنساني عند الشعب الفلسطيني على الجهاد النضالي فقط، إذ بدأ بإلقاء الضوء فنيا على العديد من المواضيع المفتوحة ثقافيا على الشعوب الأخرى، لإضاءة المفاهيم الصحيحة التي حاول طمسها الكيان الصهيوني من قبل، فالتصوير الفوتوغرافي عند فناني التصوير الفلسطينيين لم يعد مجرد عدسة ضوئية تمنح المكان صورة للذكرى لا تخرج من الأراضي المقدّسة، لأن أبعاد الزمن القديم تغيّرت بفعل تطور الحضارات تقنيا، لتخرج الحضارة الفلسطينية إلى النور بقوة من خلال أعمال ثقافية تحمل التاريخ المحفوظ في الذاكرة كلها، كأعمال المصور الفوتوغرافي المعاصر «فادي عميرة» الممسك بعين فلسطين، ليرى العالم الأماكن الجميلة فيها والتي تعود الى الأرض المباركة بكل ما فيها من أماكن أثرية غارقة بآيات الله على الأرض مثل صورته الضوئية عن قرية جبرين أو المغارة الجرسية أو باب العامود، وحتى القدس، وبعدسة تتحرر من كل القيود لتضع حدودها الضوئية ضمن جمالية المكان لإظهاره إلى العالم، وكأنه يستولي على الأماكن ويؤرشفها في ذاكرة فلسطين وبمحاكاة فوتوغرافية واعية تستمد قوتها من فن يحافظ من خلاله على جدارة الصورة وقوتها في حفظ الحقوق، بل والتأثير على الرأي العام الذي يرى الأماكن الأثرية من خلال عدسة «فادي عميرة» الفوتوغرافية.
لا يمكن حصر الإبداع الفلسطيني في مقالة واحدة، لأن الموضوع متشعّب، إلّا أنه قادر على إلقاء الضوء على حضارة هالتها ليست ابنة الحاضر ليسلبوها المستقبل هي ابنة الماضي الذي يصعب محوه بعد القدرة الهائلة الذي استطاع من خلالها الشعب الفلسطيني جمع الحكاية من البداية حتى الآن عبر الفنون الإخراجية، والوثائقية والمادة الفيليمية، كفيلم «غزة تنادي» للمخرجة «ناهد عواد» التي اتقنت فن الإخراج ببساطة وعفوية، وضمن الواقع الاغترابي المعاش والنزعة الخبيثة في النفوس الإسرائيلية التي تمنع الخروج والدخول من وإلى غزة، إلّا ضمن شروط مستحيلة أحيانا يتعذر على الأم رؤية ابنها، إلّا من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وأيضا فيلم لو «أعرف ان النهر قد جفّ» الذي يبحث عن الحرية، لأن الحرية لا تكون إلّا على الأرض التي نحن منها حيث الانتماء الأقوى للوطن برغم كل القيود المفروضة من الإسرائيليين، فبعض الصور من الأرشيف تؤكد على انتهاكات حقوق الإنسان، ولو بلمحة بسيطة منها الطفل الذي يصرخ أمام الجندي الإسرائيلي. فماهية الفيلم تتجلّى في العناصر مجتمعة وبالفكرة المؤمن بها المخرج «عمر روبرت هاميلتون» لإيصالها بقالب تحفيزي يتشارك به معه ليبني الرؤية السينمائية بعاطفة يميل معها المتفرج ويتأثر وطنيا، مما يحقق دور الفيلم في استنتاج يحظى بعقلانية تسمح بالتفكر بحق العودة، فالانطلاقات السينمائية والاخراجية الفلسطينية لم تعد مخبوءة ولا هي تحت براثن الاحتلال، لأن الفلسطيني في كل مكان بات يحمل هويته وينادي بها ثقافيا وفنيا ومن خلال حرية الرأي والتعبير وحتى في محافل دولية وعالمية.
لا يمكن نسيان الأدب الروائي ولا القصصي ولا حتى الشعر الحامل لهموم بلد كل يوم هو ضمن أوجاع وآلام لا تنتهي، فالأدب المعاصر والشعر الحداثي انتشر في كل بقاع الأرض عبر أبناء فلسطين الذين يحلمون بالعودة وحتى من هم على أرض فلسطين، كهالة تضيء الأفق بشمس ملتهبة لا تخبو حرارتها، ولا يصاب شعبها بالملل أو الضجر من الحفاظ على توهج هالة الثقافة المضيئة لحضارة ما زالت برغم كل النكبات موجودة في كل عمل فني أو أدبي حرّ. إذ تبرز من الأعمال الثقافية بمجملها سمات الشعب العربي بشكل عام والشعب الفلسطيني بشكل خاص. إن المعطيات الفلكلورية والتراثية التي تظهر من المخزون القصص والفني هي جزء حيّ من العصور السابقة والحاضرة، والمحملة بايديولوجيات تتباين وترتقي عبر تعاضد فترات الزمن وتبدّلاته حسب المراحل الثقافية التي تكشف عن مكابدة الشعب الفلسطيني منذ بدء الاحتلال حتى الآن.
بقايا مشاعية يبني عليها الصهاينة أبنية بهندسة معمارية نوعا ما فلسطينية، ربما كنوع من مزج الهندسة المعمارية بفن يجمع بين القديم والحداثة، إلّا أن جدلية التاريخ المحصورة بالإرث التراثي لم تعد وحدها هي العنصر المقاوم فقط للإحتفاظ بهوية شعب يمتلك كنوزه التي تبدأ من الفن المفاهيمي التعبيري المتمسّك حتى بحبة الزيتون وشجرتها مثل أعمال الفنانة الفلسطينية «اريج لاون» ورمزية الكوفية وحبة الزيتون والقوة التي تعتمد على الإصرار في خلق إبداعي يميل إلى إظهار قوة شعب نبعت من طينته صورة فلسطين، وصولا إلى الفنان التشكيلي «عدنان يحيى» وما تجسّده المجازر في لوحاته من قيمة وطنية قبل الجمالية، وبأسلوب فني يجيد فن التأثر والتأثير لمن يرى لوحات سريالية تعبيرية، لواقع قاسٍ تعرّض له الشعب الفلسطيني بدرامية رسمها «عدنان يحيى» وفق معادلاته التشكيلية الباحثة عن حقوق الانسان المنتهكة خصوصا في فلسطين المحتلة، فالحضارات تعرف بثقافاتها المحافظة على التاريخ والحاضر من خلال الأدب والفن بكافة مجالاته وتنوعاته.
معاناة فلسطين من البداية الى البداية الآتية بصخب ثقافي يتجسّد في أعمال فنية فتحت أبوابها، لتحفيز الذاكرة على الاحتفاظ بالتراث الكامل لهالة تثير الحس الإدراكي للمعنى الوطني، لمدن لم تكسرها الصهيونية رغم الصعاب التي ذللتها للحفاظ على هوية ذات جذور عميقة في أصولها المنغرسة في فكر كل عربي بات يرى عملا إبداعيا لفكر فلسطيني يبحث وينقّب عن تاريخ يعيد له مجده، وعن ريشة ترسم وتحكي بالألوان حكاية فلسطين بكل تفاصيلها، وعدسة تؤرشف كل حدث يثري الذاكرة بما هو قادر على مخاطبة العالم بالعين والفكر والوجدان، وبوثائقي يحفظ كل حرب أو كل انتهاك لحقوق الإنسان، لتصبو الحضارة المتينة بهالتها التي تتوهج كلما أصابها ضعف أو وهن لتشحن نفسها بنفسها من خلال الابداعات العلمية والثقافية والأدبية، لتحافظ على كيان فلسطين كوطن تتوجه كل مدينة فيه بميولها التراثية والفلكلورية، وبوعي أبنائها الحاملين لفلسطين على أكفّ تضرّجت بشتى أنواع المحن والحروب، والتي خرجوا منها بثقافة توجهوا بها نحو العالم، وبلغات تعددت مصادرها، فابن فلسطين هو البارّ بوطنه أينما كان وفي أي بلد عاش فيه، لانه ابن فلسطين وسيبقى الحامل لعلمها بكافة ألوانه.