بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 آب 2020 12:04ص الإنطواء في الثقافة.. إنحدار إلى وادٍ سحيق (1/2)

أنطونيو غرامشي أنطونيو غرامشي
حجم الخط
شكَّل مَبحث سوسيولوجيا الأدب أحد المَباحث التحليليّة المهمّة في حقل الدراسات الأدبيّة في الغرب، عماده في ذلك أطروحات لفيف من الكتّاب، من أبرزهم جورج لوكاش وفالتر بنيامين وتيودور أدورنو وأنطونيو غرامشي وكريستوفر كودويل. وقد عُدّ هؤلاء الكتّاب من الآباء المؤسّسين لهذا التخصّص، لما تميَّز به جلّهم من منزعٍ نقديّ، حوّلوا من خلاله حقلاً إبداعيّاً إلى مجالٍ قابل للفحص والتحليل.
وعلى غرار تمدُّدِ المَدخل السوسيولوجيّ لِيشمل بالدراسة والبحث وقائع ذات طابعٍ مُفارِق مثل الظواهر الدينيّة، توجَّهَ مبحثُ سوسيولوجيا الأدب إلى تتبُّعِ مكوِّنات الحقل الأدبي، بحثاً عن إرساء جملة من المعايير والضوابط التي تحكُم سَيْرَ العمليّة الإبداعيّة، بعيدا عن الحُكم على جماليّتها أو فحواها. ولم يكُن التفحُّص متوجِّهاً إلى المنتوج الإبداعي في ذاته والحكم على جماليّته، بل مُعالجته كواقِعة فينومينولوجيّة ترصد المؤلِّف والمؤلَّف والمتلقّي.
الغيتو الأدبيّ
في فترة يشهد فيها المنتوج الروائي العربي فَورة لافتة، يبدو مجال الأدب في أمسّ الحاجة إلى تفحّصٍ عماده أدوات عالِم الاجتماع، يعضد دَور الناقد الأدبي، بما يسلِّط الضوء على خبايا العمل الأدبي. وإن اختلفت المقارَبتان السوسيولوجيّة والنقديّة من حيث تناوُل المنتو ج الإبداعي، فإنّ تكاملاً جليّاً بينهما، يذكِّر بتكامُل مقاربَتيْ التيولوجي والفينومينولوجي في تتبُّع الظواهر الدينيّة، أحدهما من الداخل والآخر من الخارج.
وفي ظلّ الأجواء العربيّة الرّاهنة الواقعة تحت ضغط الاستنفار الهائل، ثمّة حالة من الانطواء مُملاة على المُبدِع الأدبي تجرّه جرّاً نحو عالَم رموزه الضيّق، مشفوعة بانزواءٍ داخل حيِّزٍ جغرافي جهوي مُصطَنَع، ما أَفرز حالات اختناقٍ أدبيّة فعليّة. ولا شكّ أنّ ظاهرة الانطواء في الثقافة تأتي انعكاساً لأُفقٍ ضيّق يفتقد إلى رحابة الرؤية، يوشك فيه المناخ السائد أن يحوِّل الكاتِب إلى لسانٍ طائفي، لا يرى العالَم سوى من داخل دروب آلامه وأزماته. والخطورة أنّ ضيق الرؤية يولّد قيماً عقيمة، تعجز عن التعايُش مع الواقع الزاخر بالتنوُّع. فينحرف معها الفكر وتتحوّل فيها الثقافة إلى نُباح أيديولوجي داخل أسوار الغيتو، ويتراجَع المضمون الخُلقي للأدب، ليس بالمعنى الوعظي الساذج بل بمعناه السامي المُتعالي. وحين يهجر الكاتِب القيَم النبيلة والهموم الجماعيّة والحسّ الإنساني المُشترَك، من الهيِّن أن ينحدرَ الفكرُ نحو تغذية الانزواء، في مجتمع تخلّى عن قضاياه المصيريّة وصار يركن في مُعالجتها إلى أسلوبٍ مشوَّه مُغترِب. لذلك مع الانعزال الثقافي ثمّة خطورة لتحويل الأجناس الأدبيّة، والأدوات الثقافيّة، والمَنابر الإعلاميّة، إلى مقبرة للثقافة لا تنتج سوى أشباحٍ مشحونة بنرجسيّة مَرَضيّة. وبغرقِ الكاتِب في زهو الفئة المُختارة، يوشك أن ينقطع حبل التواصل مع الناس، ليغدو الخطاب ضيّقاً حرِجاً فاقداً لبُعده المُنفتِح الحاضِن للجميع. فيتحوَّل الأدبُ إلى ريبورتاجٍ أنثروبولوجي باهت يفتقر إلى القيَم المُشترَكة.
من هنا يبدو دَور المثقّف الحقّ في إخراجِ الرؤى والمَشاعِر والأذواق من ضيق المحدود إلى رحابة اللّامحدود، وعرْضِ طروحاتٍ مستجدّة في رؤية الذّات والعالَم؛ إذ يقَع الكاتِب أحياناً في شراك الانغلاق بدعوى الدّفاع عن الخصوصيّة والانتصار للهويّة، وهو في الحقيقة يُعلي من جدران الانزواء بما يقلِّص من قنوات التواصل مع المُغايِر والمُختلف، في ظرفٍ يستدعي أن يكون تواصُل المَشاعر والأفكار حاضراً بين المثقّف وسائر الخلق ضمن رؤية كونيّة شاملة. ولذلك لا يَكتب الكاتِب إلى قَومه وعشيرته، أو نحلته، حين يَكتب، بل يَكتب إلى عالَمٍ أرحب، وإنْ طرحَ مُشكلاتِ أفرادٍ أو قضايا فئاتٍ هُم مِن ذويه وأهله وأبناء جلدته، ومن هنا وجب التنبُّه إلى جدل العالَم الأصغر مع العالَم الأكبر. فمن ضمن هذا السياق يأتي إلحاح أنطونيو غرامشي على بناء قاعدة عامّة تكون بمثابة طوق النجاة للصلة الرابطة بين الثقافة والمجتمع.
صخرة الأيديولوجيا الجاثمة
لا مناصّ في ظلّ أوضاع القبض المُنافية للبسط، في المَشاعر والرؤى، من التدحرُج إلى هوّة الانحصار اللّغوي المتجلّي في تكريس العاميّة وإعلاء شأن الدّارجة تحت مُبرّرات عدّة، لتنتهي العمليّة إلى «قتلٍ رحيمٍ» للإبداع الأدبي. وفي الواقعَين الفرنسي والإيطالي الطافحَين باللّهجات واللّغات، كلّ عمليّة كِتابة خارج اللّسانَين الأوسع انتشاراً بين الناس، أي الفرنسيّة والإيطاليّة، هي تفريط في مزايا اللّغة الجامِعة التي هي ثروة عامّة ومُتاحَة للجميع.
وعلى العموم تخلق الثقافة المُنغلِقة رؤىً مُضلِّلة، معبِّرة عن شريحة متحكّمة تبحث عن ترويج أنماطها وقيَمها، متغاضيةً عن الثقافة العامّة وعن القضايا الجماعيّة؛ حيث يصرّ الفكر الانعزالي في فرْض رؤاه على الجموع ويُمعِن في إنسائهم همومهم الحقيقيّة، حتّى يُخرِج الجموعَ من قضاياهم ليتبنّوا قضايا غيرهم. فيرطن الحشدُ بلسانٍ غير لسانه، ويحلم أحلاماً غير أحلامه، وهو مستوى متطوِّر من الاغتراب في الوعي واللّاوعي. وعندها لا يجد المرء ذاته في ما تُنتجه الثقافة، فيستهلك أمراً واقعاً، بعيداً عن آماله وتطلّعاته، إنّها ورطة مجتمع متجليّة في أفراده.
(يتبع)
د. عز الدين عناية
أستاذ تونسي في جامعة روما