بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 حزيران 2023 12:00ص الروائية غادة خوري لـ«اللواء»: «لا أرى في مجتمعنا العربي واللبناني خصوصية من حيث الهموم.. فكلّ العالم مسلوب ويعاني من أزمة هوية»

الروائية غادة خوري الروائية غادة خوري
حجم الخط
مع تعدد الانتماءات تعددت السرديات وتضاربت الروايات لتخلق صراعات إنسانية وسياسية لفرض سردية بالقوة. هذا الضياع أدّى إلى تمزّق الوطن. وبما أن الهوية نتاج الثقافة التي تنتج بدورها السياسة، أرادت الروائية «غادة خوري» أن تقارب المجتمع القروي بشكل خاص، لأنه أساس في إنتاج القيم والمفاهيم التي تتسم بها هويتنا اللبنانية: قيم الانتماء والتمسّك بالأرض، المروءة، النخوة، التعاون والتكافل، العائلة، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية.. وبما أن الهوية تنمو وتنضج كأي كائن حي، حاولت «غادة خوري» في روايتها «طفلة الرعد» الصادرة عن «دار الآداب» أن تتقفّى الثقافة التي أنتجتها كل هذه المفاهيم وأسباب التحولات التي طرأت عليها فأنتجت الفرقة بدل اللُحمة، والصراع بدل التعاون، والرهبة من الآخر بدل اللجوء إليه بوصفه كتفاً اجتماعياً مسانداً... حاولت خوري رصد بذور هذا النمو في مرحلة تاريخية بدا فيها كل شيء على ما يرام كيوم صيفي مشمس رغم ما حصل في أواخر الستينات من نكبات وهزائم. أما رمزية الرعد فتتركها للقارئ/ القارئة حرية التأويل. في الرواية، حضور الرعد يدفع بأهل القرية إلى الانكفاء في بيوتهم وتقفر الساحات وينزل العتم باكراً ويسود الصمت. بالنسبة لبطلة الرواية، الرعد يرمز إلى ما ينقصها من قوة وتماسك ورهبة في صوتها المكتوم ضد أي خلل في مجتمعها. الرعد صديقها لأن حضوره يريحها من عيون أهل القرية التي توصمها بالنقص. وهنا أسأل من هو الإنسان الهش؟ الذي يخشى الرعد أم الذي يستجدي عونه؟ وتنفتح مسارات الرواية على أحداث أخرى تكشف الولاءات والانتماءات والتركيبة الطبقية التي تحكم سلوكيات هذه القرية الصغيرة. ولكن خلف كل ذلك هناك ثقافة تتبدى معالمها في كل سلوك وموقف. تعاطينا مع ظاهرة ما، مفهومنا عن الوطن، كيف وبماذا يكتسب حصانته ومناعته؟ ومن هو عدونا الحقيقي؟ ما الذي يستحق التضحية من أجله؟ وهل من سردية أقوى من أخرى؟ لماذا وما هي عناصر قوتها؟ سلطة الحق؟ أم سلطة القوة؟
مع الروائية «غادة خوري» أجرينا هذا الحوار:
{ تقدمين الأدب اللبناني المعاصر في رواية «طفلة الرعد»، الذي تم تقديمه باللغة الفرنسية لا العربية من قبل كتاب «أيام الزمن الفرنسي». ألا تخاطرين بقلمك ونحن في زمن ما بعد الحداثة والأدب المفكك إن صح القول؟
- الحداثة أو ما بعد الحداثة كما يطيب للبعض توصيف مراحل التاريخ المعاصر - مع أنني لا أتفق عميقاً معها - لا تعني التخلّي عن قضايانا التاريخية، ولا تعني أبداً القطيعة مع جذور أزماتنا التي لم تحل. هناك من يوظف مصطلحات مثل الحداثة ليبرر عجزه، أو في بعض الأحيان ليمرر أجندات ضارة. من أراد أن يكون حداثياً بحق، فليأتنا بحلول بنظرة حداثية ذكية، بدل أن يطالبنا بدفن رؤوسنا في الرمال. كل كتابة مخاطرة. لكنها ستكون أكبر لو أني لم أكتب هذه الرواية وأنا أرى أن لا شيء تغيّر منذ الزمن الفرنسي حتى اليوم وإن تبدّلت مسميات الأحوال. الواقع اللبناني لم يدخل في أي زمن جديد، حداثي أو ما بعد الحداثة. فترة السبعينات التي تتناولها الرواية ما زالت تنتج نفسها كل لحظة. غادرت لبنان في العام 2003 ولم أتمكن بعد من العودة الدائمة إليه كما خططت في ذلك الوقت، فدامت هجرتي 20 عاماً، وأشعر أنني ما زلت أحيا بيت الشاعر نزار قباني: «عشرون عاماً وأنا أبحث عن بيتي الذي هناك وعن وطني المحاط بالأسلاك». جاءت هذه الرواية كمحاولة مني لأفهم لماذا يجترّ تاريخنا نفسه، وكيف يلتهم الأحلام ويقوض مسار الاستقلال الحقيقي. لماذا ما زلنا نتخبط في الأزمات نفسها ولم نستطع أن نجترح أي حل لأي معضلة؟ لماذا نبتكر البدائل دائماً بدل القبض على جذر الخلل واقتلاعه من أساسه؟ ولعلني وجدت في التأتأة أفضل محاكاة للواقع اللبناني، واستخدمتها كرمز ليس لعاهة متأصلة فينا، بل لعادة كرّسناها في التفكير والأداء منذ ما قبل الاستقلال إلى اليوم.
{ التشدد القومي العربي انطلاقاً من تقاليد قروية لا يمكن الفكاك منها في الذاكرة اللبنانية تحديداً. لماذا الآن وما الذي ترعرع في ذاكرة غادة الخوري لتكتب بهذه الكلاسيكية الهادئة إن صح القول؟
- الهويات سواء كانت وطنية أو قومية ليست خياراً، ليست مجرد رداء نستبدله وقتما نشاء، إنها جوهر كياناتنا الثقافية والوجدانية وحتى الاقتصادية. وهناك فرق بين الانتماء الواعي للهوية التي تستوجب المشاركة والمساواة والمحبة، وتؤسس لعلاقات متكافئة سليمة مع الهويات الأخرى، وبين التعصب الأعمى لهويات مفترضة أو مفاهيم بديلة تسللت إلى وعينا فاحتلت مساحات الهوية الحقيقية. بالعودة إلى ما يحاك ضد أمتنا من مكائد ثقافية على وجه التحديد، سنفهم كيف أصبح الانتماء القومي العربي يسمى تشدداً كأنه نقيض «التقدم»، أو صار التقدم يستلزم بالضرورة انتماء هلامياً من دون عمود فقري. التعبير عن الانتماء القومي العربي بات صعباً في هذا الزمن وبات يحسب رديفاً للتخلف وهذه وصمة يلقيها علينا من يريدنا بلا هوية كي يشكّل هوية لنا ويلبسنا ثوباً لم نصنعه ويورّطنا في مشروعه. فمن تبرّع بهويته وأضحى بلا مشروع تحوّل إلى مشروع للآخر.
أما عن سؤلك لماذا الآن؟ فربما لأن ذاكرتي الأولى التي نمت في الحرب بقيت ككتلة من العجين تغذّيها خميرة الأحداث التي راحت تتلاحق لتعيد تشكيل الرغيف نفسه، بنكهات متنوعة من السموم الطائفية والطبقية. كان لا بد لي أن أكتب «طفلة الرعد»، ربما لأحاول تفكيك تلك الخيوط التي تشابكت مع الزمن فبات من المستحيل أن نتلمس أول الخيط، الذي تسبب في تعثر حلمنا بنسج وطن متماسك ومتناغم. فآثرنا الرتق والترقيع وإخفاء العيوب على تغيير الخيطان والإبرة وأسلوب الحياكة. 
{ غادة الخوري في روايتها الثانية ماذا تقول عن الأدب الروائي المختلط مع هموم عربية لا يهجرها أبداً؟
- لا أعلم كيف يمكن لأي روائي أن يكتب بمعزل عن هموم مجتمعه والزمن الذي يعيش فيه. لا أرى في مجتمعنا العربي واللبناني خصوصية من حيث الهموم. فكل العالم مسلوب ويعاني من أزمة هوية ومن الأوبئة والكوارث والهجرات والفقد والخوف من المستقبل. مع عولمة الأزمات تجلّت وحدة الهموم الإنسانية. لكن اختلافنا الوحيد هو أن لدينا فوق كل ما سبق ذكره، قضية فلسطين، وهي قضية القضايا. من يريد أن يتغاضى عن هذه الحقيقة فلينعم بأوهامه. لكن غسان قال لنا: «هي حرب واحدة تلغي كل الحروب». لو أننا فقط فهمنا ذلك بعمق، لاستطعنا تطوير ثقافة ثورية حقيقية تنعكس في كل أدائنا الاجتماعي والسياسي، ولكنّا اليوم في القدس وحيفا ويافا... ولكانت كل القضايا الأخرى والهموم، وجدت طريقها إلى الحل لأن الحرية إذا برعمت في فلسطين ستزهر في كل أرض عربية ولن نحتاج عندها إلى قضايا جزئية تعطينا فتات حقوق لا تسمن ولا تغني عن جوع إلى كرامة. «الهموم العربية» كما سمّيتها هي نتاج ثقافة سائدة أفضت إلى سياسات تقوض مسار التحرر الفعلي.
{ «الوطن كله اختطف يا صالح» كلمات اختصرت رواية بأكملها وأنت تعودين بنا إلى زمن القرى اللبنانية ودهشتها، لماذا الآن؟
- استعادة هذا الزمن ليست بدافع الحنين أو النوستالجيا ولا التغنّي «بالزمن الجميل». أحياناً أشعر أن ذاكرتنا تترنح بين لبنان عاصي الرحباني ولبنان زياد، ويحتار القلب إلى أين يميل. إلى تسكين الوجع ببلسم الحلم أم إلى فتح الجرح والسيطرة على النزيف أو القيح... كلنا متفقون أن «الوطن كله اختطف» ولكن هل اتفقنا على هوية الخاطف؟ هل سعينا إلى معرفة من هو؟ وهل بحثنا عن مساهمتنا في هذا الاختطاف؟ بين «سقى الله أيام زمان» و«عفا الله عمّا مضى» عجزنا عن بناء مجتمع جديد تحميه ثقافة ثورية حقيقية. في الرواية يتحدث صالح عن الأرض التي تحرد وتلفظ أبناءها إذا أساؤوا إليها. وضع اصبعه على البذور الفاسدة هو الفلاح الذي «لا يخاف على يديه من وحل الأرض» بقدر ما يخشى أن تتلوث موادها العضوية اللازمة لإنتاج سليم... ما استشرفه صالح في الرواية وما ختمت به بطلة الرواية رسالتها إليه، يحيلنا إلى إمكانية أن نكون كلنا خطفنا الوطن إلى زاوية من عقولنا التي تستريح إلى سردية تلغي كل ما عداها. أو لعل الوطن سئم التملك والاستلاب، سئم منا وفرّ هارباً من كل السرديات التي مسخت هويته وحاصرته بأسلاكها.