14 آذار 2023 12:00ص الزلزال تفتّح الركام

حجم الخط
هذا الذي ضرب في السادس من شهر شباط العام 2023، وجه الأرض في تركيا وفي سوريا، ليس زلزالا، ليس هزة أرضية، إنه تفتّح الركام، تفتّح الركاميات.
ألم تروا معي، على الشاشات، أو بعيون الذين حضروا ذلك اليوم المشهود، كيف يتفتح الركام وردا نبضا زهورا وجوها.. كيف يتفتح قامات، شلالات من أشلاء ودماء: تنهض، تسير، تتعثر، تحمل، تنقل، ثم تنبسط فوق الركام، أو في جوار الركام، عشبا يانعا، شجرا أخضر من جنان.
معجزة الركام، أن تحته أطباقا من الورد، قطوفا من سماء، تتفتح هي أيضا في الظلام. معجزة الركام، أن الوجوه التي تخرج من تحته، كلها جميلة، كلها عاشقة، كلها واعدة، كلها مجبولة بالزهور وبالورود، كلها مجبولة بالعطور، مغسولة بأجنحة الشمس، بأجنحة اليمام.
لم أرَ وجها، يخرج من تحت الركام، إلّا ويهتف له قلبي: تعال. كل الوجوه التي أقبلت نحوي، نحو عيني، كانت تؤوب إلى مخبأ في أضلعي، في الفؤاد. كانت تؤوب إلى قلبي، مرصّعة بأجمل حب، بأجمل دمعة حمراء سقطت من رقعة من سماء.
ما هذه الوجوه التي لها قدرة شق الركام عن زهور وورود، لم أرَ مثلها في حياتي، خرجت على عجل من تحت أنقاض، نفضت عنها غبار زمن كثيف من شدة الرعب، من شدة الدهشة والإنبهار. ما هذه الوجوه التي شقّت نفسها نصفين: وجها يتفتح للموت.. وجها يتفتح للحياة. ما هذه الوجوه المعجزة، التي لا تعرف الركوع، لا تعرف الخنوع، لا تعرف الرضوخ، مهما إستبدّ بها الحكام الركام.
 اليوم أقول أنا. أهتف أنا لنفسي، بنفسي: تفتّح الركام أخيرا عن ورد وحرية.. نبضت الأرض في فلقة معجزة، شقت نفسها فجأة، أخرجت ما في جوفها العميق العميق.. مثل إمرأة من العماليق، أحالت بنفثة، كل شيء إلى ركام. كانت البسمات تهرب من تحت إبطها الوردي، مثل أجنحة الفراشات، ترف فوق رموشها المرتجفة، مثل أجنحة السنونو، تتراقص فوق أغصان، فوق أسلاك، فوق أثير، فوق شهاب شق السماء.. تهتف لي، مقبلة من بعيد: لا شيء فوقي، لا شيء تحتي، يوقف فجأة، على بابي، هذي المسيرة.. مسيرة الحياة.
أية أسطورة، خلعت معطف الأرض عن منكبيها، نهضت من أتون عميق، تطفئ غضب الطبيعة: هلع البحر، هلعت شموس، هللت الكواكب، رنت الأجراس المعلقة في آذان النجوم، كلها كانت تحتفي مثل سمفونية مرتجلة على عجل، بقدوم الورود، بقدوم الزهور: قدوم فاجأ الأرض، في ربيع يسبق، خارج العادة، فصل الشتاء.
تعالي إذا يا طفلة خبأت ضحكتها مني، بكف صغيرة تحت الركام، حدّثينا عن الوجود، عن الوجوه، عن الأيدي، عن الصدور، عن الأعناق، تفتحت فجأة، وردا وزهرا، تحت شقوق الظلام.
خرس هم جميع الطغاة الآن، كانت تقول.. بكم هم جميع الجبابرة.. سلح الطير عليهم جميعا، سلح على جباههم، على عيونهم، في آذانهم.. ثم غز في الآفاق، يروي حكايا تفتّح الورد تحت الركام، مثل قدر تحت نار، خرجت من جوفها جميع زهور الأرض، رسمت وجوها لأطفال شعث، لأشلاء أطفال.. ثم توسدت سحابة، وغارت خلف غبار، غطى وجه الكون، في برهة، في لحظة، في ساعة، إنشقت فيها الأرض عن وجه، عن بسمة: قهقهت، كركرت، ثرثرت مثل ينبوع، يخرج من جوف صخرة عمياء: عيناها من نار وماء.
لا نقول للذين غابوا تحت الركام: الزمهرير، النار، السعير. بل نقول: جنان ورود وزهور وربيع يستمر في ربيع، ينبت من الجثامين الركام. لا نقول للذين غابوا: تلويحة الوداع، بل نقول: أنتم وعد الأرض التي إرتجفت لكم، في ثوانٍ.. زلزلت، إذ زلزلت، كل الجبابرة الطغاة، ماتوا وإن عاشوا، ماتوا، مهما بعدكم عاشوا. أنتم ثلم الركام الذي ينبت الورد والزهر، وهم سلح طير، زلزلتهم فزاعة الطير، في ثواني زلزلة. أنتم وجه الأرض، وهم آجلا أم عاجلا، إلى جرس الزوال.

أستاذ في الجامعة اللبنانية