بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 أيار 2023 12:00ص السطر الأخير في رحيل حسان حلاق

مؤرخ بيروت المحروسة د. حسان حلاق مؤرخ بيروت المحروسة د. حسان حلاق
حجم الخط
عرفت من رجال مقاصد صيدا الخيرية فيمن أتيح لي التعرّف إليهم، الرجل المثقف الذي يجمع في شخصه، إلى جانب الثقافة: الوطنية والعروبة والإسلام، عنيت الأخ الأستاذ المهندس محمد راجي البساط: الرئيس السابق لجمعية مقاصد صيدا الخيرية.
ذات صيف، تلقيت منه إتصالا هاتفيا، يتمنى مني أن أكون قارئا محكما، إلى جانب أخي وصديقي الراحل الأستاذ الدكتور حسان حلاق: (ولد في الطريق الجديدة - بيروت 1946. حائز على الماجستير - 1977. والدكتوراه من جامعة عين شمس - 1981. كتب في اللغتين: الإنكليزية والألمانية. عضو إتحاد الكتّاب لللبنانيين. حائز جائزة الإسكندرية التقديرية - 2007.متزوج وله صبيان وثلاث بنات. من مؤلفاته: ١- دور اليهود والقوى الدولية في خلع السلطان عبد الحميد عن العرش (1908-1909). 2- تعريب النقود والدواوين في العصر الأموي. ٣- دراسات في تاريخ لبنان المعاصر (1913- 1952). 4- تاريخ الشعوب الإسلامية. 5- موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية. أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية وفي جامعة بيروت العربية. عضو اللجنة الوطنية اللبنانية لليونيسكو عام 2003. عضو لجنة البحث العلمي في جامعة بيروت العربية - 2012. نائب رئيس جمعية البر والإحسان. نائب رئيس مجلس أمناء جامعة الإمام الأوزاعي الإسلامية. نشر سجلات ووثائق بلدية بيروت المحروسة. له أيضا حلقات ومقالات ومقابلات ومشاركات كثيرة في تاريخ بيروت، بالإستناد إلى دراسات المستشرقين والمؤرخين العرب والمسلمين. وفاته: 15/5/2023، بيروت).
أقول: كان إلى جانبي الراحل حسان حلاق، في تحكيم مشاريع السباق الثقافي التي أجريت لطلاب ثانوية المقاصد الخيرية بصيدا. فسارعت ورحّبت. كيف لا، وأنا إلى حفل ثقافي طلابي في مقاصد صيدا العزيزة على قلبي. كيف لا، وأنا إلى سيدين عظيمين: المهندس محمد راجي البساط، والأخ والصديق الراحل، رجل التاريخ الكبير: الأستاذ الدكتور حسان حلاق.
كان الصباح في صيدا، ذلك الصيف، منوّرا ومستنيرا. كانت نجومية، بل شموس الراحل الغالي، الأستاذ الدكتور حسان حلاق، تضرب قبة من ذهب، فوق ثانوية المقاصد الخيرية في صيدا، تضرب هالة من نور. كان أخي وصديقي الراحل إلى جانبي، وحولنا مجموعة من الأساتذة والمدرّسين والإداريين، وعلى رأسهم الأستاذ المهندس، محمد راجي البساط، يتوسط هذا اللقاء التحكيمي لمشاريع السباق الثقافية الطلابية، في التاريخ اللبناني والعربي والإسلامي، التي أجريت، ضمن النشاطات الصيفية، لطلاب ثانوية المقاصد الخيرية.
كان الدكتور حسان حلاق، نجم هذا اللقاء التحكيمي. كنت مسرورا جدا، أني إلى جانبه. أنهل العلم من مصادره الموثوقة والموثّقة. كان كريما جدا عليّ. أهداني مما كان يحمل معه من هداياه النفيسة، بعض كتبه التي ألّفها عن تاريخ بيروت المحروسة، خصّني بها. وأغرقني إلى ذلك، بمادة علمية تاريخية شجيّة، مكتوبة مرة وشفوية. أتيح لي أن أنهلها لأول مرة، من ينبوعها، من قلب الدكتور حسان حلاق الذي وسّعها، وأنا إلى جانبه، عند كل إستراحة، عند كل فرصة لديه، خلال سويعات التحكيم.
أتيح لي أن أمضي، نصف نهار بكامله، إلى جانب الدكتور حسان حلاق، في ثانوية مقاصد صيدا الخيرية. رأيت بعيني، كيف لا يهدأ ينبوعه الثقافي، عن التدفق ولو للحظة، حتى يجري السيل الذي لا ينقطع، عن التاريخ والجغرافيا، في لبنان.. في مدن لبنان: في طرابلس وبيروت وصيدا.
رأيت حسان حلاق بحق، وبأم عيني، كمثل كوكبة من أهل العلم والتاريخ، تحفر في التاريخ، تحفر في الجغرافيا، وتحفر في قلبي أيضا عذوبة التاريخ القديم والوسيط، وعذوبة التاريخ الحديث، كما تميط عنها اليوم مثل هذة الذكريات.
كان حسان حلاق، ليس مؤرخ بيروت المحروسة، وحسب، وإنما كان مؤرخ لبنان. وسع علمه جميع جنباته، فلم يدع زيادة لمستزيد. كان همّه الأول، أن يزيل عن وجه بيروت المحروسة، جميع الكتابات المغرضة. كان همّه أن يدلّنا على تاريخها المجيد.
ذات صيف في صيدا، كان لي مثل هذا اللقاء الجميل الذي أبكاني هذا الصباح، حين وقفت على نعيه المؤلم الحزين. تتبعت مقالة الأستاذ صلاح سلام عنه (رئيس تحرير جريدة «اللواء» الغرّاء) في: 16/5/2023، الصفحة الأولى، في العمود الأول. تتبعته.. مشيت معه بأنظاري اللهفى. كان الأستاذ صلاح سلام، يخفي دمعة الأسى والأسف، دمعة الفراق، دمعة الرحيل، دمعة الخسارة، حتى السطر الأخير. كان يمهّد لنعيه، خشية أن يفاجئ قلوب محبيه بالهول، ذات طيف ساحر.. ذات طيف سحري.
إنه بلا أدنى شك، لهول عظيم، أن يهوي عملاق التاريخ.. بل ربما، آخر عمالقة التاريخ اللبناني.
أشاركك يا أخي، أستاذ صلاح عمق فجيعتك، بهذا الغياب المفاجئ الذي لا يصدّق، للراحل الكبير: الأستاذ الدكتور حسان حلاق، مؤرخ بيروت، كما أسميته. وهو لكذلك بحق. ولهذا أراني أقرأ نعيه عندك، أستاذ صلاح سلام، كأنه السطر الأخير. كأنه من نوع النعي الذي لا يصدّق، ولا يريدنا أن نصدّق معنى الإختفاء عنا، معنى الرحيل.
كان راحلنا العظيم الذي ترجّل فجأة عن صهوة جواده، وبين يديه كل أضابير التاريخ، القديم والجديد، يطمح أن يرى بيروت، عاصمة الوطن، عاصمة البلاد، تحفة فنية، يحكي جمالها حدائقها وبحرها، وكل رصيف عتيق في ذاكرتها الجامعة لآمال وآلام الوطن، والمواطنين. كان يريد أن يصنع لبيروت تاريخها: مشهدية الجمال، لا يسيء إليها نقص في الإرادة ولا في الرؤيا وسعة الخيال. كان يرى بيروت من خلال مخيّلته وأبعاد ثقافته وعالمية رؤيته. كان يريد أن يزيّنها الجمال، بل أن يزيدها الجمال روعة، كما كانت لؤلؤة، تزداد ضياء على شاطئها اللازوردي الأزرق الجميل.
رحل الدكتور حسان حلاق، دون أن يحقق لبيروت آمالها، دون أن يحقق لنا آمالنا أيضا. فاجأنا موته هذا الصيف، تماما كما فاجأني قلبه الكبير ذات صيف. وأنا اليوم أعيش أخسر صفقتين: هول اللقاء لسويعات وكنت أريده طويلا طويلا، وهول الفراق السريع، الأخير. لقاء كان لسويعات حقا، وفراق تهال عليه رمال السنوات، سنوات البحث في التاريخ، ما أضاع من الوقت برهة هاربة.
كان الدكتور حسان حلاق، ذات طيف، دائما ابن بجدتها، يطوع اللحظة الهاربة، ويغرسها وردة الحب والمستحيل، تتفتح تحت كل هذا الركام.
ما أعذبك أخي د. حسان، أنت الذي أمضيت مشوار عمرك كله، تزيل عن صدر بيروت المحروسة، ما أهيل عليها من ركام، حتى أهيل عليك منه، ما كان دوما يضوع بين يديك عبقا من التاريخ، وأنت تذريه، لكل ريح.. فكنت وبيروت حبيبتك، عجالة من تاريخ.

أستاذ في الجامعة اللبنانية