بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تشرين الأول 2019 12:15ص «شامِل ومِرعي» (الحلقة الرابعة والأخيرة) مِسْكُ بعضِ «المَسْكوت عنه» وعَنْبَرَه من تاريخ لبنان الثقافي

محمد شامل محمد شامل
حجم الخط
لقد بات واضحاً، أنَّه مِنَ المُجْحِفِ بحقِّ الثَّقافة الوطنيَّة، بل ومن المُعيبِ المَعْرِفيِّ العِلْمِيِّ، أن تظلَّ هذه الجهود، التي قام بها مُحمَّد شامل الغول وعبد الرَّحمن مرعي ورفاقٌ كثرٌ لهما، منذ منتصف عشرينات القرن الماضي وحتَّى مطلع ستيناته؛ وما رافق تلك الأعمال والنَّشاطات من عذابات الرِّيادة ومغامرات التَّجريب، قابعةً في الوجدان المعرفيِّ ضمن «المسكوت عنه» و«المُتجاهَل» أو «المُغْفَل»، بل وأحياناً «المرذول» أو حتَّى «المُسْتَهْزَأ به»، من تاريخ الوطن.

لعلَّ من أبرزِ أصحابِ هذه الجهود، «المسكوت عنها»، وقادة هذه الرِّيادات، المُغَيَّبُ ذِكرها، على سبيل المثال وليس الحَصْرِ على الإطلاق، ما قام به الأستاذ «أحمد دِمَشْقِيَّة»؛ وقد كان أَحَدَ أعلامِ الصَّحافَةِ، تحريراً وإنشاءً، ومن مُؤسِّسي النَّهضةِ المسرحيَّة، تأليفاً للنُّصوصِ وترجمةً لبعضها، ومن أركانِ العملِ الإذاعيِّ؛ وهو أيضاً والدُ الباحثِ اللغوي والأستاذ الجامعي المرحوم الدكتور «عفيف دمشقيَّة». ومن أصحاب هذه الجهود المُغَيَّبة الأستاذ «رشاد العريس»؛ الذي كان، فضلاً عن نشاطاته التًّأسيسيَّة في المجال المسرحي، من أبرز اختصاصيِّ التًّربية والتَّعليم المُجدِّدين في لبنان؛ إذ كان من مؤسِّسي مدرسة «بيت الأطفال»، في مدارس «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»؛ بل كان المشرف الأوَّل على هذه المدرسة، التي أصبحت واحدة من أهم المؤسَّسات التَّعليميَّة والتَّربويَّة النَّموذجيَّة للأطفال في لبنان، وباتت تُعرف في الأوساط العامَّة باسم «مدرسة بابا رشاد».

يضاف إلى كل هذا، أن من يبحث برويَّةٍ في تاريخ المسرح في لبنان، سيجد أنّ ابن بيروت، «رائف فاخوري»، كان مؤسّساً لفرقةٍ تمثيليّةٍ مارست نشاطاتها منذ منتصف العقد الأول من القرن العشرين؛ وكان من أعضائها «بيارتةٌ» منهم، «وجيه فاخوري» و«محمَّد المَسالِخي» و«محمود عيتاني» و«عمر الزّعني» و«محمَّد الصّانِع» و«عبد الحميد عيتاني» و«عفيف بَيْهُم» و«عَوْن غندور» و«خليل زَنْتوت» و«بهاء الدِّين الطبّاع» و«فَوْزي الدّاعوق» و«سعد الدِّين قباني» و«عبد الرَّحمن طيّارة». كما سيجدُ هذا الباحث، كذلك، أنّ بيروتيّاً آخر، هو «علي العريس»، وقد اشتُهِر باسمهِ الفنِّيِّ (علي مُوْمنَة)، قد أنشأ، سنة 1936 فرقة مسرحيّة تخصّصت بالمسرحِ الاستعراضيِّ، وتألّفت هذه الفرقةُ من زهاء 72 شخصاً، واستقرّت مدّةً طويلةً في «ساحة البرج»، وتحديداً في ما عرف يومذاك بــ «مسرح نادية»، في تلك المرحلة، («مسرح فاروق»)؛ وكان برنامجها يتغيّر أسبوعياً. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فـلـ «علي العريس» نشاطات رائدة، مغيّبة، في مجال السينما اللبنانية وفنّ الديكور؛ ولا يمكن للمرء إلاّ أن يذكّر أنّ «العريس» قد يكون أوَّل مخرجٍ سينمائيٍّ لبنانيٍّ؛ إذ أخرج سنة 1943 فيلم «بيَّاعة الورد» وفيلم «كوكب أميرة الصحراء» سنة 1946؛ كما أنَّ ما هو قائم لليوم، من زخارف تشكيليَّة لونيّة في بهو «دار الإفتاء» في بيروت، وعند مدخل «الجامع العُمَريِّ الكبير»، هو من صنع «علي العريس». وثمّة بيروتي لامعٌ آخر، لكنه، أيضاً وأيضاً، من بين مجموعة «المسكوت عنه» هذه؛ إنَّه «عبد الحفيظ محمصاني»، الذي كان من المربِّين المرموقين في مدارس «جمعيّة المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت»، وقد شارك في النَّشاط المسرحي، خلال حقبة الثَّلاثينات والأربعينات من القرن العشرين؛ وألَّف أكثر من فرقة مسرحيَّة؛ وكان، من بين ممثلي فرقه «رشيد علامة» و«سليمان الباشا»، وقد صارا من كبار أهل المسرح والتَّمثيل في لبنان.

من هذا كله، يمكن الانتباه إلى خمس ملاحظات أساس:

1) تؤكِّد هذه الجهود على أنّ ثمّة حركة مسرحيّة كبيرة وناشطة، كانت تجري في لبنان؛ وأنَّ عدداً لا بأس به من مثقَّفي بيروت وأبنائها كانوا من أبرز النّاشطين في هذا المجال؛ وفي هذا ما يؤكِّد أساسيّة الدّور الذي قام به أبناء بيروت في دنيا المسرح في لبنان.

2) يشيرُ كون ناس هذه الفرق المسرحيَّة، من مؤسسين لها وممثِّلين فيها، ينتمون إلى معظم العائلات البيروتيَّة المشهورة؛ وكون قسماً، لا بأس به، من هؤلاء الأشخاص كان من أعضاء «جمعيّة الكشاف المسلم»، كما كان من بينهم المربُّون المشهورون في كبريات المؤسَّسات التَّربويَّة في بيروت، وخاصة مدارس «جمعية المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة»؛ أنّ الإقبال على النَّشاطات المسرحيّة وممارستها، كان أمرا مقبولا من النّاحية الاجتماعيَّة في بيروت، بل كان، على ما يظهر، أمراً مرحبَّاً به؛ ولا يغيبنَّ عن البال، أبدا، أنَّ «محمَّد شامل» كان، كذلك، من مربِّي المقاصد، إذ تولّى إدارة إحدى مدارسها، في منطقة «عين المريّسة»، لردحٍ طويل من الزَّمن.

3) يشير الواقعُ الحاصلُ اليوم، إلى أنَّ هذه الجهود المسرحيّة ما برحت مغيَّبة عن الدَّرس العلميِّ الرَّصين، وقلّ من عمل على الانتباه إليها وتحليلها وتثمينها.

4) إنَّ في هذا ما يؤكد على خطأ في بعضِ التَّوجُّهات السَّائدة حالياً، والقائلة بأن المسرح في لبنان ازدهر بدأً من ستِّينات القرن العشرين؛ فالمسرح المعاصر بدأ في لبنان مع «مارون النقّاش» في القرن التَّاسع عشر، وترعرع وازدهر وانتشر مع هذه النُّخّب من أبناء بيروت، في النّصف الأوَّل من القرن العشرين، ثمّ شهد منعطفا «ثقافيّا» في مسيرته منذ ستِّينات القرن المنصرم.

5) إنَّ في هذا كله ما يشدد على مصداقيَّة ِالتَّوجُّه النَّقديِّ الذي يذهب إلى أنَّ «المسرح أمرٌ مديني»؛ بل هو أمرٌ شديد الارتباط بالمدينة وناسها ومفاهيمها وقيمها.

لا بدّ من إعادة نظر حقيقيّة وموضوعيّة مسؤولة في هذه المحطَّة الثقافيَّة من تاريخ لبنان؛ ولا بدّ من إعادة اعتبار وتقدير لكثير من النّاس الذين جرى إهمالُ وجودهم والتَّغاضي عن منجزاتهم، والسكوت عن كثير من المفاهيم التي غيّبت أو زوّرت من تاريخ لبنان الثَّقافي ومن حقيقة فاعليّة دور مجتمع بيروت في مجال الفنّ المسرحي، في الحقبة الممتدّة من مطلع القرن العشرين وحتّى منتصفه. ولا بدّ، ضمن إعادة النَّظر هذه، من دراسة متأنِّيَة وأكاديميّة موثّقة لجهود الرُّواد الحقيقيين للمسرح في لبنان؛ وخاصّة لـ «محمَّد شامل»؛ الذي بدأ نشاطه منذ العقد الثَّاني من القرن العشرين، وتابع هذا النَّشاط، بعد أن توقَّف آخرون من زملائه. فـ «محمَّد شامل» هو الاستمرار الحقيقي لكلِّ الجهود، التي قدّمها المجتمع البيروتي وأبناؤه، في مجال المسرح في لبنان؛ وهي جهود طال زمان تغييبها، حتّى بات التّغيب وكأنَّهُ فعل تشويهٍ مقصودٍ للواقِعِ والحقيقةِ وتزويرٌ لهما.



  رئيس المركز الثقافي الإسلامي