بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 نيسان 2020 12:00ص «عمر فاخوري» (الحلقة الأولى)

مِن «مدرسة الشَّيخ عيسى كتُّوعة» إلى «الكليَّة الإسلاميَّة العُثمانيَّة»

تلامذة الكليَّة العثمانيَّة وبعض أساتذتها.. «عمر فاخوري» في الدائرة،  وإلى يمينه «عمر الزعني»، و«عمر حمد» خلف الكتف اليسرى لـ «عمر فاخوري» تلامذة الكليَّة العثمانيَّة وبعض أساتذتها.. «عمر فاخوري» في الدائرة، وإلى يمينه «عمر الزعني»، و«عمر حمد» خلف الكتف اليسرى لـ «عمر فاخوري»
حجم الخط
وُلِدَ «عمر فاخوري» يوم الأحد الواقع فيه 15 سبتمبر 1895م.، وهو الابن البكر لوالده «عبد الرحمن»، ووالدته «عائشة بنت محمَّد التَّعباني»؛ أمَّا ولادته، فكانت في محلَّة «الشيخ رسلان» في بيروت القديمة. ويبدو، ممَّا يذكره أهل التَّاريخ، أنَّ هذه البقعة، والتي تقع ضمن ما كان يشكِّل أسوار مدينة بيروت، كانت منطقة تختلط فيها مساكن العائلات بمحال التِّجارة على حدٍّ سواء؛ وكان لوالد «عمر فاخوري» فيها، دكَّانٌ لبيع التَّوابل والبهارات. 

أُدخِلَ «عمر فاخوري»، في أولى سنوات العقد الأوَّل من القرن العشرين، «كُتَّاب المعلم عيسى كَتُّوعَة»، الذي لم يكن موقعه ليبعد كثيراً عن مسكن أهل «عمر»؛ إذ كان هذا الكُتَّابُ يقع في محلَّة «الحَدرة»، إلى الجنوب من «الجامع العُمري» في بيروت. وكان الشيخ «عيسى قاسم كتُّوعة» قد أسَّس مع صديقه «محمود فرشوخ»، في سنة 1895، مدرسة باسم «المدرسة الوطنيَّة الإسلاميَّة». ووفاقاً لما يذكره الأستاذ «عبد اللطيف فاخوري»، في كتابه «محمَّد عبد الله بيهم - الصَّارخ المكتوم»، الصادر سنة 2008، فإنَّ هذه المدرسة اشتُهِرَت، بين أهل بيروت، بإسم «كُتَّاب الشَّيخ عيسى كتُّوعة». ويذكر الأستاذ «يوسف المرعشلي»، في كتابه «نثر الجواهر والدُّرَر في علماء القرن الرابع عشر»، الصادر سنة 2006، إنَّ الشيخ «راشد عليوان»، وهو المربّي البيروتي وأستاذ العلوم الدينية واللغويَة، الأكثر شهرةً فيها في النصف الأول من القرن العشرين، كان من أعضاء الهيئة التَّعليمية في هذه المدرسة. ويبدو أنَّ «مدرسة الشَّيخ عيسى كتُّوعة» احتلَّت مكانة طيِّبة في تعليم أبناء بيروت؛ إذ كان للشَّيخ «عبد الله العلايلي»، وفاقَ ما حقَّقه الدكتور «حسن صعب»، في كتابه «شخصيَّات عرفتها وأحببتها»، الصادر سنة 1990، أن يلتحق هو الآخر، في سني طفولته، بهذه المدرسة؛ بعد سنين عديدة من التحاق «عمر فاخوري» بصفوفها.

انتقل «عمر فاخوري»، في السنوات الأخيرة من العقد الأول من القرن العشرين، للدراسة في «الكليَّة العثمانية»؛ التي أسّسها الشيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، سنة 1895، بالاشتراك مع «عبد القادر مصطفى قبَّاني»، رئيس بلديَّة بيروت وصاحب صحيفة «ثمرات الفنون». كان من رفاق «عمر فاخوري»، في تلك الكليَّة، من اشتهروا، لاحقاً، بصفات وأسماء أَثْرَت الثَّقافة والأدب والسِّياسة في لبنان؛ ومن هؤلاء «شاعر الشَّعب» عمرالزّعنِّي، و«الشاعر الشَّهيد» عمر حَمَد، و«الرَّائد الكشفي» بهاء الدِّين الطبَّاع والمفكر العروبي» عبد الغني العْرَيّسي و«الطَّبيب» مليح سنُّو و«الشاعر والصحافي» معروف الأرناؤوط. ولم تكن «الكليَّة العثمانيَّة»، عهدذاك، مجرَّد معهد تدريسٍ رفيع المستوى؛ إذ كانت، في الوقتِ عينه، ورشة عمل وطنيَّة ناشطة. ويبدو أنَّ كثيراً من العاملين في هذه الكليَّة، كانوا ينشطون وطنياً، مع مجموعات من طلاَّبها، لصالح مبادئ «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة».

تأسَّست «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة» في بيروت، إثر اجتماع عام انعقد في مقرِّ بلديَّة بيروت؛ شارك فيه ثمانية وأربعون من أعيان المدينةِ ووجهائها، من مسلمين ومسيحيين ويهود، وكان منهم أصحاب أملاك وتجَّار ومحامين وصحافيين. أنبثقت عن هذا الاجتماع «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة»؛ وحُدِّدت مهامها بالعمل في سبيل إصلاح أوضاع الولاية. كان من أبرز اهتمامات هذه الجمعية، كما يشير كتاب «السلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي»، الصادر سنة 1988، لوجيه كوثراني، المطالبة بـاعتماد «اللامركزيَّة» في تسيير أمور الولايات العثمانيَّة، ضمن الحكم العثماني؛ واعتبار اللغة العربية اللغة الرسمية داخل الولايات العربيَّة، على أن تبقى اللغة التركية قائمة فيما يخص المراسلات الرسمية مع اسطنبول. ووفاقاً لما يذكره «نجدة فتحي صفوة»، في الفصل الثَّاني ‎مِن كتابه «هذا اليوم في التَّاريخ»، الصادر سنة 2016، فإنَّ هذه الجمعية كانت بقيادة نخبة من أعيان بيروت ومثقَّفيها، منهم «سليم سلام» و«مختار بيهم» والشَّيخ «أحمد طبَّاره». ويشير نجدة فتحي صفوة، ههنا، إلى أنَّ هذا التَّأسيس تزامن، بطريقة أو أخرى، مع تأسيس «جمعيَّة اللامركزيَّة» في القاهرة أواخر سنة 1912؛ وقد تزَّعمها مجموعة من السوريين واللبنانيين ممن كانوا يقيمون في مصر، منهم «رفيق العَظم» والشيخ «محمَّد رشيد رضا» و«اسكندر عمُّون» و«محب الدِّين الخطيب» و«نايف تللُّو» و«سليم عبد الهادي».

يرى بعض الدَّارسين، ومنهم «نايف عبد نايف الجبُّوري»، في الصفحة 243 من كتابه «موقف نصارى بلاد الشَّام من الاصلاحات في الدَّولة العثمانيَّة»، الصادر سنة 2011، أنَّ تأثير الدول الأجنبيَّة كان واضحاً في هذه الجمعيَّات وأمثالِها؛ إذ يشير إلى توجُّه مجموعة، منها «ميشال تويني» و«بيار طراد» و«خليل زينيه» و«رزق الله أرقش» و«يوسف الهاني» و«أيوب تابت»، إلى القنصل الفرنسي في بيروت «مستعيدين» مطالبة للجمعيَّة بالاستعانة بمستشارين أجانب في تطوير السُّلطة المحليَّة في البلاد.

إنَّ الجمعيَّات العربيَّة التي كانت تنادي بـ «اللامركزيَّة»، وفاق ما يشير إليه «علي الوردي» في الصفحة 237 من الجزء الثالث من كتابه «لمحات اجتماعيَّة من تاريخ العراق الحديث»، لم تواجه في البدء، معارضة من إدارة الحكم العثماني في اسطنبول؛ ولكن ومع وصول جماعات «حزب الإتحاد والتَّرقِّي»، يوم الخميس، الواقع فيه 23 كانون الثاني 1913، إلى الإمساك الفعليِ بمقاليد السلطة في الدَّولة العثمانيَّة، وهم المعارضون لمبدأ «اللامركزيَّة» والمتمسِّكون بخضوع جميع شعوب الدولة العثمانية لمبدأ تتريك السلطة قاطبة؛ فإنَّ مساعٍ عديدة ومتنوِّعة، للحدِّ من انتشار الدعوة إلى «اللامركزيَّة»، بدأت تتنامي بسرعة.

ظلَّت مجموعة من ناس «الكليَّة العثمانيَّة» تنشطُ، بطرق عديدة ومتنوِّعة، سرَّاً وعلانِيَةً، لصالح «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة». كانت «الكليَّة»، زمنذاك، ورشة عمل لا تهدأ، في سبيل تأييد الدعوة إلى «اللامركزيَة»؛ إذ تعقد فيها الاجتماعات وتلقى من على منبرها الخطب ويعمل ناسها على نشر المقالات ونظم القصائد. وكان، «عبد الغني العريسي»، الطَّالب في المراحل المتقدِّمة والأستاذ لتلامذة المراحل الأدنى والمساعد الإداري في «الكليَّة»، مِن أكثر أفراد هذه المجموعة انتشاراً؛ إذ أتيح له أن يصدر، سنة 1909، مع صديقه «فؤاد حنتس»، صحيفة «المفيد»، وقد كانت منبراً بارزاً لأفكار الإصلاحيين وتوجهاتهم.

كانت السلطة الرَّسميَّة للدولة العثمانيَّة مناطة، يومذاك، بالوالي العثماني «أبو بكر حازم بك». ويذكر لهذا الوالي، وفاقاً لما يرد في الفصل الثاني من كتاب «سِيَرِ عشر جامعات حكومية عربيَّة»، الصادر لمجموعة مؤلفين عن منشورات «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في بيروت سنة 2018، أنَّ والي بيروت «أبو بكر حازم بك»، (1863-1947)، (Ebubekir Hâzım Tepeyran)، اقترح، سنة 1912، على وزارة المعارف العثمانيَّة نقل «مدرسة الحقوق» من «قونيه» إلى بيروت. وقد افتتحت «مدرسة الحقوق» رسمياً في بيروت سنة 1913؛ بعد أن انتقل إليها طلاب فرع الحقوق في «دار الفنون» من «اسطنبول»؛ وبلغ عدد طلابها خمسة وستون طالباً؛ إذ ضمَّت أربعة صفوف، وكان عدد أساتذتها أربعة عشر أستاذاً من أتراك وعرب.

سعت سلطة الاتِّحاديين في بيروت، إلى مناهضة نشاطات «جمعية بيروت الإصلاحيَّة»، وعمدت إلى تعقُّبِ كل من يمكنها تعقبه أو مضايقته من ناسها. ولذا، فإنَّ والي بيروت العثماني، «أبو بكر حازم بك»، أصدر يوم الثلاثاء، الواقع فيه الثامن نيسان سنة 1913، ووفاقاً لما يرد في صفحة 151 من كتاب «مذكرات سليم علي سلام» (تحقيق حسان حلاَّق، سنة 2013)، قراراً منع بموجبه «الجمعيَّة» من عقد أيِّ اجتماع لها؛ ولم يلبث أن أصدر، في اليوم التَّالي، الأربعاء، الواقع فيه التاسع من نيسان سنة 1913، ووفاقاً لما يرد في كتاب «السلطة والمجتمع»، قراراً يقضي بإيقاف نشاطات الجمعيَة على الإطلاق.

سبق لـ «عمر فاخوري» أن نشر في جريدة «المفيد»، عدَّة مقالات له وبإسمه الصَّريح؛ دعا فيها إلى نهضة العرب وتعزيز وجودهم الثقافي والحضاريِّ؛ ثمَّ كان أن جمعت هذه المقالات، سنة 1913، وكان «عمر فاخوري» في الثامنة عشرة من عمره، في كتاب صدر عن «المكتبة الأهليَّة» في بيروت بعنوان «كيف ينهض العرب»؛ كما حمل غلاف الكتاب دعوة واضحة وجليَّة، وقَّعها بالأحرف الأولى لاسمه (ع. ف.)؛ تقول «لا ينهض العربُ إلاَّ إذا أصبحت العربية أو المبدأ العربي، ديانة لهم يغارون عليها كما يغار المسلمون على القرآن الكريم، والمسيحيون الكاثوليك على إنجيل المسيح الرحيم، والبروتستانت على تعاليم «لوثر» الإصلاحية، وثوريُّو فرانسا في عهد «الرعب» على مبادئ «روسو» ويتعصبون لها تعصب الصَّليبيين لدعوة بطرس الناسك».

أثار صدور هذا الكتاب غضب الوالي، «حازم بك»؛ إذ رأى فيه تحدِّياً صريحاً لأوامره القاضية بوقف كل ما يمتّ إلى رؤية «اللامركزيَّة»، التي عرفت «جمعيَّة بيروت للإصلاح» بها، بأيَّة صلة كانت؛ فأمر بمصادرة نسخ الكتاب وإلقاء القبض على مؤلفه. كما تعرّضت للإغلاق سنة 1913، بسبب الحرب العالمية الأولى؛ وتم نفي الشيخ «أحمد عباس الأزهري»، من قبل الاتحاديين الأتراك إلى اسطنبول، بعد اتهامه بتحريض على الباب العالي. وحصل، في السنة عينها، ووفاقاً لما أورده ناجي علُّوش، في الصفحة 29 من كتاب «مختارات المفيد»، الصادر سنة 1981، أنَّ عمر حمد، وكان زميلاً لـ «عمر فاخوري» في «الكليَّة»، نشر في «المفيد» قصيدة له عنوانها «سقوط الظالمين»، ندَّد فيها بزعماء «حزب الإتحاد والتَّرقي» ونزعتهم الطُّورانية المناهضة لمبدأ «اللامركزيَّة». ونتيجة هذا، وكما يذكر في الصفحة 131 من «ديوان الشهيد» عمر حمد، الصادر سنة 1969، فقد أصدر ديوان الوالي العثماني في بيروت، قراراً قضى بتعطيل «المفيد»؛ كما قضى بمحاكمة عمر حمد غيابياً، لعدم تمكن الشرطة من القبض عليه، والحكم بسجنه غيابياً لمدَّة سنتين. ومن هذا القبيل، فإنَّه صدر في السنة عينها، سنة 1913، ووفاقاً لما يشير إليه حسَّان حلاَّق في الهامش الأول من صفحة 122، من كتاب «مذكرات سليم علي سلام (1868-1938)»، الصَّادر سنة 2013، قرار السلطة العثمانيَّة بإيقاف «الكليَّة العثمانيَّة»، ونفي الشيخ أحمد الأزهري، بعد اتهامه بالتحريض على الباب العالي، إلى استنبول. 

وإلى اللقاء في الحلقة الثانية.



 رئيس المركز الثقافي الإسلامي