بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 تشرين الأول 2023 12:00ص محمد غني حكمت فراغات النحت بين الخشب والبرونز والنصب التذكارية

حجم الخط
حقق «محمد غني حكمت» التزاوج الفني بين خامات النحت التي استعملها، وبين فكرة الحركة النسبية والفعلية في الفراغ لتوليد طاقة تعبيرية لأعماله الخشبية والبرونزية وغيرها، التي جمعت في معالمها مظاهر جمالية، لمقاييس متناغمة ذات قوة تعبيرية تلامس الوجدان، من خلال لغتها البصرية التي تعتمد على الفعل الحركي للإجزاء الدقيقة، وللخط المستقيم عند نقطة يلتقي عندها النظر، ولقطة حركية يتوقف فيها الزمن لجزء من الثانية، وكأنه يلتقط تفاصيل الحركة بأبعادها الكاملة بدقة، ليترك لنا مجسّمات صالحة لكل زمان ومكان. بل لأعمال خالدة ترتبط بالمادة التي استطاع تحويلها إلى إنتاج حي مع الزمن.
استخدم «محمد غني حكمت» تقنيات فنية ذات جمالية رمزية ساكباً بموضوعية من الذات الإنسانية، وفن يحمل مقايس الجاذبية والسرعة، مما جعلني أتأمل منحوتة تحاكي الحياة التي نسعى فيها لنمسك بالحلم بأقصى قوة، وكأنها رؤية لا زمان لها حركة تشكيلية وتعبيرية قادرة على التغلغل داخل إحساس المتلقي، لتلامس ذائقته بخاصية إدراكية أرادها «محمد حكمت» خالدة في ذاكرة فن النحت فجاءت أعماله متميزة من حيث الشكل والحجم، وقوة التعبير، والتناسب البصري والفيزيائي من حيث مميزاتها الجمالية ومضمون كل عمل يحمل رسالة ما.
نحت في أكثر من كتلة، وكأنه يظهر التوازن النسبي لكل كتلة في فراغ واحد، بل هو يخاطب البصر بلغة حسية ايقاعية، كأنك تسمع صوت آلة القانون المتعددة الأوتار في معزوفة شرقية تجمع درجات حركة فعلية تدركها الحواس، وتتغلغل في ذهنية تفك رموزها بعفوية تتوافق مع العقل والعاطفة، وقوة الإدراك الحسي للعمل الفني الممتع الذي يوحي من خلال تكويناته إلى الروح الإنسانية للنحات، وما يحمله من همّ وطني ترك أثره على أعماله الخالدة.
يقول رودي رحمة: «فن النحت هو جماد يتفتح وهو تجسيد لكل ما هو غير منظور ووضعه في المنظور ليأخذنا من جديد حاملا معه أشياء وخلفيات إلى مكان مستقبلي قد يكون النهاية وهو الله. وهذه النهاية بداية» إن الأعمال الفنية بمثابة هوية لها تأثيرها الشخصي والوطني، فهي تظهر تفاصيل الزمن شكلاً ومضموناً، وعن علاقتنا وتفاعلنا مع الأعمال الفنية التي تحاكي البيئة الإجتماعية التي نحيا فيها والتي تجعلنا نتطور ونرتقي حضارياً ونتشكل عقلياً لندرك قيمة الأعمال الفنية وطنياً.
محاكاة أسطورية لتراث شهرزاد وألف ليلة وليلة، أراد لها أن تلتصق بالتراث العراقي، كما تركها تندمج مع أعماله النحتية في هندسة واقعية تؤكد قيمة الحكايا التراثية العراقية، كما تؤكد قيمة النحت الأشوري والسومري وغيره عراقياً، فالمنحوتات ذات تباين بصري يرتبط بالفكر والحياة، كما يرتبط بالإنفعالات التي يولدها البصر عند رؤية العمل الفني، وهذا ما يجعل الفن قادراً على خلق أعمال قادرة على الخلود، لتصبح تراثاً وطنياً جاذباً لثقافات مختلفة من أدب وفنون وغيره. فهو قام بتوضيح الفكرة ليؤكد على تفاصيل دقيقة قادرة على اثبات واقعيتها ووجودها رغم أسطوريتها الشعبية التي جعلتها تنتقل من جيل إلى جيل، إلّا أنه في منحوتة نصب «إنقاذ الثقافة» قام بالتجديد ووضع مفاهيم نحتية ذات حبكة علمية تقوم على مقاييس لمسافات حركية تتوازن عند رؤيتها وتجعلك تشعر بقيمة جمالية لعمل فني حمل خامات متنوعة في عمل واحد، لتكتمل عملية الإندماج بين العناصر والفكرة التي وضعها ضمن معايير تتضمن خبرته الفتية، كما تتضمن فكرة الإمساك بالثقافة من خلال كثرة الأيادي التي تحاول رفع ما يشبه برج بابل واضعاً الأقدام في دلالات ذات قوة، ليوحي بالقوة المكثفة لفكرة العمل النحتي الذي تحتاجه الثقافة والمعرفة كما يحتاجها كل نوع فني آخر.
تناقض وتباعد في مفاهيم واقعية وفكرية تصوّر نافورة مصباح علاء الدين والتي تجسّد أسلوباً يجمع الخواص التركيبية مع الكتلة ومع الخطوط المتناسقة القادرة على الإنتاج الجمالي بمقاييس فيزيائية تعكس رؤية النحات الوجدانية الممزوجة بالواقع والمخيّلة المنتجة للفن.
منحوتة جعلتني أتأمّلها واستخرج منها رؤيتي الخاصة، فالفنان «محمد غني حكمت» جعلني أشعر بقسوة الواقع العربي على الفن الذي يستحق التكريم والإحتفاء به، لأنه ترك لنا أعمالا من مادة صلبة تحمل روحه الحسية، التي منحها ثراء ثقافيا ووطنيا لا تنساه ذاكرة تذوّقت ولا عين أبصرت.
استطاع «محمد حكمت» تأسيس موازين لعمل فني التزم بالقيم الإنسانية في الزمن الماضي، لتكوين هوية عراقية خاصة من خلال «كهرمانه» وحاضر شمولي كنصب «الثقافة» التي تحتاج لقوة دفع وتمسك بكل الحواس، ومسألة اليقين بقوة الكتلة القادرة على البقاء في الفراغ بمقاييس مستقبلية، تجريدية واقعية تعكس الواقع العراقي من خلال فراغات جعل منها رسائل لصياغة تخيلية سردية خامتها المادة الصلبة، لتناسب مع المتلقي وقواه التعبيرية، فرؤية كل منحوتة ذات أبعاد ثلاثية هي بمثابة رؤية مستقبلية لمنحوتة لها بعد رابع لأنها تجمع الأزمنة والأمكنة وتتحدى الحركة، لنحت فراغي له تعبير قوة عضلية، وإرادة قصوى ليبلغ الإنسان الوظيفة الجمالية التي تجعله برتقي هندسيا وبنائياً، ليمتلك أدوات الثقافية الفنية التي تجعله يرى الأبعاد الإيديولوجية التي ترتبط بالإنسان وثقافة الماضي المرتبطة مع الحكايا الشعبية التي تدعو إلى التحرر والإنطلاق نحو الجمال.
استطاع حكمت تشكيل أذواق مختلفة للفن النحتي، وبهذا فتح أبواب الوعي الفني نحو ثروات تراثية عرفت بغناها التراثي والأدبي في عملية دمج وضع لها أسساً كهوية عراقية بحتة. كما استطاع خلق أعمال فنية تحمل هوية عالمية لها ايحاءاتها الثقافية التي تعكس سلطة فن النحت حضارياً من الكهوف وحتى الآن، مع اثبات قوة الثقافات المحلية وتاريخها المميز والذي يجعلنا نشعر بالفخر رغم الإنكسارات السياسية بوصفها ذات تأثير نفسي على الفنان وما يحدث من تغييرات تقود الفكر الإنساني إلى الابتكار الفني الذي يعتمد على التعبير الإيحائي الفاعل، لتأسيس رسالة خالدة لها شكلها ومضمونها الوطني والتراثي القادر على حفظ الإرث العربي.
أن أعمال «محمد غني حكمت» لها مميزات برودة المعدن وسخونة اليد الرشيقة التي حافظ من خلالها على الخطوط التعبيرية الأساسية في فن النحت، وما يحمله من أحاسيس حركية لها قساوتها وليونتها التي تجعلنا نشعر بطاقتها التعبيرية، لنحيا الماضي وحكاياه، والحاضر بلونه وضوئه ومساره التاريخي الذي يحافظ على هويتنا العربية الناطقة بحرف الضاد.