بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 تشرين الأول 2023 12:00ص منح الصلح في الذكرى التاسعة لرحيله

حجم الخط
منذ أوائل ستينيات القرن الماضي حين كنّا نسرع من الجامعة الأميركية إلى مطعم فيصل لنحتل مقعداً في طاولة منح الصلح التي كانت من أهم مجالس الفكر والسياسة في لبنان والوطن العربي، إلى نادي العروة الوثقى في نزلة أبو طالب في منطقة الحمرا الذي ترأسه منح الصلح منذ أيار 1962، كاستمرار لجمعية العروة الوثقى في الجامعة الأميركية التي ضمّت طلاباً بات بعضهم من أهم قادة حركات التحرر العربي، إلى جريدة «الأحرار» في رأس النبع، حيث تعاقب على رئاسة تحريرها كل من الراحلين إلياس الفرزلي، وجان عبيد رحمهما الله، ثم رفيق خوري أطال الله في عمره، بالإضافة إلى رئيس مجلس إدارة «الأحرار» الوزير السابق الراحل الدكتور علي الخليل، وكان منح الصلح رئيس تحريرها الثابت، إلى مجلة «الحوادث» التي لم يكن صاحبها المرحوم شهيد الصحافة سليم الوزي يخجل من الاعتراف أن منح الصلح يكتب له بعض مقالاته تحت شعار «الصحفي ليس ناقل أخبار فقط، بل ناقل أفكار أيضاً»، إلى جريدة «السفير» التي جمعته بصاحبها وناشرها طلال سلمان علاقة فكرية وسياسية وإنسانية متميّزة، إلى «دار الندوة» التي تحمس لفكرة تأسيسها وترؤس مجلس إدارتها منذ أن ناقشنا معه (الأخ بشارة مرهج وأنا) في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي كرّد ثقافي ووطني على الحرب التي استبدت بلبنان لسنوات، كانت رحلة عمر طويلة جمعتنا مع منح الصلح وعدد كبير من الأخوة وفي المقدمة منهم السفير جهاد كرم (رحمه الله)، ومحمد الصباغ وعماد شبارو (أطال الله في عمريهما).
في تلك الرحلة الطويلة الممتدة لأكثر من نصف قرن، تعرّفنا على منح الصلح الذي لم يتميّز بكتاباته الراقية، وبسيرته العطرة، وبأفكاره النيّرة فحسب، بل كان مدرسة تعلّم منها كثيرون معنى أن يكون الإنسان وحدوياً، سواء على مستوى لبنان أو على مستوى الأمّة، أو حتى على المستوى الإنساني.
كانت رسالة منح الصلح في رحلته الطويلة تقوم على فكرة بسيطة هو أنه مهما وقع بين أبناء الوطن والأمّة من خلافات وصراعات، فان علينا أن نتفهّم بعضنا بعضاً، فنتفهّم الظروف والاعتبارات التي دفعت الآخرين إلى اتخاذ هذا الموقف، وكان يقول لنا في عزّ الحرب اللبنانية حين كنا نجتمع حوله في إطار «اللقاء الوحدوي» لنصدر بياناّ أو نصيغ نداء: تذكروا وأنتم تكتبون بيانكم، من هم أمثالكم في الجهة المقابلة واسألوا أنفسكم هل يستطيع هؤلاء أن يوقعوا معكم هذا البيان، فإذا كان الجواب نعم استمروا، وإذا لم يكن كذلك فامتنعوا»، وحين أطلقنا «دار الندوة» في عيد استقلال لبنان عام 1988، حرصنا أن نستقبل كل الآراء تأكيداً على وحدة وطننا في وجه كل الدعوات الانقسام والتقسيم.
لذلك رغم محاولات محاصرة أفكار منح الصلح وإخوانه وآرائهم داخل لبنان وعلى مستوى الوطن العربي، نجح المفكر الكبير أن يخترق كل جدران الحصار وأن تشعّ كلماته في لبنان من أقصاه إلى أقصاه، كما الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، ولذلك حرص على أن يكون من المؤسسين «لدار الندوة»، كما «اللقاء اللبناني الوحدوي»، والمنتدى القومي العربي، و«برنامج شباب لبنان الواحد»، ومخيمات الشباب القومي العربي والحملة الأهلية لنصرة فلسطين وقضايا الأمّة» التي انطلقت جميعها من رحاب «دار الندوة»، ناهيك عن مشاركته في تأسيس المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي - الإسلامي والمشروع النهضوي العربي، كصيغ للحوار والتشاور نزيل من خلالها ركام الصراعات المدمّرة، الحزبية والفئوية والشخصية والطائفية والمذهبية والعرقية، بل نلغي التراكمات التي ترافقها.
كانت «الجسور» هي التي تتحكم بكل أفكار ومبادرات منح الصلح، وهو يقول «وحدة لبنان لا تصان إلاّ حين نكون جسوراً بين اللبنانيين»، و «تحرير فلسطين لا يتحقق إلّا إذا كنا جسوراً بين الفلسطينيين»، وجمع كلمة العرب لا تتم إلّا إذا كنّا جسوراً بينهم، لا بل لا نستطيع أن نبني متاريسنا ضد العدو إذا لم نحصّن الجسور بيننا.
من هنا يأتي تذكّرنا لمنح الصلح في ذكرى مرور تسع سنوات على رحيله في أيام «طوفان الأقصى» الذي لم يكن ثمرة وحدة ميدانية فلسطينية متميّزة فحسب، بل كان أيضاً ثمرة وحدة كلمة أبناء الأمّة الذين يملأون اليوم شوارعها ومدنها وعواصمها تأييداً لهذه العملية المباركة، واستنكاراً لمجازر العدو الكبرى التي تعبّر عن إحساسه بالهزيمة أكثر من امتلاكه القوة، واستعداداً للمشاركة في تلك المعركة التاريخية التي طالما كان منح الصلح يحلم بحصولها مهما واجه العرب من عوائق وحواجز ومخططات.