بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 آب 2023 12:00ص نادر سراج: بيروت جدل الهوية والحداثة

حجم الخط
ليس غربيا على البروفسور نادر سراج أن يكتب من جديد عن مدينته بيروت، مشيدا مكانا للذكرى الإنسانية التي تلامس وجدان سكانها، كما يكتب المستعرب فرانك مرميه في تقديم الكتاب. فهو ابنها العائد من جامعة السوربون في العام 1981 بأطروحة دكتوراه في علم اللسانيات مدارها فونولوجية مقارنة من وجهة نظر لسانية اجتماعية لأهالي منطقة المصيطبة البيروتية، رفدها منذ التسعينيات بأعمال حفرت في تاريخها وثقافتها وأدوارها؛ فشكلت عصارة فكره وقلمه البليغ ورسائل محبة لها ولأهلها. وإن كان لبنان ملتقى الحضارات، فبيروت هي عاصمته التاريخية والرسمية و«الفلتر» لتاريخه من القديم إلى المعاصر فالحداثوي. وقد قامت سبع مرات من تحت الأنقاض، بقوة وثقة وجدارة، لتكون الوحيدة القادرة على التفاعل مع ثقافات المحليين والمحتلين والعابرين والمجاورين على مرِّ العصور. ولا تزال، لسانيا وتاريخا واجتماعا واقتصادا وثقافة وسياسة، شغله الشاغل، أكاديميا وبحثا.
رفد الباحث سراج بيروت بكتب عديدة وأبحاث كثيرة فريدة ودقيقة ومعمّقة منها: «تراث بيروت في الحفظ والصون» المؤلف الجماعي الذي حرّره وجمع بين دفتيه تجاذبات السوسيولوجيا واللغة والعمران. وفي كتابه «أفندي الغلغول 1885-1940» درس تحوّلات بيروت الاجتماعية-الثقافية-المدينية، جاعلا من شخصية أفندي الغلغول هاشم الجمال، حمّالة الأوجه والممثلة لجيل كبار موظفي السلطة محور تاريخ مدينته. وفي مؤلفه الجميل «البيت: السوسيولوجيا واللغة والعمران»، وصف لبنان بـ«.. المضياف الذي يتسع لأبنائه وأصدقائه وضيوفه»، وربما، برأينا، لإعدائه وللحاقدين عليه كذلك. ويتناول سراج في مؤلفه «مصر الثورة وشعارات شبابها» الأحداث التي وقعت في مصر بين العامين 2011 و2013، وجعلته يقضي أسابيع بين ثوارها في ميدان التحرير في القاهرة، ويتبصر في «نحو شعارات» ويخضعه للتحليل اللسياني. وقد استوقفه حراك الشباب اللبناني بين الأعوام 2005 و2019 في كتابين: «الخطاب الاحتجاجي: دراسة تحليلية في شعارات الحراك المدني»، سلّط الضوء فيه على التظاهرات الشبابية الاحتجاجية في بيروت على سوء الخدمات وعلى مظاهر الفساد السياسي في الأعوام 2005 و2015 و2016. فحلّل الشعارات المرفوعة ومفاهيمها الجديدة التي عكست الواقع السياسي للبلد المأزوم. فكان هذا الحراك بذرة «الانتفاضة اللبنانية» في العام 2019 التي يرصدها في كتابه «صرخة الغضب: دراسة بلاغية في خطابات الانتفاضة اللبنانية»، وتحليل الهتافات والمدونات والشعارات والكتابات الجدارية التي خاطبت «الشارع» المنتفض بلغة تشبهه.
ومن الطبيعي أن يشكّل هذا التراكم البحثي المعرفي المتنوّع خزانا علميا-لغويا وثقافيا-سوسيولوجيا لأطروحاته، وتأصيلا لنتاجه وجودته ولمشروعه المعرفي. وهذه الأعمال وغيرها، من تدريس وندوات ومؤتمرات في لبنان والخارج، هي التي جعلت «مؤسسة الفكر العربي» و«المجلس الوطني للبحوث العلمية» يتكرّمان به بمنحه جائزتيهما اللتين رسّختا مكانته العلمية في العالم العربي، وعلى الساحة اللبنانية بشكل خاص.
وبالعودة إلى كتاب «بيروت: جدل الهوية والحداثة»، فيقوم على منهجية تضيق في سعيها للتنقيب الدؤوب في سرديات الحياة اليومية الصغرى، وتتسع في آن عرضا لدى خوضها في السرديات الكبيرة. وقد جعل سراج نقطة بحثه تيمات (Themes) ثلاث، مدارها بيروت والهوية والحداثة (ص 104-107). رصد هذه الثلاثية على مدى كتاب من الحجم الكبير (20X28 سنتم و515 صفحة)، استغرق منه ثماني سنوات، هو عمل مضنٍ يحتاج إلى جهد ومنهجية وبراعة في تحدد أهداف البحث ومناهجه وطرح الفرضيات، وتقميش المعلومات، والإلمام بتفاصيل السرديات الصغيرة منها والكبيرة. ويستدل على ذلك كله من العناوين الغزيرة في فهرس الموضوعات التي استوفت، برأينا، جوانب الدراسة.
يتميّز الكتاب عن غيره من العديد المؤلفات عن بيروت، بالقراءة الدقيقة المعمّقة للسالنامات العثمانية والمصادر والمستندات والبيانات والرسائل والصور والمشاهدات، بالاستناد إلى علوم اللسانيات والتاريخ والاجتماع والثقافة والانثروبولوجيا وعلم النفس، وتفاعلها كلها معا. فيستخرج المؤلف منها السرديات الصغيرة للحياة اليومية التي غالبا ما تكون غير مألوفة بل خافية على باحث ما، عدا المدقق الرصين، أو مبهمة لباحث آخر لا يملك أدوات المعرفة العديدة التي وظفها الباحث سراج في عمله. من هنا، يقدم سراج للقارئ توليفة بحثية متداخلة ومتكاملة ومتماسكة ترصد هوية بيروت وحداثتها في مرحلة الانتداب الفرنسي على لبنان، منتهجا بشكل وثيق مبدأ الدراسات البينية (Interdisciplinarity).
ولماذا بيروت بالذات، وليس أي مدينة أخرى؟ ولماذا مرحلة الانتداب الفرنسي عليها؟ فبيروت قد نمت من بلدة صغيرة أوائل القرن التاسع عشر إلى مدينة كوزموبوليتية تتكئ على الساحل الشرقي للمتوسط، لفحتها ثقافات التغريب المستوردة التي ضربت المنطقة، أو المفروضة بقوة الغالب (أوروبا) على الدولة العثمانية)؛ من مدارس وجامعات وإرساليات ولغات أجنبية وجاليات وقنصليات وتفرنج وعمران وصحافة ومسرح وتجارة. لذا، كانت مهيأة للخروج من تاريخها العثماني الطويل الغابر والدخول في «فرنسة» و«تفرنج» وتغريب متدرج وتساكن للهويات وتداخل للثقافات وتفاعل للحضارات في زمن «السلم الفرنسي» (الانتداب)، كما وصفه الجنرال غورو، من دون أن تتخلى عن أصالتها وثقافتها العربية-الإسلامية (ص 31-32). وهذه النقطة الأخيرة بالذات مهمة جدا، كي لا تضيع الهوية في جلباب التكنولوجيا الغربية الزاحفة على البلاد.
صحيح أن فرنسا غزت لبنان وهبط جنودها في بيروت صيف العام 1860، لكن عسكرها لم يترك أثرا لفكر أو ثقافة لقصر المدة التي قضاها فيه، على عكس ما حصل في أثناء حملة بونابرت على مصر (1798-1801). لكن الانتداب الفرنسي على لبنان هو مسألة أخرى، كما يبيّن سراج، إذ أتى في سياق اتفاق سايكس-بيكو لإنشاء دولة لبنان الكبير، ومقررات مؤتمر سان ريمو في العام 1920، كتعبير عن مصالح فرنسا الشرق أوسطية. من هنا، عملت باريس في أثناء فترة انتدابها على لبنان على «فرنسة» المؤسسات العثمانية والمجتمع المشبع بثقافة عثمانية؛ فتلقفت بيروت بتوازن متدرج ما يفيدها منها ويتوافق مع ثقافتها وتراثها وأصالتها.
يقوم الكتاب على المحاور الرئيسية الآتية:
1- انتقال بيروت من الهوية والثقافة العثمانية الى الهوية اللبنانية تحت الانتداب (عهد عثماني مدبر ومرحلة انتدابية وافدة، ص 152)، وإن بعد تأخّر، من دون حصول صدام حضاري بينهما. وهذا يعود إلى صعوبة انتقال مسلمي لبنان من هوية إلى أخرى بـ «شحطة قلم»، بعد أربعة قرون متواصلة من حكم عثماني (ص 104-107).
2- رصد حياة الأفراد، عبر الوثيقة والصورة الفوتوغرافية والرسالة و«الفيزيت كارت» واللباس والطربوش والبرنيطة، والكوفية والعقال والثوب العربي، وربطة العنق بعقدة فراشية، فضلا عن الموسيقى والبيانو والتسلية والترفيه (السرديات الصغيرة). وتبرز في هذه السرديات قدرة المؤلف على تحليل المستند والصورة واللباس، ولنا كلام عن ذلك بعد قليل.
3- تقبّل البيروتيين دخول الآلات والاختراعات الغربية («عجائب الفن الجديد» وفق مجلة «الهلال»، ص 125-126): التلغراف (إنترنيت القرن التاسع عشر)، والراديو، والفونوغراف، والهاتف، والسيارة، والآلة الكاتبة، وجر الكهرباء، والترامواي والسشوار، واستعمال الكف المعدني على أبواب المنازل، والأحذية الباريسية، والتراسل البريدي، وثقافة الإعلان والتسويق وثقافة «البيك نيك»... وقد أبرز المؤلف ذلك بغزارة في الأقسام الأولى من كتابه، وبيّن شعف البيارتة، بلسانهم وبلسان شاعرهم الشعبي عمر الزعني، بالمخترعات الجديدة التي أشرت إلى عبورهم من «العتيق» إلى الحديث.
4- دور اللغة العربية وانفتاحها على اللغات الأجنبية، وبالتالي دخول مفردات جديدة للعلوم الأجنبية والمخترعات إلى قاموس اللغة العربية، فضلا عن الثنائية اللغوية (ص 62)، وتعريب المصطلحات الغربية والعلمية الأجنبية التي اهتم بها «المجمع العلمي العربي في دمشق»، و«مجمع اللغة العربية في القاهرة» بمحاربة الدخيل منها، وصولا إلى تعريب التلغراف (ص 127-131).
5- التربية والتعليم العلماني والحداثة، عبر إنشاء الإرساليات الأجنبية الفرنسية والإنكليزية والأميركية والإيطالية والألمانية والروسية مدارسها، وفي المقابل تأسيس مدارس ومعاهد وطنية. وإن إقبال الأهالي على تأسيس مدارسهم يعود إلى تفوق المدارس الأجنبية على المدرسة الرسمية، وإلى غيرتهم منها. وعلى صعيد التعليم العالي، تأسست «الكلية السورية الإنجيلية» للمرسلين الأميركيين في العام 1866، وتحول اسمها إلى «الجامعة الأميركية في بيروت»، ولحقت بها «جامعة القديس يوسف» للآباء اليسوعيين في العام 1875، في سياق التنافس بين الأنجلوفونية والفرنكوفونية، وبين البروتستانتية والكاثوليكية.
وبالنسبة إلى البند الخامس، خصّص الباحث القسم الثالث من كتابه للحديث عن مداميك التعليم في بيروت في أثناء الانتداب: «مكتب الصنائع والفنون» الذي تأسس عثمانيا، وتحول لبنانيا تحت اسم: «المدرسة الوطنية اللبنانية للصنائع والفنون في بيروت» ودرّس طلابه الميكانيك وعلم المساحة والنجارة والحدادة والخياطة وصنع الأحذية وحياكة النسيج والتجارة وفن الهندسة والبناء (ص 283)، ومدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي تعود إرهاصاتها إلى العام 1878، والتعليم الفرنكفوني على يد البعثة العلمانية الفرنسية التي جذبت مدارسها أبناء الطبقة الوسطى من المسيحيين، والمسلمين (نسبة 40% من التلاميذ) لتدريسها باللغة العربية، وإن نظروا إليها كأداة للنفوذ الفرنسي في البلاد. وأخيرا، تأسيس «المدرسة الخيرية الإسلامية العاملية» في العام 1928، التي تحوّل اسمها إلى الكلية العاملية» فيما بعد، فازدهرت بسرعة، واعتبرت منارة من منارات العلم في لبنان. وقد عانت المدارس الوطنية من ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكنها صمدت بفعل إداراتها ودعم الخيرين في لبنان والخارج. وقد أشار سراج بتفصيل إلى المعاناة المالية لمعظم المؤسسات الوطنية، وإلى تبرعات العرب والمنتدبين.
وبخلفيته المدينية، وبوصفه سبط أحد مؤسسيها (هاشم الجمال)، أولى الباحث «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت» أهمية قصوى، فكانت، برأيه، «مثالا حيّا للمؤسسة التعليمية الوطنية التي شكّلت رافدا أساسيا لكوادر الدولة الفتية (رؤساء حكومة ووزراء ونواب وكبار موظفين)، ونشط خريجوها للعمل والنهوض بمختلف إدارات الدولة في الستينيات والسبعينيات» (ص 306). وفي موضوع هويتها وتأثرها بالحداثة، فإن الصفة الإسلامية التي حملها اسمها على مدى تاريخها شكّلت، برأينا، هويتها. علاوة على ذلك، ورد في بياناتها مصطلحات: «الأمة» و«الأمة الإسلامية» و«الطائفة الإسلامية»، إلى جانب مصطلح «أبناء الوطن». فكانت المقاصد بذلك إسلامية الهوية ببُعد وطني، حافظت عليه حتى الوقت الراهن، جمعية ومؤسسات ومدارس، فيما غابت التعابير أو المصطلحات المذهبية التي تعطيها الصفة السنية (ص 307). وتميزت مدارسها منذ اليوم الأول بتعليم «البنين والبنات المسلمات».
وعن الحداثة، فقد تأثرت بها مدارس المقاصد وجمعيتها بالذات. وأضاء البروفسور سراج على عصرنة مدارس الجمعية بإدخال الموسيقى وتعليم البيانو والآلة الكاتبة في صلب نشاطاتها. كذلك، أوفدت بعثات طلابية للتحصيل العالي في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا ومصر؛ في تخصصات الطب والهندسة والتربية والحقوق والعلوم الدينية. ولم تنحصر الإفادة في ذلك على تلقّي العلوم فحسب، بل أن احتكاك المبتعثين في العالم الغربي عن قرب بمجتمعاتهم، أسهم بدوره في حداثة بيروت بعد عودتهم إلى الوطن. وقد أدخلت الجمعية التعليم المهني في مدارسها، بالإضافة إلى اختصاصات خاصة بالفتاة، كالتدبير المنزلي والتمريض والخياطة (ص 318-319). إلى ذلك، تأسس «مستشفى المقاصد» في العام 1937 وضم مستوصفا لمعالجة الفقراء. وهذه النشاطات المؤثرة في بيئتها، جعلت الخيرين والمتبرعين يتعاضدون مع الجمعية خلال ويلات الحرب العالمية الثانية (331-335).
ولا تتوقف الحداثة على مدارس المقاصد وطلابها، بل أن أعضاء مجلس إدارة الجمعية تأثروا بها كذلك، شأنهم شأن مجايليهم. وقد رصد الباحث ببراعة فائقة التحول الذي طرأ على موقفهم من الموضة العصرية. فقام بتحليل صور شمسية لهم تعود إلى أواسط الثلاثينيات. فتبيّن غياب الطربوش الخمري عن رؤوس ثمان من الأعضاء الاثنين والعشرين، ومن بينهم رئيس الجمعية نفسه عمر الداعوق، فيما ظهر اثنان معمّمين، وواحد وفّق بين الطربوش وربطة العنق ذات عقدة فراشية، واثنان حليقي الشاربين. كما غابت عن الأعضاء الشوارب المرفوعة الطرفين إلى الأعلى (على الطريقة الغليومية). وأشار سراج أن سيدة المجتمع البيروتي السنّي، الرائدة عنبرة سليم سلام، نزعت عنها الحجاب والملاءة ووضعت القبعة على رأسها في العام 1925، وتحدثت إلى الرجال وهي سافرة الوجه (337-338).
أخيرا، ننوّه بنجاح الباحث البروفسور نادر سراج في استرجاع تاريخ بيروت في أثناء الانتداب الفرنسي على لبنان. إن اهتمامه بتقصي نشوء المدارس وتعزيز القائم منها (المقاصد والصنائع والعالمية)، ودخول المخترعات والمبتكرات، واقتفاء العلوم والصنائع والآداب الرفيعة، ما حال دون انصرافه إلى نسج سرديات صغيرة وكبيرة، وإعادة بناء هيكلية بيروت وهويتها الفردية والجماعية، في ضوء المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أتى بها الانتداب الفرنسي. لقد جوّد سراج أدواته التحليلية اللسانية ووظف خلفيته الاجتماعية وحسه المديني في عمل بحثي رصين. اجتهد فأصاب، وهذا دأبه كما يوجز مساره.

*مؤرخ وباحث
 بيروت، مكتبة أنطوان، 2023