بيروت - لبنان

27 تشرين الأول 2023 12:00ص نص روائي انبثقت منه معالم الفن التشكيلي

حجم الخط
تختلط المشاعر بالأفكار حين يختار «أسامة منزلجي» ترجمة عمل تمتلئ تعابيره صوراً، في حديقة ذات عطر قرنفلي آخّاذ، فنتأمل عالم الحياة الذي نحيا به بتفكّر، لتتقلص أوجاعنا أمام أوجاع الآخرين، فرواية «روسهالدة» للروائي «هيرمان هسه» لوحة فنية ذات إطار طبيعي لمكان جميل، لكن يفتقد روح المحبة في تجسيد حيّ لخلفيات تركها تزهر حزناً.
زمن حدّده قبل عشر سنوات في الماضي الذي جعله يعيش الحاضر، وينتظر المستقبل في توحّد فني أدبي وتشكيلي، فالألوان والخطوط وتحديد الكتل أبرز ما يميّز الحبكة الروائية عند هيرمان، والمتحرك الضوئي الوحيد على مسرح اللوحة هو «بيير» فالحركة جاءت مبنية في ترجمة فعّالة تؤدي إلى نقطة وضعنا أنظارنا عليها، وكأن «بيير» هو الرواية التي يقف خلفها «السارد» «كان الصغير بيير حبيباً إلى قلب كلا والديه، وكان يشكّل الرابط الوحيد بين الأب والأم» ليجعل منه صلة وصل بين كتلتين في لوحة واحدة هي «روسهالدة».
إدراك، وصف، تحليل، وتفسير مراحل فهم العمل الفني في نقد ذاتي تحليلي للوحة رسمها في تركيب زمني وشكلي، ليستنفر اللاوعي في استحضار ذاكرته، فيضيء جوهر الذات الإنساني المشبع بالجمال والمتحرر من قيود عائلية ثقيلة، وذاكرة مشبعة بوجع خلّاق يدفعه نحو الإبداع، ليضع ذاته في ملونة يغسلها كلما انتهى من الرسم. «إذن فهذا هو منبع الدافع النهم بشكل خارق للرجل إلى الخلق، إلى القبض على العالم من جديد في كل ساعة بحواسه، وإخضاعه وهذا أيضا هو منبع الحزن الغريب الذي غالبا ما تملأ به الأعمال الفنية العظيمة المشاهد الصامتة».
يقول ويلسون: «لو اجتمعت الطبيعية والرمزية لتزوّدنا برؤية للحياة الإنسانية والعالم أكثر ثراء وتعقيداً، واكتمالاً مما عرفه بشر من قبل». وقف أمام اللوحة وهو يحدق إلى سطحها، الذي كانت ألوانه الطرية تعكس الضوء القوي، وظل هكذا دقيقتين أو ثلاث يحدق في صمت إلى أن دبّت الحياة في اللوحة بأكملها، ليقدم لنا «صورة أليفة للواقع العنيف، بكامل عنفوانه» وفي هذا اختصار للوحة «روسهالدة» والتي تجعلنا نرى العناصر الفنية المشتركة في تذوّق الطبيعة مع التحليل القادر على استكشاف العمق الأدبي لمعرفة الأشياء التي نجهلها، قال بامتعاض أزهار العسل ثم صمت كان قد اكتشف قبل زمن طويل أن أجمل الأشياء وأكثرها إثارة للإهتمام هي تلك التي يتعذر التعرّف عليها أو فهمها. هنا يتدخل الراوي في الضمير عبر ابراز دواخل العمق النفسي لبيير، ونحن نشعر أن المتكلم هنا ما هو إلّا فيراغوث، لتقف حركة السرد بوقوفه خلف السياج في وصف حسي لا علاقة له بحشد الطاقات لأداء العمل كما يقول، وليفقد العمل التوازن المكاني والزماني من قبل إلى بعد ورموز فنية روائية مشتركة متناقضة بين البنية السطحية والبنية العميقة، فهو يحاول بعث الحياة في لوحة عاش فيها مع «بيير» في نص روائي انبثقت منه معالم الفن التشكيلي. وقف أمام اللوحة وهو يحدق إلى سطحها، الذي كانت ألوانه الطرية تعكس الضوء القوي، فالمونولوج الداخلي لم يخلو من سرد جعلنا نشعر بالإضطراب النفسي للسارد في خلفيات خارجية وداخلية، ولكن استطاع أن يجعل القارئ يتحاور معه في نشاط ذهني مشتعل.
رسم لغوي وصفي سردي يظهر حالة إجتماعية ومعاناة نفسية لفنان يعطي الحياة للجماد، ويأخذ الحياة من الأحياء، لأنه يستطيع محاورة اللون والمشهد الرؤيوي في خياله، فيخلق عملاً فنياً يحيا فيه بسعادة بينما يخفق في محاورة أفراد أسرته، وهذا أظهر للقارئ نشاطاً تعبيريا حيّا يفتقده الراوي،  وإن اعتمد المونولوج الداخلي أسلوباً للتعبير الروائي الناطق.
يقول زولا: «العمل الفني ركن من الخليقة ينظر إليه من خلال مزاج الفنان»، إن الأحاسيس الداخلية التي لامست مشاعرنا في الرواية اندفعت نحو الخارج لتثير تأملات ميتافيزيقية في الوجود النفسي لكل شخصيات الرواية فمشهد الكلب المضطرب الذي كان يتحرك بطريقة تثير مخاوفنا من موت الصغير صوره في أسلوب لحركة بديلة اصطنعها هيرمان في أبعاد ثلاثية تؤلف جزءاً من حقيقة الحياة، وهو يجلس أمام الطفل الميت ليرسم معالم الموت كي يعيد خلق لوحة مأساة، لإبراز الحزن من خلال لون أصفر خريفي تراءى له في مزج رومانسي واقعي لينقل التأثير إلينا.
إن أي فراغا بين كتلتين يحتاج إلى فضاء مشترك، لتتكون الحركة التي تبرز فاعلية الخيال في بناء العمل الفني، وهذا ما بنى عليه رؤيته الروائية التشكيلية «هيرمان» حتى في لوحة السمكتين، فهو هنا يؤكد لنا وجوده في العمل الفني في سلطة فنية تشكيلية، إن هذا الممر الرائع خلال الغابة يجب أن يرسم بحب، بقدر من الحب والعناية لا يصدران إلّا عن أحد أساطين الرسم القدامى الممتازين، عندما نحى جانباً ملونه، وجلس مواجهة اللوحة، شعر بتوحد غريب، كان يعرف أن تلك اللوحة جيدة، وأنه قد أنتج عملاً رائعاً. لكنه من الداخل كان خاوياً مستنزفاً، فهل أستطاع أن يرسم لوحة تشكيلية في لغة روائية هي «روسهالدة» بامتلاء داخلي وحب حقيقي؟