بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 كانون الثاني 2024 12:16ص الرئيس حسين الحسيني والدمعة الخالدة.. وللدستور دمعة

حجم الخط
أَبَى القلم أن يتحرك، أَبَى القلم أن يجاريني في الأيام الأولى للخسارة الكبرى. ماذا أكتب؟ إن مجلداً لا يتّسع عن ذكرياتي مع ذاك الرجل العظيم. أربعة عقود ونصف مضت على معرفتي بالسيد الرئيس حسين الحسيني.
لم يكن السيد بالنسبة لي نسيباً، أو جدّاً لأولادي فحسب، بل كان صديقي، رائدي، ومرشدي بفكره، الثاقب ووطنيته الخالصة. وكانت أخلاقه، وعلمه، ومبادئه موضع احترام الناس من الطوائف كافة، وما أنا إلّا واحداً منهم. وكانت مواقفه تحظى بإجلال الحكّام، وإكرام كل من عرفه أو تعرّف به. يوم كان نائباً ويوم كان أميناً لحركة المحرومين، ومرآةً للإمام موسى الصدر، ويوم أمسى رئيساً، ويوم عاد الى مقاعد المشرعّين، ويوم استقال ويوم اعتكف.
إذا ذكر الشرفاء، النزهاء وأصحاب الأيادي الناصعة ذُكر في مقدمتهم. إذا ذكرت الوطنية وأقامت مؤتمراً أَبَتْ إلّا ان يكون في الصف الأول. وطنية صافية، ناصعة، بلباس أبيض لا بقعة عليه ولا شائية به.
لم يكن خطابه السياسي يوماً محرّضّاً أو موجّهاً للعواطف والغرائز. بل هادئاً، ومنطقياً موجّهاً للعقول النيّرة لتلتحم وتتوحد. وللعقول التي تحتاج الى إنارة لتسمع وتنتصح.
هدوئه المعهود يخفي ورائه صلابة فولاذية أكدتها المواقف. قال لا.. لا.. مراراً، وهو مرتفع الرأس. في وقت كانت الرؤوس تنحني مع الكثير من الخنوع والذل. خشية من النافذ، أو تزلّفاً له.
كان محاوراً ليّناً يحترم الرأي الآخر، والفكر المخالف، دون القبول بالمساومة على الخطوط الحمراء التي هي كرامته، ومبادئه، وكرامة الوطن، ووحدته وديموقراطيته. ولم تكن المصالح الشخصية واردة لا في ممارسته، ولا في قاموسه.
هل يعلم اللبنانيين؟..
ان السيد الرئيس الراحل أنقذ الذهب الذي هو فلس الأرملة. أنقذه من السرقة، البعثرة والسمسرة، بإصداره قانوناً يمنع التصرف به، إلّا بقانون، وبأكثرية الثلثين، شأنه شأن القوانين الوفاقية... وإلّا لكان تتبخّر على موائد الميسر، للطبقة السياسية الفاسدة، العفنة الى قامرت بمقدرات الوطن.
هل يعلم الشعب العظيم، إن اتفاق ١٧ أيار المشؤوم، واتفاق القاهرة الذي جعل المنظمات الفلسطينية دولة ضمن دولة، كانا لبقيا أشواك في جسد الوطن، لو لم يقم حسين الحسيني يوماً بإلغائهما في جلسة واحدة، وبالأكثرية الساحقة محتملاً حقد العدو ومن ورائه. وملامة الصديق ومن يتبعه وينافقه ويخشاه.
وانه بعد أن تخلّى عن رئاسة مجلس النواب، وانتقل من كرسي الرئاسة والمطرقة، وحذّر مع باقة من رفاقه من السياسة المالية الغبية، العقيمة التي تدفع الخزينة الى الإفلاس والى اليوم الأسود المنتظر. وهذا ما حصل بعد ثلاثة عقود، ورأينا في الفيديو «العصابة» التي لا يهمّها الشعب والوطن، والرأي العام. مهزلة وطن، يحكمه مقاولون.
وهل يعلم أو يذكر جهابذة الاقتصاد والمال المنظّرون، انه في اليوم الذي ترك فيه السيد الرئيس العفيف، الحريص، سدّة الرئاسة كان الدين العام 900 مليون دولار وكم بلغ الآن؟
وطن أراده حسين الحسيني موحّداً، ودولة مدنية مثالية. هكذا أراد اتفاق الطائف ودستوره تحوّل الى إمارات طائفية، تختزل الطائفة بشخص رأسها وعائلته وزبانيته.
إني أرى ان أكثر الآسفين، والخاسرين لغياب السيد حسين الحسيني هو الدستور، أتخيّله يبكي دماً لأنه فَقدَ آخر حماته، وكأنني بدستور الدولة يردّد قول الشاعر معروف الرصافي حين قال: «والمرء ما دام حيّاً يستهان به، ويعظم الرزء فيه حين يفتقد».
رحمك الله أيها السيد الرئيس، فمكانك في دنيا البقاء، بلا شك ولا ريب بين الصدّيقين والأبرار الأخيار، هكذا يقول كتابنا الكريم وهكذا يقول الأنبياء والصالحون.