بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 شباط 2024 12:05ص إمارة ما قبل ويستفاليا

حجم الخط
يعيش لبنان أسير دوامة مستمرة ومتسارعة، هي مستمرة بمعنى افتقاد القدرة على الثبات نظراً  لانعدام الوزن لدى من يحكمون لبنان كما يقول قانون الجاذبية، وهي متسارعة لأنها جاذبة للمؤثرات في غياب أي إمكانية محلية للتأثير أو التفاعل مع هذه المؤثرات بفعل إنعدام الرؤيا الوطنية وغياب مشروع سياسي قابل للحياة خارج دائرة الطوائف والمذاهب ونظام المصالح الشخصية. أما في علم السياسة، فإخراج لبنان من حالة إنعدام الوزن يستلزم بناء سلطة وطنية متماسكة تعلو على ما عداها من سلطات محلية، وأما إخراجه من متاهات المؤثرات المحلية والإقليمية و امتلاك القدرة على التأثير بها من موقع الفعل فيستلزم الإرتقاء الى مستوى التمسك بالسيادة الوطنية ببعديّها الجغرافي والسياسي والدفاع عنها بالقوى الوطنية الجامعة .
بناء السلطة الوطنية بما يحترم نصوص الدستور وبما يعكس الإلتزام باحترام المؤسسات وخيارات المواطنين، وإلتزام هذه السلطة السيادة الوطنية بالدفاع عن الحدود وحقوق المواطنيين في الحياة والإستقرار هما البعدين الملازمين لشرعية أي حكم ولبناء ثقة المواطنين بالحاكم والتفافهم حول الدولة، وهذا ما يفتقر إليه الكيان ما قبل السياسي المسمّى دولة في لبنان.
قد يكون من المفيد التذكير بــ«صلح ويستفاليا»، وهو عبارة عن معاهدتيّ سلام وقّعتا في 15 مايو/أيار 1648 وفي  و24 أكتوبر/تشرين الأول 1648 وأنهتا حرب الثلاثين سنة في الأمبراطورية الرومانية المقدسة وحرب الثمانين سنة بين إسبانيا ودولة المقاطعات السبع المنخفضة المتحدة(هولندا). صلح ويستفاليا في علم السياسة هو الإتفاقية الدبلوماسية الأولى في العصر الحديث التي أرست نظاماً جديداً في أوروبا الوسطى والغربية مبنيّاً على مبدأ السيادة، وهو الإنجاز الأكبر الذي حققه صلح ويستفاليا، بما يعني حصرية سلطة الدولة في التفرد التام بإصدار قراراتها داخل حدود إقليمها، ورفض الخضوع لأية إملاءات خارجية. بموجب ويستفاليا تم الإعتراف بأحقيّة كل دولة أن تكون سيدة قرارها على أرضها وأن تنفرد بممارسة سيادتها داخل حدود إقليمها الجغرافي.
تمتد جذور العجز عن تشكيل السلطة الوطنية الى تأسيس الكيان اللبناني في العام 1920، حيث طغت مسألة الهوية على كل الإعتبارات الأخرى في اختيار الرئيس وتمايزت الخيارات وفقاً لإلتحاق لبنان بهذا المعسكر أو ذاك، حيث كان لكل محور مرشحه. التساؤل عند كل انتخاب رئيس للجمهورية كان من يصنع الرئيس في لبنان، والجواب الدائم كان تسوية داخلية على ما يريده الخارج. إستمر هذا النسق إلى أن أُخضعت مسألة بناء هيكل السلطة السياسية برمّته لحصرية كاملة تفردت بها سوريا منذ اتّفاق الطائف وحتى خروجها من لبنان عام 2005 مع تسجيل اغتيال الرئيس رينيه معوض كنموذج دامٍ أنهى أي محاولة للخروج على الإرادة السورية. وتداعى الإنهيار  في مسألة تشكيل السلطة بعد ذلك لتنتقل من حصرية سوريا مباشرة يعبّر عنها مرشح أوحد يُفرض على الداخل الى حصرية إيرانية تمارسها قوى محلية تتمتع بحق النقض تحت طائلة الإستمرار بالفراغ، مع الإشارة الى تسوية الدوحة التي شكلت مرحلة وسيطة بين الحصرية السورية وحق النقض الإيراني. 
في ما يتعلق بمسألة الحدود هناك تجربتان فاشلتان لا ترتقيان الى مستوى المسؤولية، الأولى وميدانها ترسيم الحدود البرية مع سوريا، وقد وردت في البند الثاني من البيان المشترك للقمة السورية اللبنانية التي عقدت في دمشق يومي 13و 14 آب/اغسطس عام 2008 والذي نص على «استئناف أعمال اللجنة المشتركة لتحديد وترسيم الحدود اللبنانية السورية وفق آلية وسلم أولويات يتّفق عليه بين الجانبين وبما يخدم الغاية المرجوة من قبلهما على أن يصار الى اتّخاذ الإجراءات الإدارية والتقنية اللازمة للمباشرة بذلك».  والتجربة الثانية وهي تجربة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل (وفقاً لما ورد في نص الإتفاق الإطار الذي أذاعه الرئيس نبيه بري). التجربة الأولى أفشلها النظام المافوق أبوي الذي مارسته سوريا كقوة قاهرة على لبنان دون أن يكون لحكام لبنان القدرة على المواجهة كفريق سياسي متّحد. أما التجربة الثانية فقد أفشلها خضوع الترسيم لنظام المصالح الإقليمية والشخصية والسياسية وقد أدت إلى نموذج في الترسيم غير مسبوق ولن يتكرر. تكمن خطورة ترسيم الحدود في التجربتين ليس في عدم التمكن من تحديد الجغرافيا الوطنية حيث يجب أن تكون بل في عدم ترسيم حدود السيادة بما يعني حصرية الدفاع عنها بالقوى الوطنية الشرعية.
تذهب مسألة تشكيل السلطة في لبنان وعنوانها إنتخاب الرئيس الى بعد بالغ الخطورة بتلازمها مع مسألة ترسيم الحدود ووقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية، وتوضع المسألتان المتصلتان بالسيادة رهن المساومات الإقليمية مع المجتمع الدولي. ففيما يحجم رئيس المجلس النيابي عن الدعوة لجلسة إنتخاب وفقاً للدستور مُسقطاً حق مجلس النواب الحصري في انتخاب الرئيس في محاولة لاستدراج اللجنة الخماسية إلى بازار تفاوضي، يمعن فريق من وزراء الخارجية الأورروبيين والموفدين الدوليين في البحث في مسألة استدراج العروض حيال تهدئة الجبهة في الجنوب مع حزب الله. يكرس تهرب الحكومة من مسؤولية الدفاع عن الحدود بقواتها الشرعية ورضوخ مجلس النواب للقوة القاهرة وامتناعه عن تشكيل السلطة لبنان إمارة ما قبل ويستفاليا. 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات