بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 تشرين الأول 2022 08:03ص الاستحقاق الرئاسي بين «الممكن والمستحيل»

حجم الخط
في ظل الازمة القائمة والمتمادية حول تشكيل حكومة او تعويم حكومة تصريف الاعمال ازدادت المؤشرات حول حصول فراغ رئاسي، وبما يهدد باحتمالات دخول لبنان في حالة من الفوضى الدستورية والأمنية في ظل تردي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية بفعل ارتفاع سعر صرف الدولار والذي تخطى عتبة اربعين الف ليرة.
يبدو بوضوح وبما لا يقبل الشك، أن بعض الكتل النيابية الرئيسية كالتيار الوطني الحر بات يبشر بأن الفراغ الرئاسي حاصل لا محالة، وهذا ما دفع رئيس التيار النائب جبران باسيل الى التحذير من مغبة ومخاطر عدم تشكيل حكومة فاعلة تضطلع بمهام رئيس الجمهورية، من خلال قوله «عدم تشكيل ميقاتي حكومة عمل مجنون وسيؤدي الى فوضى دستورية».
بالرغم من انعقاد جلستين نيابيتين لانتخاب رئيس ما زالت حركة الكتل النيابية الرئيسية بحثاً عن توافق يؤمن اكثرية نيابية لاختيار مرشح صالح لقيادة المرحلة المقبلة، مع كل ما يتطلبه حل الازمة العميقة الراهنة، واعادة بناء الدولة المنهارة، بطيئة ويلفها الغموض، مع بحث جميع الكتل عن المرشح الذي يؤمن لها الحد الاقصى من مصالحها وتوجهاتها السياسية، وذلك بالرغم من ادراك كل منها بأن الاستمرار في سلوكيتها السياسية الراهنة ستؤدي الى فراغ رئاسي، وبما يعرّض كامل الصيغة التي قام عليها لبنان للسقوط.
لا يمكن ان تؤدي السلوكية والمقاربة التي تعتمدها مختلف الكتل النيابية الواقعة سواء لمطلب السيادة او في محور «الممانعة» لتوافق يؤمن اكثرية ثلثي اعضاء المجلس في اية جلسة مقبلة، يعقد لانتخاب الرئيس «العتيد»، فالكتل المستقلة والسيادية والتغييرية تملك اجندات سياسية ورؤى مختلفة من المشروع الاصلاحي، وعملية اعادة بناء الدولة، بالاضافة الى اختلاف عميق من موضوع التعامل مع سلاح حزب الله ودور المقاومة. وتؤثر هذه الاختلافات في الرؤية والموقف سلباً في الجهود المبذولة لتوحيد صفوفها، وبالتالي لتأمين اكثرية 65 صوتاً، يمكن ان تنتج رئيساً، اذا ما التأم المجلس للتصويت في دورة ثانية. في المقابل يشوب الغموض والالتباس مواقف الكتل المنضوية تحت عبارة محور «الممانعة» وخصوصاً التيار الوطني الحر وتيار المردة، وذلك بانتظار قرار الامين العام لحزب الله لبلورة موقف الحزب ومعه «الثنائي الشيعي» اي حركة امل وكتلتها النيابية من الاستحقاق الرئاسي ومن اختيار مرشح داعم لخيارات المقاومة.
في ظل حالة الانقسام وتوزيع الكتل النيابية في المجلس الراهن، نرى انه ما زال هناك فرصة امام النواب السياديين والتغييريين والمستقبليين الذين يمكن ان يشكلوا اكثرية النصف زائد واحد ان ينظموا صفوفهم، ويبذلوا الجهود الممكنة من اجل خلق مناخات حوارية تؤدي الى توافقات لمواجهة متطلبات اجراء الاستحقاق الرئاسي قبل موعد انتهاء ولاية الرئيس عون في 31 تشرين اول الجاري. اذا نجحت هذه الكتل النيابية في توحيد مواقفها، فإن ذلك سيمنع بالتأكيد حزب الله وحلفاءه من ايصال مرشحهم الى رئاسة الجمهورية، لكن سيبقى السؤال الصعب المطروح: هل يمكن في ظل حصول ذلك تأمين نصاب اكثرية الثلثين لتأمين انعقاد جلسة انتخاب واجراء دورة الاقتراع الاولى والانتقال الى الدورة الثانية، وبما يسمح بفوز الرئيس بالاكثرية المطلقة.
في الواقع نرى ان وضع التوازنات الراهنة داخل المجلس النيابي وعلى ارض الواقع حيث يحتفظ حزب الله بفائض من القوة والنفوذ جراء كونه الفريق المسلح الوحيد، لن يكون من الممكن تأمين النصاب القانوني لجلسات المجلس النيابي المقبلة، وسيكون مصير جميع الجلسات كمصير الجلسة الثانية، والتي انتهت بتهريب النصاب، مع توقع الاستمرار في هذا النهج من قبل الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر وتيار المردة وحلفائهم من النواب. وهناك يمكن توقع استحالة انتخاب رئيس جديد، والدخول في مرحلة من الفراغ الدستوري، والتي قد تستمر لسنوات، بهدف تحضير الظروف لتسوية رئاسية تشابه الى حد بعيد التسوية التي حدثت في عام 2016، حيث خضعت كتلتا المستقبل والقوات اللبنانية لمشيئة حزب الله، وبانتخاب حليفه ميشال عون كرئيس للجمهورية.
في الوقت الذي يقترب فيه المجلس النيابي من الايام العشرة الاخيرة للاستحقاق الرئاسي، حيث يصبح المجلس في حالة انعقاد دائم، فإن الاستحقاق يتأرجح ما بين «الممكن والمستحيل، وهي حالة تفترض ان تتحلى الكتل بالكثير من الواقعية والحكمة السياسية، وإن تراجعت مواقفها وحساباتها في الربح والخسارة في ظل المخاطر المترتبة على استمرار الازمة المعقدة الراهنة، والتي تكاد ان تطيح بكل مقومات الوطن. وهذا الامر يدعوها الي التعقل والبحث عن «ما هو ممكن» بدل التمسك بحالة الانكار الراهنة، مع ادراك ما يستدعي ذلك من مخاطر اعتماد «الخيار المستحيل» والذي لن يكون في صالح احد. يمكن ان تأخذ جميع الكتل النيابية الدرس والامثولة اللازمة من عملية ترسيم الحدود البحرية مع دولة اسرائيل، والتي بقيت منذ عام 2010 الى عام 2022 خياراً مستحيلاً، لا يمكن للبنان تسويته دون تطبيع العلاقة مع العدو، لكن استطاع القرار اللبناني مؤخراً من التحرر من هذه العقدة «الشعبوية» والسياسية والدخول في مفاوضات مع الوسيط الاميركي هوكشتاين، متخطياً كل العقد النفسية السابقة وبالتالي التوصل الى تسوية مرضية، تحقق المصلحة المالية التي يمكن ان تنقذ لبنان من ازمته الخانقة، وتفتح الباب امام الدولة لدفع ديونها وعودة الودائع المصرفية لاصحابها، علمتنا التسوية في ترسيم الحدود البحرية كيف نتخطى حالة الجمود او المراوحة ما بين «الممكن والمستحيل» حيث يتطلب ذلك الاقتناع باعتماد مقاربة مرنة وسلوكية عاقلة من اجل تحقيق الهدف الذي نرمي إلى تحقيقه، بدل الجمود في مواقفنا واقفال جميع ابواب الاجتهاد التي تفتح الباب لحل مرضٍ.
في رأينا هناك مصلحة مشتركة واساسية لطرفي المعادلة الراهنة في مجلس النواب للبحث عن توافق يفتح الباب لاعتماد الخيار «الممكن» لانتخاب رئيس جديد، وبالتالي تجنب «الخيار المستحيل» بكل ما يحمله من مخاطر وتهديدات، لا يمكن ان تخدم مستقبل البلد او مصالح مختلف الاطراف السياسية.
ان الفراغ الرئاسي لن يكون لصالح محور المقاومة وحزب الله، فغياب وجود شرعية تتمثل بالدستور وبأكثرية شعبية داعمة للنظام والدولة، يترك حزب الله كحركة سياسية، كما يترك مستقبل بيئته الشيعية عرضة لمغامرة مدمرة مع اسرائيل، قد تحدث عن قصد او عن طريق الخطأ.
ولا بد ان تدرك قوى المعارضة اهمية العمل على تحقيق «الخيار الممكن» الذي يسهّل انتخاب رئيس يعمل باستقلالية وصلابة ويملك الرؤية والارادة للعمل على اعادة بناء الدولة، واعتماد خطة اصلاحية اقتصادية ومالية في ظل الدستور واتفاق الطائف، وليدرك الجميع اهمية ما قاله دافيد هايل نائب الوزير السابق للخارجية الاميركية «ان كل القضايا الاساسية التي يحتاج لبنان الى تحقيقها ستكون مؤجلة اذا لم ينتخب رئيساً للجمهورية».