بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 كانون الأول 2022 08:02ص المجلس الدستوري ودولة القانون

حجم الخط
حتى مطلع القرن الماضي لم يكن الغرب الأوروبي قد عرف بعد «القضاء الدستوري» لأن الفكرة التي كانت سائدة وقتذاك هي ان القانون الذي يسنه مجلس النواب هو تعبير عن ارادة الشعب الذي يمثله البرلمان، اي انه عمل من اعمال السيادة الوطنية ولا يمكن ان يكون مخالفا للدستور، وبالتالي ليس ثمة حاجة الى هيئة كالمجلس الدستوري لمراقبة عمله.
غير ان حركة فقهية واسعة كانت قد بدأت تتكون ومحورها التخوف من تمادي البرلمان وهيمنته على التشريع بحيث يكون من المحتمل ان تصدر تشريعات تمس حقوق الأفراد الأمر الذي يعيق قيام دولة القانون. من هنا تصبح الحاجة ماسة لإنشاء قضاء دستوري للحد من جموح البرلمان نحو سن تشريعات تتجاوز الوكالة المعطاة له من الشعب.
بقي هذا الوضع على هذه الصورة حتى العام 1920 عندما انشئت اول محكمة دستورية في تشيكوسلوفاكيا. ثم تلتها النمسا التي انشأت وبأثر واضح من الفقيه النمساوي هانز كلسن المحكمة العليا الدستورية. ثم تتالى انشاء المحاكم الدستورية وفقا للنموذج النمساوي وكان آخر الدول الأوروبية فرنسا في العام 1958.
هذا في الغرب الأوروبي. اما في لبنان فقد صدر في العام 1926 اول دستور وجاء خاليا من اي نص يشير الى مراقبة دستورية القوانين، لأن لبنان كان ما يزال اسير القاعدة القائلة ان مجلس النواب الذي يمثل الشعب لا يمكنه التشريع خلافا للدستور.
كان علينا ان ننتظر حتى العام 1989 موعد انعقاد مؤتمر الطائف في المملكة العربية السعودية الذي انتهى الى انهاء الحرب الأهلية اللبنانية وتقرير رزمة من الإصلاحات اهمها انشاء مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين وقد انيط به ايضا حق تفسير الدستور والبت بالطعون الإنتخابية. وقد دخلت هذه الإصلاحات ما عدا بند تفسير الدستور في دستور 1990.
لكن الملفت ان المجلس الدستوري الذي اصبح نصا دستوريا لم تحدد الحكومة دقائق تطبيقه الا بعد ثلاث سنوات مع صدور قانون انشاء المجلس الدستوري في العام 1993 (القانون رقم 250/93)، ولم يعين اعضاء المجلس العشرة الا في نهاية العام 1993. اما النظام الداخلي فلم يصدر القانون العائد له الا في العام 1996 الذي الغي لاحقا في العام 2000 وحل محله القانون رقم 243.
ما تجدر ملاحظته هنا ان القانونين المذكورين اعلاه هما قانونان عاديان وينظمان بندا دستوريا،لذلك كان يجدر ان يكونا قانونين دستوريين.
قبل انشاء المجلس الدستوري في لبنان لم تكن ثمة رقابة دستورية لأن دستور 1926 لم يلحظ نصا بهذا الإتجاه. ومن جهة ثانية كان ممنوعا على المحاكم العدلية والإدارية ان تنظر في دستورية نص اذا كانت مدعوة لتطبيقه وكل ما يمكنها ان تفعل هو الإمتناع عن تطبيقه اذا وجدته غير دستوري.
بيد ان الحماية الحقيقية لدستور ما قبل الطائف وإن كانت حماية ناقصة تجد مداها في ما ورد في المادة 57 من الدستور التي تمنح رئيس الجمهورية وحده حق طلب اعادة النظر مرة واحدة في القانون الوارد اليه لإصداره لأي سبب بما في ذلك مخالفة الدستور.
ما تجب ملاحظته انه في ما بين العام 1993 والعام 2012 صدرت عشرة قوانين تتعلق بالمجلس الدستوري يتناول معظمها شروط تعيين اعضاء المجلس وكيفية اتخاذ القرارات... لكن ابرز هذه القرارات كان القرار رقم 671/2005 الذي قضى بتجميد عمل المجلس الدستوري. وعلى الرغم من ان المجلس ابطل هذا القانون لعدم دستوريته لكن المجلس توقف كليا عن العمل حتى العام 2009.
غداة صدور قانون انشاء المجلس الدستوري اثيرت مسألة معرفة الطبيعة القانونية لهذا المجلس لأن المادة الأولى من القانون اكتفت بالقول ان المجلس هو هيئة مستقلة، لكن المادة الأولى من قانون النظام الداخلي اوضحت ان المجلس الدستوري هو هيئة دستورية ذات صفة قضائية.
من جهة اخرى يعتبر المجلس الدستوري مؤسسة دستورية من خارج النظام القضائي ومستقل تمام الإستقلال عن القضاء العدلي والإداري وقراراته مبرمة وتتمتع بقوة القضية المقضية ولا تقبل اي طريق من طرق المراجعة وملزمة لجميع السلطات.
ومع ان المجلس الدستوري في لبنان يعتبر اهم مؤسسة قانونية اصلاحية، فإن هذه المؤسسة تعرضت لمعوقات متعددة تهددها.
ان اول مشكلة مواجهة المجلس الدستوري هي في حجب حقه في تفسير الدستور مع ان معاهدة اتفاق الطائف منحته هذا الحق، ما ادى الى عدم استقرار سياسي والى بلبلة في التشريع.
المشكلة الثانية تتمثل في ان قانون انشاء المجلس ونظامه الداخلي صدرا بموجب قانونين عاديين ما يعني سهولة تعديلهما لأن نصاب التصويت في القانون العادي هو نصاب عادي. لذلك يكون من المنطقي ان يرد هذان الموضوعان في نص في الدستور حيث نصاب التصويت هو اعلى من النصاب العادي.
المشكلة الثالثة تكمن في آلية اختيار قضاة المجلس وفي آلية اصدار القرارات. معلوم ان عدد قضاة المجلس هو عشرة. نصف هذا العدد تعينه الحكومة والنصف الآخر يعينه مجلس النواب. فقد اثبتت التجربة ضعف هذه الصيغة وعدم قدرتها على الصمود بوجه قاعدة «نكران الجميل» تجاه من له الفضل في التعيين وقد ظهر هذا الضعف في اكثر من مناسبة ما خلق الشك في قدرة المجلس على اتخاذ قرارات حاسمة.
لذلك لا بأس من اعتماد طريقة اختيار اعضاء المجلس «بالقرعة» تتولى سحبها هيئة موثوق بها وفقاً لإجراءات بسيطة مع مراعاة قاعدة التوازن الطائفي. وهكذا لا يعود القاضي المعين عضوا مدينا بمركزه لأية جهة.
والمشكلة الرابعة تتعلق بتوسيع دائرة اصحاب الحق بالطعن بدستورية القوانين كأن يمنح هذا الحق للأفراد وللمجلس نفسه للحيلولة دون صدور قوانين غير دستورية فقط لأن احدا ممن يحق له الطعن لم يطعن بها. والأمثله على هذا الواقع اكثر من ان تعد.
لهذا علينا ان ندعم مجلسا دستوريا شفافا ليتمكن من ضبط الحركة التشريعية بأعلى معايير الشفافية والحياد لأننا بذلك نكون قد بدأنا الخطوة الأولى في بناء دولة القانون.

مدعي عام التمييز سابقاً