بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 آذار 2023 12:20ص عجز في محاربة التضخُّم؟

حجم الخط
لا شك أن هنالك تخبطاً عالمياً في ما يخص محاربة التضخم. تجارب الماضي لا تصلح لأن طبيعة التضخم الحالي مختلفة. في الماضي، كان التضخم ينبع من الطلب وبالتالي تخفيفه يساهم في تخفيف نمو الأسعار. هكذا كان حال السبعينات وثمانينات القرن الماضي وغيرها من التجارب الحديثة نسبيا. أما تضخم اليوم فهو مزيج من زيادة الطلب وانخفاض العرض، وبالتالي الوسائل التي بيد السلطات العامة محدودة، وهنا تكمن المشكلة. كما أن اقتصاد اليوم تغير كثيرا حتى بالنسبة لما كان موجودا في بداية القرن، اذ يمكن وصف الأوضاع بالهروب من العولمة ومن انفتاح الأسواق وهذا يغير كل شيء تقريبا في السياسات والنتائج.
كيف يمكن وصف أوضاع اليوم الاقتصادية العالمية؟ هنالك ضعف عام في النمو كما أشار اليه صندوق النقد الدولي في أحدث توقعاته. قدر النمو العالمي في 2022 بـ 3,4% ومن المتوقع أن ينخفض الى 2,9% هذه السنة في أفضل الأوضاع والفرضيات. هذا الواقع اصاب أكثرية دول العالم حتى الصين الذي انخفض نموها من 8,4% في 2021 الى 3% في 2022. من الدول القليلة التي عرفت النمو القوي هي المملكة العربية السعودية حيث ارتفعت النسبة من 3,2% في 2021 الى 8,7% في 2022، وهي النسبة الأعلى في مجموعة العشرين.
لا يعود النمو السعودي القوي فقط الى ارتفاع أسعار النفط، وانما أيضا الى تطبيق الاصلاحات الداعمة لتنويع وتحرير وتوسيع الاقتصاد ومكافحة التلوث كما تشجيع السياحة والمهرجانات الدولية مما يفسر نسبة التضخم المعتدلة أي 2,8% لسنة 2022. هذه الاصلاحات هي داعمة للاستثمارات ولقطاع الأعمال والمؤسسات العامة. أما نسبة مشاركة المرأة في الاقتصاد، فتضاعفت خلال الأربع سنوات الأخيرة ووصلت الى 33%. يتم تحديث الاقتصاد عبر التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي. تمتد هذه النجاحات الى دول الخليج الأخرى، وتبين ذلك مؤخرا في قطر خلال استضافة بطولة كرة القدم العالمية حيث أدهشت العالم بحسن التنظيم والاستقرار. أما استضافة دبي لأكسبو2020، فكان مضرب مثل لحسن التنظيم ولتحويل هذه المنشأت الكبيرة لاحقا الى حاجات أخرى لا تقل أهمية.
هنالك خوف عالمي من حدوث ركود قوي يطيح بالاستقرار الاجتماعي في معظم الدول. قيام المصارف المركزية الأساسية برفع الفوائد هو في محله لضرب التضخم، انما يمكن أن يسبب ركودا وبالتالي ارتفاعا في البطالة. هذا يحدث في وقت يقتنع فيه العالم أن نسب التضخم ستبقى قوية أي يحتاج أكثر فأكثر الى فوائد أعلى،وبالتالي خطر الركود يكبر. لا يمكن للمصارف المركزية أن تتفرج على ما يحصل حتى لو اقتنعت أن ليس في قدرتها القضاء على التضخم.
تكمن المشكلة وفي حال طالت الفترة التضخمية، أن تدخل نسبة التضخم العالي في صلب توقعات المواطنين والشركات أي في حياتهم وأعمالهم مما يعرقل أكثر مهمة المصارف المركزية. لذا لا رأفة تجاه التضخم من قبل المصارف المركزية، اذ أن التحرك السريع القوي هو الأداة الأساسية في يد السلطة النقدية. هنالك اذا حدود لمدى نجاح السلطات النقدية في الفوز على التضخم من دون احداث ركود قوي يمكن أن يكون أسواء من التضخم. أما السياسات الأخرى المحاربة للتضخم فيجب أن تأتي من جهة العرض، وهنا الصعوبة:
أولا: تعتبر الصين العارضة الأكبر للسلع والخدمات في الأسواق العالمية. السياسة المكافحة للكورونا لم تعطِ نتائج جيدة وسببت اقفال أهم المدن لفترة طويلة ضيقت معها فرص الانتاج والعرض. أتى الانفتاح الكوروني ليفرض نوعا من الضياع تجاه السياسات العامة المتبعة. هنالك خوف عالمي من تصدير الكورونا الى الغرب، وبالتالي تتعرقل العلاقات مع الصين. كما أن المواجهة الباردة الحاصلة مع الولايات المتحدة بشأن تايوان الصينية والجمارك على الواردات كما بشأن الصادرات التكنولوجية اليها وغيرها تعزز جميعها التوتر واحتمال المواجهات القاسية.
ثانيا:أوضاع المناخ كانت وما زالت مؤذية هذه السنة، وما شاهدناه من حرائق وفياضانات وجفاف وغيره يؤذي الحياة ويظهر للعالم أجمع أن المجتمعات غير مجهزة بعد كما اعتقدنا لمواجهة الطبيعة عندما تضر بالانسان والحياة. كيف للعرض أن يزدهر في تلك الأجواء؟
ثالثا: هنالك نقص في العمالة في العديد من القطاعات والصناعات بعد الكورونا حيث تحول العديد من العمال والموظفين الى قطاعات جديدة مختلفة. تحاول الحكومات تعويض النقص عبر عمال وموظفين مؤقتين حيث يطلب تحويلهم طوعا من قطاعات الى أخرى لمدة محدودة. على سبيل المثال هنالك نقص كبير في عدد أساتذة المدارس في فرنسا ويحاولون التعويض عنهم من أصحاب الاختصاص،وهذا ليس سهلا اذ يحتاجون الى التدريب على العلوم الجديدة وكيفية نقلها الى الطلاب. في فرنسا نفسها هنالك نقص كبير في عدد سائقي باصات الطلاب لنقلهم بين المدرسة والمنزل، وملء الفراغ ليس سهلا ويتطلب برمجة كبيرة وتدريبا وتوزيعا أفضل لأوقات العمل. لا ننسى أبدا الاضرابات التي تحصل هذه السنة بسبب الأجور والمنافع وتعويضات نهاية الخدمة وعمر التقاعد والتي أثرت سلبا على العرض ونفسية المواطن.
رابعا: لا يمكن أن ننسى ضمن التحديات التي تواجهنا الحرب الروسية في أوكرانيا والتي تبقى مسؤولة عن أهم مشاكلنا في الطاقة والغذاء والحبوب والأسمدة والأدوية في الأسعار والكميات.
تبعا لما سبق ولصعوبة القضاء على التضخم في الظروف الحالية، لا بد للسلطات المالية والنقدية من أن تدير الأمور ضمن عالم تضخمي دائم أو أقله سيدوم لفترة غير قصيرة. غياب العولمة وتدني انفتاح الأسواق وحرية الانتقال تساهم جميعها في جعل العلاقات الدولية أصعب. من الممكن أن تتعزز عندها العلاقات الاقليمية بحيث تكتفي الدول بما يتوافر لها من سلع وخدمات وأموال قريبة جغرافياً، أي في متناول اليد.