بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 تشرين الثاني 2021 12:00ص أوراق بيروتية 41 متى تطلق البلدية اسم عمر غزاوي على أحد شوارع محلة رأس النبع؟

حجم الخط
 بيروت قرية ومدينة في آن معا.. لا القرية ينبغي لها أن تهمل متطلبات المدينة وظروفها، ولا ينبغي للمدينة أن تطمس تراث القرية وتقاليد أهلها وما قام به أعلامها من مآثر ومناقب. ومن المرجح القول ان محاولتي تغييب دور القرية وتاريخها لم يكن عفوا أو بنيّة حسنة. المحاولة الأولى كانت تأليف سلطة الانتداب لجانا عقارية لم تضم في أعضائها إلا القليل من البيارتة للقيام بالمسح والتحديد والتحرير العقاري، وكان من أعمال اللجنة ان شطبت أسماء محلات ومناطق بيروت القديمة كالحدرة والدركاه والشيخ رسلان والفاخورة والتوبة والرجال الأربعين وغيرها ودمجتها بإسم محلة المرفأ. وكانت المحاولة الثانية تأليف سلطة الانتداب لجنة لتسمية أسماء الشوارع فلم يكن اغفالها سهواً أسماء أعلام بيروتية كمحمد عمر منيمنة وعمر غزاوي وغيرهما..

البيئة والنشأة
نشأ عمر بن درويش ابن الشيخ رجب الغزاوي في محلة رأس النبع وفي أسرة محافظة اشتهر رجالها بالفقه والتدريس والتجارة وعمل الخير والبرّ. فكان منهم جدّه لأبيه الشيخ رجب الغزاوي الذي زرع في أبنائه وأحفاده التقوى وعمل الخير. وكان منهم العالِم الفاضل المحدّث الشيخ حسين الغزاوي الذي توفي سنة 1896م وصُلّي عليه في الجامع العمري الكبير، ثم نقل نعشه بالتهليل والتكبير بمشهد من العلماء والوجهاء وبعض مأموري الحكومة وخلق كثير وأمامهم فرقة من الجند الشاهاني إلى جبانة الباشورة. وكان منهم الشيخ أحمد توفيق الغزاوي الذي عهدت إليه وظيفة التدريس في جامع الأمير عساف التركماني (السراي). والحاج مصطفى أبو سعد الدين أحد مشايخ الطريقة الصوفية السعدية الجباوية. واشتهر من أسرة الغزاوي قديما عدة أفراد منهم سعيد الغزاوي الذي كان أحد أبطال لعبة السيف والترس في بيروت. كما راج في العصر الحديث دور أنور غزاوي في مجال التجارة البحرية.
آل الغزاوي في رأس النبع
كانت محلة رأس النبع الغربي تتضمن عدة بساتين وكروماً. وكانت غالب عقارات آل الغزاوي في تلك المحلة. منهــا «كرم الغزاوي» الذي كان بتملّك محمد الغزاوي. وظهرت أسماء بعض أفراد أسرة الغزاوي في وثائق خاصة بالمحلة المذكورة. ففي الوثيقة الشرعية المؤرخة في السابع والعشرين من شهر صفر الخير سنة 1259هـ/ 1843م حضر إلى المجلس الشرعي إبراهيم بن مصطفى مكّنيها وكيلاً عن آمنة بنت إبراهيم جمال الدين بشهادة الأخوين الحاج خليل والسيد درويش ولدا المرحوم الشيخ رجب الغزاوي، وباع الوكيل إلى وردة بنت يوسف اده زوجة يوسف البدوي التي قبل عنها الشراء الحاج خليل الغزاوي، العودة المفرزة من بستان بني جمال الدين المعروفة بعودة بئر السّت الكائنة بمزرعة رأس النبع، يحدّها قبلة ملك بنات معوض كرم وتمامه ملك أولاد حسن القيسي وشرقاً ملك زوج المشترية وتمامه ملك علي بن أحمد جمال الدين وغرباً الطريق السالك. وكان بين شهود الوثيقة الحاج إبراهيم الغزاوي.
وفي التاسع عشر من شهر ذي القعدة سنة 1280هـ/ 1865م باع يوسف بن مارون شكري وزوجته قطعة أرض كائنة في مزرعة رأس النبع يحدّها قبلة ملك محمد سراج وشمالاً وغرباً ملك الحاج خليل الغزاوي. وفي الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 1309هـ/ 1891م تم إفراز عقار في محلة رأس النبع الغربي (أي إلى الغرب من طريق الشام)، يحدّه قبلة ملك محمد ابن الحاج خليل بن رجب الغزاوي، وغرباً ملك الحاج عبد القادر بن مصطفى بن عبد القادر الشعار، وشمالاً إلياس بن طنوس البرنس وإلياس بن إبراهيم بن عبد الله أبي سمره، وشرقاً موسى بن أنطون اليازجي الشامي ويوسف وحبيب ولدي خليل بن نصر نصر. وتبيّن من السجلات العقارية ان العقارين 1016 و1017 المزرعة (رأس النبع) كانا بتملّك سعد الدين بن مصطفى غزاوي وسعد الدين بن مصباح غزاوي. فيما تفيد الوثيقة المؤرخة في السادس من شهر رجب الفرد سنة 1308هـ/ 1890م أن منصورة بنت محمد بن سليم حمود تملك سهماً في قطعة أرض في رأس النبع يحدها شرقاً الطريق السالك الآخذ إلى حرج بيروت وغرباً بعضه ملك سعد إبن الحاج إبراهيم بن مصطفى الغزاوي. يذكر أن الحاج خليل الغزاوي (توفي سنة 1930م) أحد رؤساء نوتية بيروت كان يملك قطعة أرض في محلة رأس النبع، عثر في البئر التابع لها على بقايا جثة نديم المصري الذي اتهم سنة 1926 بقتل الدكتور عبد الله المدور.
تجارة عمر غزاوي ومنزوله
عمل عمر الغزاوي في تجارة المواشي والجلود مع آل الشخيبي وسعد الله حلابه التاجر الإسكندراني، وكانت لهم عدة مراكب للشحن منها واحد بإسم راجي كريم والثاني بإسم قاصد كريم. ويلفت النظر تسمية المركبين براجي وقاصد كريم (الله) للدلالة على أخلاق أصحابهما. وراجت تجارتهم وحققوا ثروة كبيرة كان لفعل الخير فيها حقا معلوما للسائل والمحروم. والتزم عمر غزاوي سنة 1883م دباغة الجلود.
واشترى عمر غزاوي دار عبد الغني رمضان الكائنة في محلة الدباغة بمبلغ 2600 ليرة ذهبية، وكانت كبيرة فسيحة يحدّها شرقاً وشمالاً شاطئ البحر، وغرباً أرض قلعة بيروت، ويحدّها قبلة طريق سالك إلى باب الدباغة. وكان يتبع الدار قسم مستقل بمثابة دار للضيافة (منزول) شهد هذا الأخير في عهد عمر غزاوي وقائع مشهورة. وكانت هذه الدار قد أنشئت سنة 1860 وقال فيها الشيخ قاسم أبو الحسن الكستي:
دار به طلل الهنا
ابدا بإقبال يدور
والبحر أصبح جارها
مع انها فلك البدور 
من زارها تاريخه
زار السعادة والسرور
نزل في منزول عمر غزاوي الكثير من الساسة والولاة والعلماء. روى الشيخ يوسف النبهاني أن صاحب الكرامات الشهير الشيخ علي العمري الطرابلسي قَدِم إلى بيروت مرة في حياة التاجر عمر الغزاوي، فنزل ضيفاً عنده. ففي بعض الأحيان جاء فوجد الخدامين قد ذهبوا ودار الضيافة مغلقة الأبواب، فتحيّر من معه في ذلك وذهب البعض ليفتش عن الخدامين الذين معهم المفاتيح، فقال الشيخ: لا يلزم، لا يلزم، ووضع يده على الأبواب ففتحت. ثم حضر الخدامون بعد ذلك والمفاتيح معهم.
وفي سنة 1878م نزل حسن أديب باشا رئيس أركان حرب المعسكر الخامس، وتحسين بك دفتردار الولاية وعثمان بك متصرف لواء حوران، بدار عمر غزاوي. وعندما قَدِم والي سورية مدحت باشا إلى بيروت سنة 1878م أقيمت له عدة مآدب منها واحدة في دار عمر غزاوي. وفي سنة 1879م قَدِم إلى بيروت العالم الورع الإمام القصبي شيخ الجامع الأحمدي في طنطا (جامع السيد البدوي) فنزل في دار عمر غزاوي وهرع العلماء للسلام عليه فيه. وعندما قامت في بيروت ضجة إثر مقتل أسعد منسى، قَدِم إلى بيروت من سورية المدعي العمومي ونزل بدار عمر غزاوي. كما أن الوالي أحمد حمدي باشا الذي عيّن والياً على سورية بعد مدحت باشا قدم سنة 1880م إلى بيروت وأعدّ له بيت عمر غزاوي. وفي شهر شوال سنة 1293هـ/ 1875م توفي مصطفى آغا إبن رسول بن عبد الله الأزروملي في دار عمر غزاوي، وحررت تركته بحضور سعيد آغا إبن صادق حاسبيني يوزباشي ضبطية بيروت، وتبيّن أنه نصب وصياً مختاراً عمر غزاوي وأوصى لعتيقه سرور بن عبد الله الزنجي بمبلغ 1350 قرشاً.
وفي دار عمر غزاوي مثلت رواية من تأليف الشيخ إبراهيم الأحدب، تكريماً للتاجر سعد الله حلابه شريك الغزاوي، قرظها الشيخ قاسم الكستي بقصيدة مطلعها:
رواية أكسب الأفكار معناها
عجباً وقد أرقص الأسماع مغناها
روى الشاعر قاسم أبي الحسن الكستي أنه لما حضر سعد الله حلابه إلى بيروت ونزل بدار عمر غزاوي، اجتمع به وحظي بالأنس من مسامرته بحضور ظرفاء من بيروت تنعمت الحواس بمجالستهم، فقال ذاكراً تلك الليالي الكريمة بقصيدة مطلعها:
بلغت بسعد الله غاية قصدها
بيروتُ وانتظمت فرائد عقدها
عمر غزاوي رجل البرّ والإحسان
وكان لعمر غزاوي من المبرّات وأعمال الخير ما لا يزال أثره باقياً على مرّ الأيام. من قبل وبعد تأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية. فعندما انتشر وباء الهواء الأصفر في بيروت سنة 1875م وما بعدها، قام عمر غزاوي بدور كبير في بذل الهمّة لإغاثة الفقراء والمساكين طيلة فترة انتشار المرض مما أوجب له الثناء والشكر. ومنح إثر ذلك في نيسان 1876م النيشان المجيدي من الرتبة الرابعة. يذكر أن عمر غزاوي عيّن سنة 1881م عضواً في مجلس إدارة لواء بيروت. ومنح سنة 1876م نيشان الصداقة من الدولة العثمانية فمدحه الكستي بقصيدة مطلعها قائلاً:
لاح بدراً وتثنّى غصنَ بان
وهما عن أصل وجدي معربان
ومنها:
قلت لما حاز من دولته 
سيمةً تعرب عن عزّ وشان
شرفا أرّخ بهِ قلده
سعده من دولة المجد نشان
وإثر الحرب التي قامت بين الدولة العثمانية وروسيا، تألفت في بيروت سنة 1877م أول جمعية خيرية لإغاثة الفقراء وعيال الرديف. وكانت مؤلفة من عبد القادر بن عبد الله بيهم ومحيي الدين عبد الفتاح حماده وحسن محمد القاضي وزين عبد الله سلام وعمر درويش الغزاوي وكانت هذه الجمعية موضع ثقة الأهالي. ففي سنة 1294هـ قرر القاضي الشرعي إعطاء الجمعية المذكورة مائة قرش من وقف فاطمة بنت عبد القادر الجبيلي الشهير بأبي رأسين. وإعطاء الجمعية 125 قرشاً من وقف شقيقتها بدرة الجبيلي. يذكر أن وقفيتي فاطمة وبدرة كانتا من ضمن الأوقاف التي سلّمت لجمعية المقاصد بعد تأسيسها. وتألفت في طرابلس أيضاً سنة 1877م جمعية لإعانة الرديف بحضور عمر غزاوي وعمر بلوز من بيروت.
وبعد تأسيس جمعية المقاصد، تألفت لجنة برئاسة المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري وبنظارة النائـــــب عبد الله جمال الدين، لدرس الأوقاف المرصودة على التعليم والتطبيب ومساعدة الفقراء، والتي أصبحت أعيانها متخربة أو متهدّمة أو بدون ناظرٍ أو متولٍ. فوضعت اللجنة جدولاً بالأوقاف المذكورة حملها عمر غزاوي إلى دمشق واستحصل على توقيع والي سورية مدحت باشا بتسليم الأوقاف المذكورة إلى الجمعية.
وفي سنة 1880م تألفت لجنة من أهالي بيروت لجمع الأموال لإصلاح عين زبيدة في مكة المكرمة فكان عمر غزاوي أحد أعضائها. وعندما تأسست المدرسة السلطانية سنة 1883م تبرّع عمر غزاوي بتعليم إثنين من أبناء الفقراء على نفقته وبعد حلّ جمعية المقاصد وتحويلها إلى شعبة المعارف الأهلية عيّن عمر غزاوي عضواً فيها.
توفي عمر غزاوي سنة 1885م عن عمر لم يتجاوز إحدى وخمسين سنة. ورفعت جنازته الى الجامع العمري الكبير يتقدمها فرقة من العساكر ومشايخ الطرق. ودفن في مدفن الصحابية أم حرام رضي الله عنها في جبانة الخارجة. وقد توفي عن زوجته خانم بنت مصطفى بن مصطفى نجا، وعن والدته رقية بنت عبد القادر بن مصطفى سعادة، وعن أولاده عبد الله ودرويش وسيدة وسارة ولبوة ورهيفة، وكان من الطبيعي مع ما انطوى عليه خلق عمر غزاوي سار أبناؤه على دربه في عمل الخير. فكان ابنه عبد الله أحد مؤسسي جمعية المقاصد. وقام بتأمين سفر خمسة طلاب من المقاصد إلى كلية طلب القصر العيني في مصر. كما أسهم وسعى في ضمّ الأولاد الذين لم يكن لهم مأوى ولا بيدهم حرفة، إلى مدرسة الصنائع بدمشق. وتبرّعت كل من شقيقتي عبد الله، سارة ورهيفة، بنفقات إنشاء غرفة في دار الأيتام الإسلامية، كما تبرّعت زوجة عبد الله فاطمة الشخيبي بنفقات إنشاء غرفة في الدار المذكورة.
عمر غزاوي وجامع عثمان ذي النورين (رأس النبع)
ومن مآثر عمر غزاوي الباقية تبرّعه سنة 1885م ببناء جامع عثمان ذي النورين فــــي رأس النبع على قطعة أرض قدّمها علي الشخيبي، فقد كان من تقاليد جمعية المقاصد العمل على إنشاء جامع قرب مدرسة عثمان ذي النورين.
وبعـــــــــــــــد 
قال شكسبير في رواية «يوليوس قيصر»: السيئات يقترفها الناس، فيمضي فاعلوها وتبقى وأما الحسنات فغالباً ما تدفن مع رفاتهم تحت الثرى. ولولا أن سرعة نسيان الحسنة من طبيعة الإنسان، لما كان بالقائل حاجة أن يقول للناس «اذكروا محاسن موتاكم».
فمتى تطلق البلدية اسم عمر غزاوي على أحد شوارع محلة رأس النبع؟ ومتى تضع مديرية الأوقاف الإسلامية لوحة عند مدخل الجامع تبيّن تبرّع عمر غزاوي ببنائه على نفقته وعلى أرض قدّمها علي الشخيبي؟

* مؤرخ