بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 تموز 2022 12:00ص أوراق بيروتية (73).. التأثّر والتأثير: الريع لفقراء المسلمين والمسيحيين (2/4)

وثيقة أبــد الآبــديــن وثيقة أبــد الآبــديــن
حجم الخط
لم يكن عمل الخير عند البيارتة لرغبة منهم في وزارة أو إدارة أو نيابة، بل كان لوجه الله الكريم. لم يطلبوا حمداً ولا شكوراً، ولا استقدموا آلات التصوير ولا المصورين، ولا جمعوا عشرات الدروع والنياشين، ولا نظموا حفلات تكريم، ولا منّوا على المحتاجين، بل كانوا يبحثون عن الفقير والمحتاج وعن العائلات المستورة التي لم يتكفف أبناؤها الناس بالسؤال. وقد أدّت أعمال الخير إلى بناء المدارس والمستشفيات وإنشاء مؤسسات لخدمة المجتمع المدني بكل طوائفه وأفراده.
تضمنت سجلات محكمة بيروت الشرعية التي تعود الى سنة 1843م وما يليها مئات الوثائق التي تعتبر نماذج رائدة في مجال التعاون والتكافل بين المسلمين والمسيحيين.

الناس شركاء في المياه
تبيّن الوثائق الشرعية الكثير من الأسبلة بالمياه الجارية المنتشرة في مناطق مختلفة من بيروت والتي تبرع بها أصحابها لوجه الله عن أرواح أقربائهم. فقد أنشئت بركة السوق على نفقة محمد السراج سنة 1819م. أرّخه المفتي عبد اللطيف فتح الله بقوله:
يا حسنها خيرية أوصى بها
حتى له بالخير ربي يختمُ
أوصى بها السراج وهو محمد
لا زال في روض الجنان ينعّم
يا شاربون يحق أن تدعوا له
أرّخ بها وعليه أن تترحموا
وانشأ درويش القصار سنة 1686م بركة أوقفها للسابلة. وابتنى حسين بك (الفاخوري)، أمين ديوان بيروت، سنة 1226هـ/ 1811م في ساحة الحنطة سبيلا مثمّن البناء والماء يخرج من ثمانية أنابيب، فأرّخه المعلم نقولا الترك:
أنابيب الزلال العذب فاضت
فردّها أيها الظمـآن فورا
وصل أوفى دعاء مستديما
لإحسان الحسين وكن شكورا
همام في سبيل الله انشي
سبيلا فيه قد غنم الأجورا
فأرّخ جاء بنوا كرام قوم
سقاهم ربهم كاسا طهورا 
 وفي 27 صفر الخير وقف محمد صالح سوبرة صهر الشيخ محمد الحوت لشقيقته البئر النابع في أرضه وسبّله لمن أراد أن يملي منه، لا يعارضه معارض ولا يمانعه ممانع. ووقف مفتي بيروت الشيخ محمد الحلواني ماء نابعاً في أرضه في محلة الباشورة لمنفعة عموم الناس. وقد بنيت أسبلة قرب جبانات المصلى والسنطية والباشورة ومقبرة اليهود. وعُرف سبيل ام جمعة في راس النبع وسبيل شكري سابا في المزرعة.
ومن المعروف ان الأسبلة كانت لعموم النّاس، مسلمين ومسيحيين، فلا يسأل من يردّها عن دينه أو طائفته أو أصله إذا كان من الأشراف أو العامة ولا يطلب منه إخراج قيد أو هوية.
والحمامات العمومية مثل الأسبلة مباحة للجميع لا فرق بين غني وفقير أو كبير وصغير.
الناس شركاء في ريع الأوقاف
تُعلمنا مئات الوثائق الوقفية ان المسلمين والمسيحيين خصّوا قسما من ريع أوقافهم على فقراء بيروت لأية طائفة انتموا. من هؤلاء متري شبلي دياب ومريم توما منسى وخديجة زين حطب وعبد الله ناعسه وحبيب الصباغ وأمين رمضان وغيرهم.. فعلى سبيل المثال وقف عبد الله روكس ناعسة في 27 جمادى الأولى 1293هـ/ 1874م عقاراته في زقاق نجا بمحلة الرميل على نفسه وزوجته ثم على راهبات دير المحبة العازرية ومآله وقفا «على عموم الفقراء في بيروت».
وفي 6 ذي الحجة 1320هـ/ 1903م وقفت مريم بنت توما منسى الألمانية دكانتين في ميناء الحسن على نفسها وولدها ثم على فقراء طائفة اللاتين في بيروت ومآله يكون وقفا على عموم الطوائف، مسلمين ومسيحيين.
وفي آخر ذي القعدة 1313هـ/ 1896م وقف يوسف بن ديمتري بن نصور سرسق قطعة أرض في الاشرفية على فقراء مستشفى مار جرجس للروم الأرثوذكس قس بيروت ومآله وقفا على عموم فقراء طائفة الإسلام والمسيحية القاطنين في بيروت. كما وقف جرجس بن يوسف طنوس التويني قطعة أرض بمحلة الرميل وبناية في ميناء البصل على ابنته وأولادها ومآله على فقراء بيروت عموما. وأخيرا في آخر شوال 1294هـ/ 1780م وقف خليل بن إبراهيم بن الحص دارا في محلة القشلة وبساتين في القنطاري وأرض في راس بيروت ودكانة قرب زاوية الأوزاعي على نفسه وأولاده وأنسالهم وإذا انقرضوا عاد الوقف «على الفقراء المستورين من ذوي البيوت في بيروت الذين لم تسبق لهم عادة تكفف الناس بالسؤال».
يذكر ان بطرس فضول داغر وقف عشرين ألف ليرة ذهبية يعود ريعها الى الفقراء من أي طائفة كانوا، كما تبرّع بمئة ليرة ذهبية لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية عند تجديدها. كما اعتاد يوسف سرسق على التبرع سنوياً بخمسين كيساً من الدقيق توزع على الفقراء من كل الطوائف. وتبرّع البطريرك إلياس الحويك بمبلغ 15 ليرة فرنساوية للجنة الخيرية الإسلامية توزعها على فقراء المسلمين.
بتاريخ أول شوال سنة 1239 هجرية/ 1824 ميلادية وقفت مريم الراهبة بنت موسى الحداد وحبست «للّه تعالى جلّ جلاله ومحبة بمرضاته عمّ نواله... البستان المعروف ببستان مراجل الكائن بأرض الدحداح بظاهر بيروت يحدّه قبلة بستان ابن الفاخوري وشرقاً بستان ابن النجار ناصيف وشمالاً اولاد مراجل وغرباً بستان بيت قرانوح وكذلك البستان الكائن في ميدان البلشه على نفسها وبعد موتها على فقراء طائفتها وعند انقطاعهم على الحرمين الشريفين...»، صدّقت الوقفية في 14 ذي العقدة 1239هـ/ 1824م وأثبت محمد سعيد قاضي بيروت الشرعي تلك الوقفية في معرض نزاع على زراعة البستان في وثيقة مؤرخة في 27 شعبان 1278هـ/ 1861م.
الاحتفال بإنشاء الوقف
درج البيارتة على تكريم أعمال الخير والاحتفال بإنشاء الوقف بحضور مجلس إنشائه، فعلى سبيل المثال عندما وقف جرجي التويني داره عقد في بيته في الرميل مجلس شرعي حضره مفتي المدينة الشيخ عبد الباسط الفاخوري ونقيب أشرافها عبد الرحمن النحاس والسادة محيي الدين بيهم ورئيس البلدية محيي الدين حماده ومحمد عبد الله بيهم وإبراهيم الطيارة واسكندر تويني واسكندر جرجي ونخلة ونجيب سرسق..
معالجة الأطباء ومساعدة المحامين للفقراء مجاناً
وسار الأطباء على تحديد أيام من كل أسبوع لاستقبال المرضى الفقراء ومعاينتهم مجاناً، كما تبرّع بعض الصيادلة بتقديم الأدوية مجاناً أيضاً. توافق الأطباء: فان ديك وإيليا واكيم وأديب قدورة وسليم جلخ، على اتخاذ عيادة أحدهم - واكيم - سنة 1883م مركزاً لمعاينة المرضى الفقراء مجاناً من أية طائفة كانوا. وكان أول من ساعد جمعية المقاصد، عندما سعت سنة 1879م لمعالجة الفقراء، الدكتور نخلة مدور والصيدليان جرجي طنوس عون ومسعود الحيمري.
وسار المحامون على هذا الطريق، فأعلن فائق غرغور سنة 1890م أنه «خصص قسماً من وقته لقبول أصحاب الدعاوى الذين ثبت فقرهم فينظم لهم أي ورقة ويدافع عنهم أو لهم مجاناً أمام المحاكم المحلية..». وأعلن اسكندر كنعان سنة 1893م قائلاً «أما الفقراء فقد عمدنا أن نقضي أشغالهم مجاناً لوجه الله الكريم». وأصدر داود نقاش إذاعة سنة 1894م بعنوان «على الله الإتكال» قال فيها بأنه «يرافع في دعاوي الفقراء مجاناً شرط وجود شهادة من رئيسهم الروحي».
وسادت فكرة عمل الخير وتعميمه من خلفية روحية دينية أساسها التقوى المتمثلة بالقناعة وحسن المعاملة. يذكر أن المعلم بطرس البستاني نشر سنة 1859 كتاباً بعنوان «روضة التاجر في مسك الدفاتر» وهو أول كتاب يبيّن كيفية مسك الدفاتر وتنظيم الحسابات، وأورد أمثلة على ذلك منها ما كان التاجر يقيّده في دفتر الصوافي أي الأرباح الصافية، وقد ورد في بند التصفية 50 قرشاً وشرح التاجر معناها بعبارة «ربح من كرمه تعالى»، كما طالما تردد أن التاجر إذا جاءه زبون ثانٍ قال له: روح اشتري من عند جاري أنا استفتحت.
الناس شركاء في قفّة الخبز
وقد تجلّى إكرام البيارتة للخبز بما اشتهر عندهم من «قفة الخبز» التي كانت توضع يوم الجمعة في دكانة في سوق الفشخة (شارع ويغان) وتملأ خبزاً. وكان الفقير المحتاج، يمرُّ إلى الدكان، فيأخذ من القفة حاجته من الخبز.
وقفة الخبز قديمة في بيروت، جاء أول ذكر لها سنة 1686م عندما أنشأ الحاج مصطفى محمد القصار بركة في سوق الصبّانة (البازركان) وأوقف حانوتاً لمصالح البركة. فذكر أن البركة مجاورة لحانوت «وقف قفة الخبز». وقد خصص أول مسجل من سجلات محكمة بيروت الشرعية لسنة 1843م لجرد أوقاف قفة الخبز. وقلّما أوقف أحد من أهل الخير وقفاً ذرياً أو خيرياً، إلا وخصّص قسماً من الريع لقفة الخبز.
ففي سنة 1833م وقف يوسف حمود دكاناً في سوق الفشخة ليشترى بريعه خبزاً يوزع على الفقراء يوم الجمعة. وفي سنة 1843م وقف محمد بن محمد اللبان الداعوق أودته المعروفة بأودة ديبـــــو (رأس بيروت) وحدّد مآل الوقف على «قفة الخبز الموضوعة على الفقراء والمساكين في مدينة بيروت»، وفي السنة نفسها وقف مصطفى النقاش أمواله مخصصاً منها خمسين قرشاً للفقراء والمساكين ومحدداً مآل الريع لقفة الخبز. وفي سنة 1863م وقف الحاج محمد الطرابلسي دكاناً، ليشترى بجزء من ريعه خبز يفرّق على الفقراء أيام الجمعة. وفي سنة 1864م وقف أمين آغا رمضان دكاناً في سوق العطارين «لشراء خبز من غلّة الوقف كل يوم جمعة ويفرّق على الفقراء..».
المشاركة في السرّاء والضرّاء
إثر حوادث جبل لبنان الطائفية سنة 1860 كتب خليل الخوري في صحيفة «حديقة الأخبار» (عدد 127) حرفياً «لا يخفى أن كثيرين من فقراء النصارى في جبل لبنان قد التجأوا إلى بيروت منهزمين من نار الشرور التي ثارت في بلادهم، فصادفوا كل مرحمة ومجابرة من أهالي المدينة ولا سيما أمة الإسلام الذين بذلوا لهم المساعدة العظيمة بإعطاء محلات للسكن وبتفريق الخبز وجمع الحسنات، وكل ما يؤول لنفعهم مظهرين الغيرة التي هي من شعائر الإنسانية، وبذلك تمموا إكرام الغريب ونالوا الأجر عند الله والشكر عند الناس. وهنا نثني على جناب العلّامة الشيخ محمد الحوت صاحب البرّ والفضل الشهير الذي لا يفتر عن الإنذار بالخير والصلاح حسبما انطوت عليه سريرته السليمة من محبة العموم وحب السلام. كما أننا لا ننكر فضل العلّامة الشيخ عبد الله خالد وجناب السيد عبد الله بيهم العيتاني رئيس مجلس التجارة وجناب السيد محمد البربير مع المتميّزين من وجوه الإسلام الذين مارسوا أبّهتهم بكل ما يوطّد الألفة والمحبة بين الجميع».
وعندما قصف الأسطول الإيطالي بيروت, في سنة 1912م وما نتج عنه من قتل وتخريب أذاع مطران بيروت أصالة ونيابة عن رؤساء الطوائف المسيحية بياناً أعلن فيه أن أديرة النصارى وبيوتهم في جبل لبنان مفتوحة للأولاد والنساء من المسلمين «الذين نحن معهم في السرّاء والضرّاء فإن حريمهم حريمنا وأولادهم ينزلون عندنا على السعة والرحب ويكونون مصونين محترمين، فإن شبعنا يشبعون قبلنا وان جعنا فلا يجوعون إلا بعدنا».
* مؤرخ