بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 تموز 2020 12:00ص أيام بيروتية ( 30): الروسي إذا غبّر والإنكليزي إذا بحّر والتركي إذا دبّر.. حبلت في القرم والبلقان وولدت في شوران

حجم الخط
مارست الدولة العثمانية سيادتها على المضايق أي على البوسفور وبحر مرمرة والدردنيل التي تشكّل مضيقاً طبيعياً بين البحر الأسود وبحر إيجه الذي هو جزء من البحر الأبيض المتوسط. ونجحت في فرض سيادتها على البحر الأسود بصورة كاملة وكانت تسمح بالمرور فيه وإليه لسفن الدول التي تريدها، حتى ان ممارسة الروس للتجارة بين موانئ البحر الأسود كانت تتم على سفن عثمانية وتحمل العلم العثماني. وبعد ضعف الدولة العثمانية أصبح الدفاع عن المضايق مسؤولية مشتركة بينها وبين روسيا وأصبحت مسألة المضايق احدى المشكلات في علاقة الدولة العثمانية بالدول الأوروبية حتى ان أحد اللوردات الإنكليز اعترض سنة 1861م على مشروع قناة السويس وقال ان بوسفوراً واحداً سبّب لنا متاعب كثيرة وان القناة هي مشروع بوسفور آخر نسلّمه للفرنسيين. وتسببت المضايق وجوارها بأربعة حروب بين الدولة العثمانية وروسيا.

نشبت الحرب الأولى سنة 1735م عندما حاولت روسيا إقامة وجود عسكري لها على الساحل الشمالي للبحر الأسود كمقدمة لبسط سلطانها العسكري على المضايق، وقد فشلت محاولة روسيا وعقدت سنة 1739م معاهدة أعطيت روسيا بمقتضاها بعض التسهيلات.

ونشبت الحرب الثانية سنة 1770م واستمرت حتى سنة 1774م ومُنيت الدولة العثمانية فيها بخسائر كبيرة أدّت الى تحوّل البحر الأسود من بحيرة عثمانية خاصة الى بحيرة عثمانية/ روسية. وبموجب معاهدة كتشوك كينارجي وصلت روسيا الى تحقيق حلمها القديم المزمن بالوصول الى المياه الدافئة، بحيث أصبح مرور سفنها الى البحر المتوسط حراً ومنح السلطان للروس نظام الامتيازات capitulations التي أعطيت لرعايا دول أخرى (فرنسا، بريطانيا). والأهم في المعاهدة انها وضعت تحت سيطرة روسيا قلعتين واقعتين في شبه جزيرة القرم مع ما يحيط بهما من منشآت.

واضطرت الدولة العثمانية بعد حملة نابليون على مصر سنة 1798م الى عقد معاهدة مع روسيا تعهدت فيها هذه الأخيرة بأن تمدّ القوات العثمانية بقوات برية تصل حتى ثمانين ألف جندي روسي، كما منح السلطان سليم بريطانيا حرية الملاحة في البحر الأسود. إلا ان انتصارات نابليون شجعت الدولة العثمانية على فسخ معاهدتها مع روسيا وبريطانيا فصدرت الأوامر سنة 1807م للاسطول الانكليزي بالتقدّم نحو المضايق إلا انه ما لبث ان انسحب منها ليوجّه سفنه ويحتل الاسكندرية.

وتمكنت السلطة العثمانية من إنهاء الوجود المصري في بلاد الشام بالاتفاق مع بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا (الدولة المتحابة) وفقاً لمعاهدة سنة 1840م و1841م وجعلت الدول المذكورة تقرّ بحق الباب العالي بإقفال المضايق في وجه السفن الحربية.

أما الحرب الثالثة فهي حرب القرم التي نشأت سنة 1853م. ففي تلك السنة عادت روسيا الى الضغط العسكري على الامبراطورية العثمانية، فحاول القيصر نقولا الأول الاتفاق مع بريطانيا على اقتسام الأراضي العثمانية مقترحاً إستيلاء روسيا على الأستانة مقابل إستيلاء بريطانيا على مصر وكريت. وقال القيصر يومها لسفير بريطانيا: ان تركيا رجل مريض جداً ولا بد من إتخاذ قرار حول مستقبل أراضيه قبل أن يموت في أيدينا.

ولدى رفض بريطانيا، تذرّعت روسيا بما عرف بأزمة الأراضي المقدسة المسيحية في فلسطين. ويعود الأصل في ذلك الى زمن الحرب الصليبية عندما أصبحت تلك الأراضي مشتركة لكل الطوائف المسيحية. ففيما ادّعت روسيا حمايتها للرعايا الأرثوذكس، أعلنت فرنسا حمايتها للكاثوليك، فقرر السلطان تسليم المفاتيح الثلاثة الخاصة بالأبواب الرئيسة لكنيسة العذراء وبالسراديب الكائنة تحت كنيسة المهد في بيت لحم الى الكهنة الكاثوليك الذين لهم حق الدخول الى المحراب وليس الإشراف على الخدمة الدينية فيه.

ورغم إنذار الروس للسلطان، أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على روسيا وأرسلتا أسطولهما الى البحر الأسود في شبه جزيرة القرم تجاه ميناء سيباستبول قاعدة روسيا البحرية. ولكن القيصر نقولا الأول الذي شعر بأصابع السلطان الخمسة على خده أراد الانتقام. وإستمرت المعارك سنة شارك فيها ستين ألف جندي روسي وثلاثين ألف جندي فرنسي وعشرين ألف جندي انكليزي وأربعة عشر ألف جندي عثماني. وتم الاستيلاء على سيباستبول في 10/9/1855م وأصدر السلطان إثر ذلك الخط الهمايوني سنة 1856م وخلاصته المساواة بين رعايا الدولة في الضرائب والقضاء والتعليم وفي الحقوق والواجبات وخضوعهم جميعاً للتجنيد العسكري.

شروط المسكوب

واستغلّ الروس حركات تمرّد جرت في البلقان فأعلنوا سنة 1877م الحرب الرابعة المعروفة بحرب البلقان. وبعد وصول الروس الى مشارف الاستانة إضطر العثمانيون الى توقيع ما عرف بمعاهدة سان ستيفانو والمؤلفة من 29 بنداً أهمها توسيع بلغاريا ومنح الاستقلال لإمارة الصرب والجبل الأسود ولرومانيا بالإضافة الى إلزام الدولة العثمانية بغرامة مالية قدرها ملايين الليرات الذهبية وذاع أثر تلك الشروط ما كان يردده آباؤنا بقولهم: مثل شروط المسكوب.

ومن الطريف الإشارة الى ان «معجم البلدان» عندما ذكر الروس ذكر رسالة كتبها أحمد بن فضلان رسول الخليفة العباسي المقتدر بالله (بويع بالخلافة سنة 907م وقُتل سنة 922م) الى ملك الصقالبة وفيها قوله «رأيت الروسية وقد وافوا بتجارتهم فلم أرَ أتم أبداناً منهم كأنهم النخل شقر حمر ومع كل واحد منهم سيف وسكين وفأس لا تفارقه...» ويضيف «وهم أقذر خلق الله لا يستنجون من غائط ولا يغتسلون من جنابة... ولكل واحد منهم سرير يجلس عليه ومعه جواريه، فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه، وربما اجتمعت الجماعة منهم على هذه الحالة بعضهم بحذاء بعض وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من بعضهم جارية فيصادفه ينكحها فلا يزول عنها حتى يقضي أربه... وفي كل يوم بالغداة تأتي الجارية ومعها قصعة كبيرة فيها ماء فتقدّمها الى مولاها ليغتسل فيغسل فيها وجهه ويديه وشعر رأسه، فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يتمخط ويبصق فيها ولا يدع شيئاً من القذر إلا فعله في ذلك الماء، فإذا فرغ مما يحتاج إليه، حملت الجارية القصعة الى الذي يليه فيفعل مثل ما فعل صاحبه، ولا تزال ترفعها من واحد الى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت، وكل واحد منهم يتمخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها...».

ونخلص الى القول بأن لبيروت دوماً حصة في الصراع بين الدول، ففي سنة 1826م ضرب الاسطول اليوناني بيروت وأنزل جنوده عند برج أبي هدير (كما أوضحنا في مقال سابق) وفي سنة 1840م ضربت الدول التي تحابت (تحالفت) بيروت لإخراج جيش إبراهيم باشا منها، وألحق القصف أضراراً جسيمة بسور المدينة ومبانيها. وفي سنتي 1772 و1774م حاصر الاسطول الروسي بيروت مدة أربعة أشهر بحجة إخراج أحمد باشا الجزار منها واضطر أهلها الى أكل لحوم الخيل.

وذكرنا سابقا تأليف جمعية سنة 1877م لجمع الصدقات وتوزيعها على عيال عسكر الذين طلبوا للخدمة العسكرية في حربي القرم والبلقان. وكانت الجمعية مؤلفة من عبد القادر عبد الله بيهم ومحيي الدين عبد الفتاح حماده وحسن محمد القاضي وعمر درويش غزاوي وزين الشيخ عبد الله سلام. واستشهد في حرب البلقان أكثر من خمس وخمسين شاباً من بيروت. (سنعيد ذكرهم في أيام آتية).

وفي سنة 1860م نزلت بعض وحدات الجيش الفرنسي في ساحة البرج متذرّعة بفتنة الجبل الطائفية واستطاع فؤاد باشا ناظر الخارجية التركية بدهائه تدارك تداعيات الفتنة. كما تعرّضت بيروت سنة 1912م للقصف من وحدات الاسطول الايطالي.

حبلت في البلقان

وصلت أصداء الحروب الروسية - العثمانية إلى بيروت. ففي حزيران (يونيو) سنة 1877م كان ثلاثة شبان من محلة رأس بيروت هم عمر سعيد دسوم وعبد اللطيف الفيل وحسن ملص، مارين في محلة شوران قرب خروبة التنير، وصادفوا بعض طلاب من المدرسة الكلية - أي الجامعة الأميركية - قاعدين في الطريق، فأخذ هؤلاء الطلاب يتكلمون عند وصول الشبان الثلاثة إليهم، بالدعاء لروسيا بالنصر وللدولة العثمانية بالهزيمة.فجرت بين الفريقين منازعة بسبب ذلك أفضت إلى الضرب والملاكمة والسباب والشتائم من أولاد المدرسة للشبان المارين المذكورين. وقيل إن أحدهم جرح الثلاثة بسكين كان يحتفظ به. وأثناء تناوشهم، حضر حسن البعدراني، فاعترضه أولاد المدرسة أيضاً ونال نصيبه من الضرب. ثم حضر رجال الضابطة العسكرية وألقوا القبض على المتعاركين. وهكذا حبلت في البلقان وولدت في شوران. وهو ما سوف نشهده بعد ذلك في عدة مفاصل من تاريخ المنطقة بحيث يحصل رد الفعل في لبنان في كل مرة يحصل نزاع خارجه.

ومع محاولات الدول الأوروبية استطاعت تركيا «الرجل المريض» الصمود حتى سنة 1918م مما أكد القول السائد بعد تلك الحروب والقائل: الروسي إذا غبّر (لكثرة الجنود) والانكليزي إذا بحّــــر (لكثرة قطع أسطوله) والتركي إذا دبّر (لدهائه).



* مؤرخ