بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 شباط 2024 12:00ص الإسراء والمعراج وطوفان الأقصى

حجم الخط
من مكامن عظمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه بسنّته وسيرته وضع للأمّة دورس حياتها لتستنبط من مضامينها ما يكون مخرجا لها من أزماتها المحدّقة بها ، فربّى الأمّة على لزوم تأصيل الثقة بالله وتأكيدها، وخاصة في الأوقات العصيبة، والمراحل المدلهمة في حياة الأمّة، فكان الإسراء الرحلة العجيبة التي بدأها النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بالقدس الشريف والمعراج هو ما أعقب هذه الرحلة من إرتفاع في طبقات السموات حتى الوصول إلى مستوى تنقطع عنده علوم الخلائق ولا يعرف كنهه أحد ثم الأوبة إلى المسجد الحرام بمكة، فجاءت معجزة الإسراء والمعراج للنبي محمد لتقول للأمّة لا تيأسوا وثقوا بالله واعتصموا فإنه إن اجتمعت أمم الأرض عليكم لن تتمكن من كسر شوكتكم ولا من محو شرعتكم ولا من إطفاء نور دعوة نبيكم طالما كنتم مع الله.
وما يجري في فلسطين من تكالب الأمم على أهلها دليل على أن هذه القضية قصية مصيرية ومنبع من منابع النور المحمدي في إسرائه ومعراجه، وفي ذلك درس واضح أن الله تعالى لن يتخلّى عن أحبابه، ولن يلجئهم لأحد طالما هم واقفون ببابه، فكانت هذه الرحلة الأرضية السماوية بمضامينها ودلالتها درسا متجددا للأمة أن أعداء الأنبياء لا يمكن الوثوق بهم ولا الثقة بنهجهم وهم طبعهم الكيد وديدنهم الحقد.

توطئة عملية للهجرة

وإن هذه الرحلة هي توطئة عملية للهجرة وبناء الدولة وامتداد الدعوة وانتشار عبق الرسالة، فالإسراء والمعراج وقعا للرسول عليه الصلاة والسلام بشخصه في طور بلغ الروح فيه قمة الإشراق، وخفّت فيه كثافة الجسد حتى تفصَّى من أغلب القوانين التي تحكمه.
واستنكاه حقيقة هذه الرحلة، وتتبع مراحلها بالوصف الدقيق، المرتبط بإدراك العقل الإنساني لحقيقة المادة والروح، وما أودع الله فيهما من قوى وخصائص، وإن العدو الصهيوني طبعه الغدر والمكر وغزة خير دليل بحيث دُمّرت غزة في أكثرها وشُرّد أهلها وقُتل عشرات الآلاف من أبنائها وهم يواجهون هذا العدو بشتى الوسائل ويلقّنونه دروسا في المواجهة رغم التضحيات، إنهم الصابرون المرابطون يقولون لن نترك الأقصى والطوفان لن ينتهِ إلّا بتحرير القدس مسرى ومعراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم من رجس اليهود، فلا يمكن لمن محقه الله تعالى قردة وخنازير أن ينتصر على أمة نبي الرحمة وإن أصابهم بعنّت ومشقّة وأثخن فيهم الجراح، وها هو رغم كل إجرامه مأزوم ومهزوم بإذن الله تعالى.
وإن من سنّة الله تعالى في خلقه ابتلاءهم ليمحص المؤمنين ويمحق الكافرين، فتأتي معجزة الإسراء والمعراج لتكريم النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعدما ذاق ويلات من الابتلاء وصنوفا من العناء فمن تلمَّح بحر الدنيا، وعلم كيف تتلقَّى الأمواج، وكيف يصبر على مُدافعة الأيَّام، لم يستهون نزول بلاء، ولم يفرحْ بعاجل رَخاء.
وفي السابع والعشرين من شهر رجب تأتي التسلية لقلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد موجة من البلاء لتؤكد للعالم كله أن هذه الأمة منصورة ومرحومة، وإن تحمّلت صنوفا من البلاء، وهي أمّة القيادة للعالم بأسره، لأمّة لا تتنازل عن ثوابتها ولا مبادئها ولا قيمها ولا معتقداتها، وقيادة النبي محمد للأنبياء رسالة لقيادة الأمة للأمم وتسليم الأنبياء الراية لرسول الله دلالة على سيادة هذه الأمة وريادتها الأمم، فجاءت رحالة الإسراء والمعراج بيانا أن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، ومن المسجد الحرام أفضل بقعة وأطهر مكان في الأرض إلى المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين لتؤكد على ربط أمر العقيدة بعقيدة رسول الله وربط المساجد بالمسجد الأقصى، الباب الذي منه عرج النبي للسماء وفيه تمّت الإمامة للأنبياء، فاليهود أهدروا كرامة الوحي، وأسقطوا أحكام السماء، فحلّت بهم لعنة الله، وتقرّر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد، ومجيء الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم انتقال بالقيادة الروحية في العالم من أمّة إلى أمّة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل.
ثم إن ما سُمّي بعام الحزن كان رسالة للأمة كلها أن المؤمن لا يمكن أن يتخلّى الله عنه طالما لم يتخلَّ عن أوامر الله لذلك كانت الكلمة التي توزن بماء الذهب التي قالتها أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم (والله لا يُخزيك الله أبداً؛ إنك لتَصِل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق).
والمستقبل لهذه الأمة وهي المؤتمنة على ميراث الشرائع السابقة، وكأن لسان حال الرسل جميعهم وهم المؤتمون برسول الله يقولون له «امض إلى ربك ونحن معك»، وكأن ملائكة الله في السماء تقول له وهو يعرج فيها: إن ضاقت بك الأرض فالسماء قد فتحت أبوابها أمامك، ولئن آذاك جهلة وطغاة أهل الأرض، فأهل السماء يقفون في استقبالك، وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعا، إنها رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان؛ وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى.

منارة يهتدي بها المسلمون

فمعجزة الإسراء والمعراج منارة يهتدي بها المسلمون كلما تاهت بهم السبل عن بيت المقدس، ومنهج يصحّح بوصلة الطريق للأمة للحفاظ على وجودها وتأمين مصالحها على مرِّ الزمان كلما استعجلها الخطر واقتحم أرض بيت المقدس، وها هي تعود من جديد إلى قلب الصراع الحضاري بين المسلمين وغيرهم من اليهود وحلفائهم الغرب ممّن يريدون إخضاع الأمة والتحكّم فيها وفق مصالحه، إننا وفي ذكرى الإسراء والمعراج وما يجري في أرض العزة نستلهم دروسا، على المسلمين أن يكونوا على معرفة بها وهي أن هذه الأمة تحمل ميراثا عظيما وإرثا جليلا، تحمل أمانة الدين ولا يصلح التنازل عنه ولا التخلّي عن قيمه، فالإسراء وإن كان رحلة مكانية لكن معالمه المعنوية أهم وأبلغ ومنها تسقى الدروس والعِبَر في مواجهة الإجرام العالمي بحق الأبرياء في فلسطين كما في كل مكان في الأرض.

* مفتي راشيا