بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 تموز 2023 12:00ص الإسلام وأحكامه في أشكال وتصنيفات العنف الأسري

حجم الخط
تعود جرائم العنف الأسري إلى عهد أسرة النبي آدم وزوجته حواء عليهما السلام [الأسرة الإنسانية الأولى]، وعهد أول جريمة قتل حصلت في تاريخ الإنسانية، والتي قام بها ابنهما قابيل بحق أخيه هابيل. ومع مرور الأزمان والسنين ظلت هذه الجرائم تتزايد وتنتشر في كافة أنحاء الأرض، وقد اتسع نطاقها بسبب الصمت الذي كان يحيط بها بذريعة عدم جواز تدخّل الغرباء في شؤون الأسرة .
وتتنوّع صور وأشكال العنف الأسري في المجتمعات، وقد يتدرج العنف من البسيط إلى المتوسط والكبير. وقد يكون العنف مؤقتاً، أو متقطعاً، أو مستمراً بحسب كل حالة. ومن تصنيفات العنف أيضاً: العنف المستتر ضمن نطاق الأسرة، والعنف الخارج عن نطاق الأسرة من خلال اطّلاع الجيران أو الأقارب عليه، أو عبر وصوله إلى الشرطة والقضاء. وفيما يلي أهم أشكال العنف الأسري:
1- العنف اللفظي: هو الألفاظ المؤذية الموجهة بين أفراد الأسرة، كالشتم والسب والإهانة، والكلمات النابية والبذئية، وكل لفظ جارح لمن يوجه إليه، والتهديد بأفعال تؤثر في نفسية ومعنويات المعتدى عليه. ويتسبب هذا النوع من العنف الأسري باضطرابات نفسية، وما يستتبع ذلك من عدم تقدير الذات والإندفاعية والعدوانية والقلق والإكتئاب واضطراب النوم والوظيفة الإجتماعية.
2- العنف الجسدي: هو كل فعل تستخدم فيه وسائل مادية تؤذي جسم المعتدى عليه وتلحق به الضرر الجسدي المباشر أو غير المباشر، كالضرب المبرح، والحرق، والتعذيب الجسدي بكافة الأساليب، والخنق، والقتل، والرمي بالأغراض المؤذية، والتكسير، واستخدام السلاح والتهديد به، وهو ما يتسبب بالأضرار الجسيمة للضحايا، وفقدان الحياة في بعض الحالات.
3- العنف الجنسي: هو إكراه أحد الأشخاص لغيره من أفراد الأسرة على القيام بممارسات جنسية مختلفة ضد إرادته ورضاه. ويعتبر الإغتصاب أخطر أنواع العنف الجنسي لما يترتب عليه من أضرار جسدية ونفسية بالغة، قد تصل إلى حد الإكتئاب والإنتحار.
4- العنف الإجتماعي والإقتصادي: يشمل هذا النوع من العنف العديد من الأفعال: كفرض العزلة الإجتماعية، والحبس في المنزل أو الغرفة أو السيارة، ومنع لقاء الأصدقاء والجيران والأقارب، وتقييد حرية الحركة والأفعال، والمراقبة السلطوية المستبدة، والحرمان من المصروف، والإمتناع عن نفقات الأسرة، والإستيلاء على الأموال العائدة إلى المعتدى عليهم.

الإسلام وموقفه من العنف

وتتعدد الآيات القرآنية التي تنهى عن الأذى والعنف، ومنها: قول الله تعالى: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم} [البقرة، 263]. وقوله عزَّ وجلّ: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة، 264]. وقوله تعالى: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما} [الإسراء، 23]. وفيما يلي عرض لأهم تصنيفات العنف الأسري:
أولاً- العنف ضد الزوجة: هو مجموعة الأفعال العدوانية والأضرار التي يوقعها الزوج على زوجته. وهو فئة من فئات العنف الأسري ضد المرأة الذي يمارسه أي فرد من أسرتها، وهذه الفئات بدورها فرع من فروع العنف ضد المرأة الذي يرتكبه أي فرد من داخل أو خارج أسرتها، أو الواقع عليها من قبل المجتمع والدولة من خلال القوانين والأعراف والتقاليد. قال الله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء، 19]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي». (الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 3895). فالشريعة الإسلامية تأمر الزوجين بحسن المعاشرة، وتنهى عن ارتكاب أي أمر يخلّ بنظام الإجتماع المنزلي الذي لا تتم سعادة العائلة إلْا برعاية حرمته والمحافظة على حقوقه. وبالتالي، ليس من حسن المعاشرة، ولا من المعاشرة بالمعروف، قيام الزوج باستخدام العنف اللفظي ضد زوجته عبر شتمها وسبّها، وتوجيه الكلام البذيء والألفاظ النابية إليها، وعبر الحطّ من قدرها وكرامتها، وإهانتها بكافة الصور، وتخويفها وتهديدها، وتكليفها بما لا تطيق. ولا يمنع ذلك من جواز لجوء الزوج إلى وعظ زوجته التي يخاف نشوزها عملاً بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ واضْرُبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء، 34]. وجاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية الكريمة: «أي إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبرح». فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِنْ شَرِّ رِجَالِكُمُ الْبَهَّاتَ، الْفَاحِشَ، الْآكِلَ وَحْدَهُ، الْمَانِعَ رِفْدَهُ، الضَّارِبَ أَهْلَهُ وَعَبْدَهُ، الْبَخِيلَ، الْمُلْجِئَ عِيَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ، الْعَاقَّ بِوَالِدَيْهِ». وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال في حجة الوداع: «واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف». فالحالة التي يجوز فيها للزوج ضرب زوجته ضرباً غير مبرح، والتي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم  في حجة الوداع، هي: حالة الزوجة التي توطئ فرشه أحداً ممن يكرههم، وهو عدوان وعنف أسري تمارسه الزوجة على زوجها في نفسه وماله، ولا يقل هذا العنف والأذى عن الضرب الخفيف الذي قد تتعرض له نتيجة ممارسة حق الزوج في الدفاع عن نفسه وماله، بل أنه قد يفوقه ضرراً وأذى من الناحيتين المادية والمعنوية.
وقال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة، 223]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يقعن أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة، وليكن بينهما رسول. قيل: وما الرسول يا رسول الله؟ قال: القبلة والكلام». ويقضي الإسلام بمعاشرة الزوجات بالمعروف، ويمنع إساءة معاملتهن في المجتمع مادياً ومعنوياً. ومن ذلك: ضرب الزوجة وإهانتها أمام الجيران، ومنعها من رؤية أهلها، والتسلّط الإستبدادي على جميع تصرفاتها، وإجبارها على ارتكاب المحرّمات، والهيمنة على أموالها، والتضييق عليها في معيشتها، وامتناعه عن الإنفاق عليها عملاً بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق، 7]. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن نهي الإسلام عن العنف يمتد ليشمل ما يمكن أن تمارسه أيضاً المرأة من العنف ضد زوجها بكافة أشكاله المادية والمعنوية، كفعل ضرب الزوجة لزوجها وإهانته لفظياً وتحقيره أمام الأهل والجيران، والهيمنة على أمواله ومنعه من التصرف بها، وإبعاده عن والديه، وإهماله.

العنف ضد كبار السن والأطفال

ثانياً- العنف ضد الأطفال: يشمل جميع أنماط السلوك العدوانية من سوء المعاملة الجسدية أو العاطفية أو الإيذاء الجنسي أو الإهمال أو الإستغلال لأغراض التجارة أو غيرها. ويمكن أن يمارس هذا العنف على يد أحد أفراد أسرة الطفل أو بواسطة أي شخص مسؤول عن تأمين رعايته، وسواء كانت هذه الجرائم مقصودة من قبل أفراد الأسرة والمسؤولين، أو كانت ناتجة عن إهمال وقلّة احتراز من جانبهم. وفي هذا المجال، هناك العديد من الإعلانات والإتفاقيات الدولية التي تناولت قضية حقوق الطفل وحمايته من كافة أشكال العنف الأسري وغيره، منها: اتفاقيات منظمة العمل الدولية، وإعلان جنيف 1924، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، وإعلان حقوق الطفل 1959، واتفاقية حقوق الطفل 1989 والبروتوكولات الإختيارية الملحقة بها. وهنا لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن العنف الممارس بين الأزواج أو بين سائر أفراد الأسرة يشكّل عنفاً مباشراً وغير مباشر على الأطفال. فالأطفال لا يخرجوا سالمين عندما يكونوا شهوداً على أحداث العنف الأسري، وهي بلا شك أحداث مخيفة وصادمة لهم. والأطفال في هذه الحالة ليسوا مجرد شهود على العنف الأسري، بل هم ضحايا أصيلون لكافة أشكال العنف الأسري الموجّه إليهم أو إلى غيرهم من أفراد الأسرة.
وينهى الإسلام عن استخدام كافة أشكال العنف ضد الأطفال، ويوجب حماية الطفل من كل عنف مادي أو معنوي، ومن أي ضرر أو تعسّف. فالمادة 27 من «ميثاق الطفل في الإسلام» [الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف، بالتعاون مع اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل التابعة للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة] تنص على أن: «للطفل الحق في حمايته من كافة أشكال العنف، أو الضرر أو أي تعسّف». أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرّقوا بينهم في المضاجع» (أبو داود، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، رقم 495). فالضرب هنا لا يعني الضرب المبرح، أو الضرب الذي يصل إلى حد الإضرار بالطفل لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» (مالك، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق، رقم 1461). والمقصود بالضرب في هذه الحالة، الحزم في أمر الصلاة لأهميتها في الدين والدنيا، وذلك عبر تنبيه الطفل جسدياً بوجوب الإمتثال لأمر الصلاة دون عنف مؤذي أو إضرار، وذلك لنقص في وعي الصغير، أو لضعف في إرادته أو نشاطه، أو لعدم إدراكه لأهمية الصلاة في حفظ نفسه ودينه ودنياه؛ مثله كمثل النائم الذي تحاول إيقاظه بالكلام أولاً، وإلّا فبتنبيهه جسدياً عبر دفعه وتحريكه بلين. ويجب أن يترافق التنبيه الجسدي مع العظة وحسن الكلام. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويجلّ كبيرنا» (الطبراني، المعجم الكبير، باب الواو، رقم 229). فالرحمة متلازمة وواجبة في كل المعاملات مع الأطفال الصغار.
ثالثاً وأخيراً- العنف ضد كبار السن: يأخذ العنف ضد كبار السن أهمية خاصة تميّزه عن غيره من تصنيفات العنف. والسبب أن كبار السن لا يمكنهم تجاوز آلامهم الجسدية والنفسية بذات قدرة الشباب والصغار على تخطّي ما يتعرضون له من أشكال العنف المادي والمعنوي. وقد يتضاعف تأثير الصدمات عليهم بسبب الخوف والخجل الذي يمنعهم من طلب المساعدة والشكوى. والله يأمر بالإحسان إلى الوالدين عند تقدّمهما في السن، وبالامتناع عن الألفاظ المؤذية لهما، وبالرحمة في كل التصرفات معهما. كما تجب العناية بالوالدين عبر تأمين الغذاء والدواء لهما، وتوفير الخدمة اللازمة، والسكن معهما، لا إرسالهما إلى دار للمسنين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل الذنوب يؤخّر الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلّا عقوق الوالدين فإن الله تعالى يعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات». وقال تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء، 24].