بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 آب 2023 12:00ص الشيخ د. أسامة حداد مع اقتراب موسم المدارس: الفساد زاد في الأزمة تأزّماً... والتربية والتعليم في بلادنا في خطر عظيم

الشيخ د. أسامة حداد الشيخ د. أسامة حداد
حجم الخط
لا نبالغ إن قلنا انه لا يوجد دين يدعو الى العلم كالإسلام. فالإسلام ومنذ اللحظة الأولى حض على العلم ونبّه إلى أدوات التعلّم {إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خلق الإنسان من علق}.
وآيات القرآن زاخرة بفضل العلم والعلماء: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وقال تعالى {َيرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}.
وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة التي حثّت على العلم وبيّنت أفضلية العلماء على العباد وانهم ورثة الأنبياء (العلماء ورثة الأنبياء، وان الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر)، وبيّنت أن العالِم خيره يعمّ البشرية بل يتعدّى ذلك الى الموجودات من حوله حتى إن الحيتان لتستغفر لمعلم الناس الخير وكذلك النملة في جحرها.
فالعلم طريق الجنة وسبب لرفع صاحبه في درجات الجنة، وهذا رسولنا في سيرته في أعقاب غزوة بدر يجعل التعليم مقابل فداء الأسرى، كي يعلّموا المسلمين القراءة والكتابة، لكن على من يعلم أن يعمل بما علم فإن العلم يراد للعمل، والعالم سيسأل عن عمله بما علم يوم القيامة (وعلمه ماذا عمل به)، والنبي صلى الله عليه وسلم  كان يكرر في دعائه أن يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع).
كما وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه»، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون».
ولكن في أيامنا أصبح أمر التعليم صعباً وأصبحت تكاليفه كبيرة يعجز المواطن عن تأمينها..
فكيف يمكن أن نعالج هذا الأمر، وما دور كل من الأفراد والمؤسسات والجمعيات حول هذا الأمر؟..
ومن هنا كان الحوار مع الشيخ الدكتور أسامة حداد، المفتش العام في دار الفتوى..

العلم فرض ديني

{ بداية ما هي أهمية العلم في الإسلام؟
- إن أفضل ما يكتسبه الانسان، وخير ما تحصله العقول بعد الإيمان هو العلم، ولهذا، قرن الله تعالى بين العلم والإيمان، فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...} [المجادلة 11].
ولذلك نجد ترابطاً وثيقاً بينهما، فكلما ازداد الإنسان علماً، كلما ازداد ايمانا، لذا بين الله عز وجل أن العلماء هم أشد الناس خشية له، فقال تعالى: {.. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء...} [فاطر 28].
فالعلم يهدي إلى الإيمان، والإيمان يدعو إلى العلم، فهي علاقة وثيقة بين العلم والإيمان لا نجدها في غير دين الإسلام، فهما يحفظان القيم الأخلاقية، ويحافظان على البشريّة من الفساد والإفساد، أمّا إن كان العلم بعيداً عن الإيمان، فهو من أخطر الأسلحة التي هدّدت البشرية.
ومما يدلّ على أهمية التعلّم والتعليم، أنّ أوّل الآيات نزولاً كانت قَوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق 1].
وأمرنا الله تعالى بالاستزادة من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه 114]، ولذلك ندعو أجيالنا بعدم الاكتفاء بالشهادات الثانوية والجامعية، وإنما أن يصلوا إلى الشهادات العليا، ويتخصصوا بتخصصات تنفعهم وينتفع المجتمع بهم.
ولا يميّز الإسلام بين الرجل والمرأة في طلب العلم، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ومُسْلِمة».
فالأجيال تحتاج إلى أم متعلّمة مثقّفة كما تحتاج إلى أب متعلّم مثقّف، خاصة في هذه الأيام الصعبة.
وما حصل في سنغافورة ذلك البلد الصغير الذي لا يمتلك أي موارد طبيعية، لا نفط، لا غاز طبيعي، ولا ثروة معدنية يمكن التنقيب عنها، وبسبب التخلّف والجهل كانت شوارعها مليئة بالنفايات والمتسوّلين..
إلى أن هيّأ الله لهذه البلد رجلاً متعلّماً هو «لي كوان يو» الذي درس الحقوق في جامعة اكسفورد وفاز بمنصب رئيس وزراء الجمهورية السنغافورية وحكمها لمدة ثلاثة عقود متتالية صنع نهضة حديثة في ظل تلك الظروف الصعبة والشاقة التي شهدتها بلده.
شعب فقير متخلّف وحكومة مليئة بالفساد الإداري والمالي والأخلاقي، بلد يعمّه الرشاوى ونهب المال العام وخلافات ونزاعات مجتمعية، فبنى وطناً للمواطن وليس وطناً له..واستطاع أن يبني نهضة اقتصادية وأن يجعل بلده من أهم بلدان العالم كما كان يحلم حيث اعتمدت سياسته الاستثمار في الإنسان السنغافوري نفسه من خلال التعليم وتكثيف البعثات العلمية للخارج وتطوير المستوى الإنساني والصناعي، رأى أن لا نهضة اقتصادية إلّا في استثمار الفرد ذاته وتأهيله، فوضع مناهج علمية حديثة وركّز على بناء المعلم.. نعم المعلم.. لأنه القاعدة الأساسية لبناء الأجيال القادمة.
وأصبحت سنغافورة الآن رابع أهم مركز مالي في العالم وخامس أغنى دول العالم من حيث احتياطات العملة الصعبة، ثالث أكبر مصدر للعملة الأجنبية حيث يصل إلى سنغافورة خمسة مليون ونصف سائح سنوياً، بلغ معدل الدخل الفردي من الناتج القومي الإجمالي 64 ألف دولار في عام 2013م لتحلّ سنغافورة الترتيب الثالث على مستوى العالم.
معدل البطالة لا يصل إلى ثلاثة بالمائة وتعتبر المركز المالي والتكنولوجي الأول في المنطقة، أنظف مدينة في العالم، جميلة المنظر، طيبة الهواء، فناطحات السحاب والمباني ذات الأشكال الهندسية الحديثة والراقية وشموخ النخيل والأشجار والحدائق الخضراء الجميلة تجعل منها جنة في الأرض.
إن الدول والمؤسسات الناجحة لا تقوم إلّا على قائد حكيم، يتبعه وزراء ومدراء وموظفون أمناء متعلّمون، يبنون وطناً للمواطنين، وليس وطناً لهم ولأولادهم وحاشيتهم وأصهارهم...فإذا أردنا أن نُنشئ بلداً جيداً، لا بد أن تُسلّم زمام المسؤولية فيها لأشخاصٍ جيدين، ولكي يتم ذلك لا بد من التربية والتعليم..
ومما يؤسفنا في بلدنا الحبيب لبنان أن التربية والتعليم في خطر عظيم.
خاصة بعد فشل العهد القوي في معالجة الأزمات ونهضة البلد، بل ضاعت فيه الأموال وتعطّلت الأعمال، وازداد الفساد مما زاد في الأزمة تأزّماً ووصلت إلى المدارس والجامعات، فأصبح الكثير من الأهالي عاجزين عن إكمال مسيرة تعليم أبنائهم بسبب غلاء الأقساط وقلّة الموارد.. بل وصل العجز إلى الدولة في تأمين كلفة التعليم في المدارس والجامعات الرسمية كما يجب، وعمّت الاضرابات التي ضيّعت العام الدراسي على التلاميذ.

لأصحاب المؤسسات التعليمية.. ارحموا الناس

{ ما هي كلمتك لأصحاب المدارس والجامعات الخاصة؟
- نقول لهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم : «ارحموا من في الأرض يرحمْكم مَن في السماء» كلنا نحتاج إلى رحمة الله تعالى، وهذه الرحمة لن تنزل إلّا على الراحمين الذين يراعون أوضاع الناس ويتكافلون معهم في الأزمات، ومن المؤسف أن يتاجر هؤلاء بمستقبل أبنائنا ويبتغون الأرباح الطائلة من الأقساط الباهظة، وبعضهم يبخل على المدرّسين برواتبهم، فيعطيهم ما لا يسد حاجتهم، مما يسبب القلق لدى المدرّسين ويؤثر سلباً على الانتاجية.
{ في ظل الأزمة التي نعيشها كيف نستطيع أن نيسّر أمر التعليم بالنسبة للتلاميذ؟
- من المعروف الذي أمرنا الله به هو إغاثة الملهوف، وأي لهفة أصعب من لهفة الأهالي من الطبقة المتوسطة وما دونها أن يؤمّنوا تعليم أبنائهم لينهضوا بهم وبأنفسهم، فيتكفل أغنياء العائلة بتعليم من يعجز عن تأمين كلفة التعليم، وبهذا تقوى أواصر القرابة والمحبة بينهم، ويشعر هؤلاء باحتضان الأغنياء من عائلتهم، ونقترح أن يكون ذلك مشروطاً بأمرين:
الأول: اجتهاد الطالب وجدّيته.
الثاني: أن تكون العائلة عاجزة حقاً عن تأمين مصاريف الدراسة.
ولا مانع أن يعطيَ الطالبُ وعداً بأن يتكفل بتعليم طالب فقير على الأقل بعد تخرجه وعمله وإنتاجه.

وللمسؤولين والأساتذة كلمة

{ ما هي كلمتك للأساتذة الذين يعانون قسوة الحياة وقلّة الرواتب، مما ينعكس على الطلاب؟
- كان الله في عون المعلمين، الذين يعيشون في بلد لا قيمة للعلم والمعلم فيه، للأسف تعتبر رواتب المعلمين عندنا أدنى الرواتب بالمقارنة مع غيرهم من الموظفين، ولكن لن نقول للمعلمين: اصبروا.. فقط.. بل ارفعوا الصوت عالياً في وجه المسؤولين الفاشلين، وأخبروهم أن نهضة البلاد لن تكون إلّا بتعليم العباد وإيقاف الفساد.

بماذا تتوجه إلى المسؤولين في الدولة حول الاهتمام بالتعليم أكثر وأكثر حتى لا تضيع سنوات أبنائنا بغير علم وغير تربية؟

نقول لكل مسؤول: إن كنتَ قادراً فاعمل.. وإن كنتَ فاشلاً فارحل ..
نقول للدولة التي لا خطة لديها إلا قهر المواطنين وإرهاقهم بالضرائب المهدورة على الفساد: اتقوا الله بهذا الوطن الطيب الجميل، لا تُكملوا بتشويهه ولا تُهملوا التعليم لأبنائه، فالتاريخ لن يرحمكم، وخذوا عبرة من الذين تولوا المناصب ولم يعملوا للوطن بل عملوا لأنفسهم وحاشيتهم وأصهارهم، وعندما انتهت ولايتهم صلى الناس صلاة الشكر على نعمة خلاصهم منهم..
أيها المسؤولون: لا تتنازعوا على المناصب، بل تنافسوا لخدمة المواطنين وتعلموا من المسؤولين الناجحين في بلدانهم كيف نهضوا بمجتمعهم بالنزاهة والتربية والتعليم..