بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 كانون الأول 2020 12:00ص العام 2020... عام إنكسار مظلّة الوسطية والإنسانية في بلادنا

حجم الخط
منذ فترة وأنا أراقب وأدرس أبعاد تلك «الحساسية المفرطة» التي استقرّت في نفوس عدد كبير من المسلمين، الذين ما إن يسمعوا أحدا يتحدث عن وسطية الإسلام وعدالته حتى تثور ثائرتهم عليه فيتهمونه بالخنوع والضعف والاستسلام أو بالتمييع وذوبان الشخصية، ثم يتطوّر الأمر - مع حماس ثلة من الجاهلين - فتصبح التهمة الخيانة والعمالة...؟!

فعلامَ كل هذا الإنفعال الأجوف..؟!

وما الذي يضايقكم في الحديث عن وسطية الإسلام الحنيف..؟!

ولمَ لغة التخوين بحق كل من يقول: الإسلام دين الوسطية..؟!

أليس هو حقا ويقينا دين الوسطية العادلة التي وصف الله تعالى بها الأمة فقال: {وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}..؟!

إذن.. القضية ليس في الوسطية، ولكن يبدو إنها مسألة إنعكاسات نفسية مضطربة تتفاعل مع اعوجاج هؤلاء، وهم يرغبون بشدّة ترجمتها إلى أقوال وأفعال، ولا سبيل إلى ذلك إلا من خلال إلباسها لباس الدين..؟!

ولذا.. يرفضون كل رأي غير رأيهم ويقولون أنه فسق وفجور..؟!

يتهمون كل مختلف بأبشع الصفات.. وإن كان الاختلاف في الأمور المباحة..؟!

وهؤلاء بجهلهم (وطبعا بأطماعهم) لا يبتغون بـ (إبليسية) الحديث عن وسطية الإسلام إلا جعل السنّي عدوا للشيعي، والصوفي عدوا للسلفي، والمسلم عدوا للمسيحي، ولو أدّى ذلك إلى خراب البلاد فوق رؤوس العباد..؟!

ومن خبثهم.. أنهم زرعوا في الفكر الخوف من كل آخر، فتقوقع كل واحد على نفسه وجماعته حتى في ما يعتقدون أنه خدمة للدين.. فلكلّ مساجده ومصلياته ولا يجرؤ أحد من هنا على الصلاة في مسجد أحد من هناك..؟!

ثم تطوّر الأمر.. فأصبح لكل فريق ولكل جماعة ولكل إمام مسجد خاص وأتباعه ومريديه الذين لا يصلون «بل ربما لا يعتقدون بصحة الصلاة» إلا خلفه..؟!

والمضحك أن هؤلاء يخرجون علينا فجأة ليقولوا «نحن نرفض التعصب»..

عبث بالأطنان

لا يشك عاقل بأن الإسلام بدعوته ومجمل تعاليمه هو دين الاعتدال والوسطية، وفي القرآن والسنّة النبوية من النصوص ما يؤكد هذا المعنى بكل وضوح، ولكن في خضم «جولات العبث القيمي والمفاهيمي» السائدة في مختلف بلاد العالم أصبح هذا الصوت المعتدل أمرا في غاية الصعوبة، إذ أن أجواء الظلم والتعدّيات وحفلات «الجور العلنية» التي تقام هنا وهناك ويرقص على أنغامها عدد غير قليل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تؤدّي إلى تغذية منهج الاعتدال والوسطية في أي مجتمع ولا في أي خطاب.

لسنا هنا طبعا بصدد إيجاد المبررات لأي تشدد أو تطرف، ولكن ما نريد إيصاله للجميع هو أن الوسطية التي نطالب بها ليست أمرا منعزلا عن الظروف والبيئات والأحداث المحيطة بالناس وبالمجتمع، بل هي أشبه بزرع طيب مثمر يحتاج قبل حصاده إلى أرض خصبة طيبة، وإلى سقاية نظيفة، وإلى رعاية مستمرة، وأيضا إلى متابعة دقيقة تبعد عنه كله «الحشرات المضرّة» وتقيه من «تقلبات الحرارة القاتلة»، وإذا لم يتسنَّ للزارع تأمين هذه الأساسيات فالزرع إما سيتلف وإما سيخرج مشوّها لا طعم ولا شكل ولا فائدة منه...!؟

ومن هنا نقول...

الظلم... والفقر.. والجهل.. والقهر.. والتقليدية... ونمطية الفكر.. و«التخويف من التفكير» والاكتفاء بالقول دون العمل... كلها أسباب تجعل خطاب الوسطية في بلادنا أشبه بالتغريد خارج السرب الذي لا يسمعه أحد ولا يستجيب له إنسان ولا يتأثر به عاقل، بل العكس هو الذي سيكون، إذ سيتحوّل حينها هذا الخطاب إلى نوع من الخيالات التي يفرّ منه الناس.

فالمطلوب قبل أي شيء أن نعالج الأسباب لا النتائج، فنصرّ بكل جهدنا على إزالة كل ما يعارض الوسطية من فكر أو عمل أو قول ونبدّله بما ينفع..؟!

والمطلوب.. أن تكون دعوتنا للوسطية دعوة للحق، لا أن يفسرها البعض تراجعا عن حق أو تفريط بواجب..؟!

والمطلوب أيضا أن نعرف كيف تكون وسائل الدعوة إلى الوسطية، ومتى وأين وبلسان من...!!

والمطلوب الأهم من كل هذا هو أن يكون في نفوسنا إيمان تام ويقين راسخ أن الوسطية أصل في ديننا وأساس في إسلامنا وصفة أصيلة في دعوتنا، وكل ما يخالفها دخيل لا اعتبار له.

ولكن هل يتحمّل الدعاة وحدهم هذه المسؤولية؟ طبعا لا..

فالمسؤول الأول معهم الإعلام بكل مجالاته وفروعه، وما أدراكم ما الإعلام؟!..

فهذه الوسائل اليوم بأكثريتها لم تعد إلا «نفاثة في العقد» تنفخ في الرماد ليصبح نارا وهدفها تحقيق فضيحة أو عراك.. تسميه في مصطلحاتها «سبقا إعلاميا»..؟!

ولذا تستضيف من الأشخاص من شذّ، وتفتح الشاشات لمن تفلّت، وتفرد البرامج لكل من ضعف علمه وقوي «لسانه» وإن كان بالباطل...؟!

إن العام 2020 وبكل صدق نقول... هو عام انكسار مظلة الوسطية في بلادنا، وبالتالي عام انكسار الإنسانية، لأن تلك المظلة الكبيرة إذا ما اكتملت «قضبانها» حمت كل من تحتها من حروق الأشعة ومن بلل الأمطار، أما إن انكسر ولو قضيب واحد منها فحينها أي نسمة هواء تهب ستقتلعها من أيدي حاملها أو على الأقل سيصيبه من المتساقطات ما يضرّه... وحينها على الإنسان السلام...؟!



bahaasalam@yahoo.com