بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 أيلول 2021 12:01ص اوراق بيروتية 33

مطالعة مدّعي عام لواء بيروت الشيخ سعيد الجندي في جريمة الكازينو

الشيخ سعيد الجندي الشيخ سعيد الجندي
حجم الخط
نشأ الشيخ سعيد الجندي في وسط عائلة بيروتية مشهورة بقوة الشكيمة وبالتقوى. أرسل في السادسة من عمره الى أحد الكتاتيب، فتلقّى القرآن الكريم والقراءة وصنعة الخط والحساب. وقد أظهر ذكاء وتوقّد ذهن، فدفعه أهله إلى بعض مشايخ وعلماء زمانه ليتعلّم الصرف والنحو ومسائل الفقه والحديث والتفسير. ثم التحق بالأزهر الشريف حيث أتمّ دراسته ونال الشهادة في علوم الدين وما يتفرّع عنها. وعاد الى بيروت ليعمل في التدريس وفي قلم محكمة بيروت الشرعية، ووجّهت إليه رتبة التدريس العام في جامع شمس الدين (في بيروت). لبّى الشيخ سعيد الجندي الدعوة للاجتماع التأسيسي لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية الذي انعقد مساء الأربعاء غرة شعبان 1295هـ/ 31 تموز سنة 1878م في دارة الشيخ عبد القادر قباني، وهناك تلا الشيخ سعيد على المجتمعين «الأحاديث الشريفة النبوية الآمرة بلزوم الاتحاد لخدمة الأمور الخيرية». تولّى سنة 1887 تدريس الحقوق في المدرسة السلطانية. تنقّل الشيخ سعيد الجندي في عدة وظائف في محكمة دمشق ونابلس وحماه. وكانت آخر محطة له في محكمة حلب حيث وافته المنيّة فيها ودفن في مزار المولوية بأمر من السلطان عبد الحميد.
*****


في تموز سنة 1879م وعندما كان مدحت باشا في بيروت عيّن الشيخ سعيد الجندي معاوناً للمدعي العمومي في لواء بيروت. فقام بالتحقيق في قضايا عديدة هامة إلا أن أهم قضية حقق فيها بصفته معاون المدعي العمومي، كانت حادثة مقتل أسعد منسى في شهر آب سنة 1880م/ رمضان 1297هـ عند مدخل كازينو يوسف الرومي بجانب السراية الصغيرة (البرج) حيث وجد المقتول في الساعة السادسة ليلاً يئنّ ويقول «قتلوني». وسمعه فوزي أفندي رئيس الضابطة وسأله عمن قتله فأجاب: قتلوني. وما لبث أن فارق الحياة. فألقي القبض على صاحب الكازينو وبعض عماله وفي شباط 1881م حكم عليهما بالسجن 15 سنة.
الرد على الطعن ببطء التحقيق وبالرشوة
انتقدت بعض صحف بيروت تأخّر الكشف عن القتلة كما أن صحيفة «الأهرام» المصرية نشرت على لسان مكاتبها في بيروت خبراً يلمّح فيه إلى وجود رشوة منعت الكشف عن القاتل. وقد اطّلع الشيخ سعيد الجندي على مراسلة المكاتب المذكور، فأصدر مطالعة مفصّّلة عن القضية في الرابع عشر من شهر ذي القعدة سنة 1297هـ/ تشرين الأول سنة 1880م جاء فيها حرفياً:
«قد علم كل منصف ما بذلته من الجهد والعناء بخصوص قضية قتل أسعد منسى حتى علم ذلك ورثته. والذي لا يستغرب قتله في الموضع الذي قتل فيه لوجود الأسباب والدواعي الكثيرة لذلك من السكر والقمار والنساء الزواني. وقد وجدت الآن في جريدة «الأهرام» ما تخيّل لي في زيادة معرفة بمن له دخل بتلك الجناية، وذلك أنها نشرت رسالة من مكاتبها في بيروت ذكر فيها أن الذي حال دون معرفة القاتل هو وجود الرشوة، وأشار إلى مرتشٍ، فبناء على ذلك يكون ثمة راشٍ. وحيث علم هذا المكاتب الرشوة والمرتشي فهو عالم بالراشي قطعاً، وهو إما القاتل أو أحد قرابته. فيكون المكاتب عالماً بالقاتل أو من له تداخل بالقتل، أو يكون حاضراً في حين صدور تلك الجناية، فيكون مخفياً لجناية علمها، فيتحتم علينا أن نستدعي من صاحب الأبهة والي سورية الأفخم، أن يخابر داخلية مصر السنية أن تطلب من حضرة الأديب سليم أفندي تقلا صاحب «الأهرام»، أن يظهر اسم مكاتبه لأجل الوصول إلى حقيقة القتل أكثر مما وصلنا إليه، حيث يظهر الراشي والمرتشي».
تفاصيل التحقيقات الأولية
وتابع الشيخ سعيد «وهنا نوضح ذكر هذه القضية ليظهر لأبناء وطني المنصفين ما أجريته بها مما هو فوق الطوق. وخلاصة ذلك أني كنت في تلك الليلة عند صاحب القضية حسن صدر الدين أفندي نائب بيروت، ففي خروجي في نحو الساعة السادسة وجدت أحد أنفار الزندرمه من لدن رفعلتو فوزي أفندي وكيل ضابطة بيروت، فأخبرني بوجود قتيل عند باب كازينو يوسف الرومي فأسرعت إلى ذلك المكان فوجدت جثة قتيل وحولها جماعة من الزندرمه وكان ضوء القمر شديداً يمكن من تمييز الإنسان على بُعد، فسألت عن القاتل فأجبت بعدم معرفته، فسألت عن فوزي أفندي فقيل ذهب يفتش على الفاعل، فرفعت صوتي بالسؤال عمن يعرف هذا القتيل، فتقدّم رجل من ورائي في أن ينظره، فتقدّم إلى رأسه وبقي يفكر نحو ثلاث دقائق ثم قال: هذا أسعد منسى. فقلت: من أين تعرفه؟ قال: كان كاتب عميلي يوسف الريشاني. قلت: هل تعرف بيته؟ قال: كلا. قلت: هل تعرف بيت معلمه؟ فقال: لا. وذلك لأجل أن أرسل لورثته خبراً لأجل نقله من باب الكازينو. ثم حملت هذا القتيل إلى دار الحكومة.
وفي أثناء ذلك حضر فوزي أفندي قابضاً على إثنين أخبرا أنهما كانا مع ثالث مارّين في ذلك الحين والثالث يقول «أخّ»، فتركاه وفرّا وقد وجدهما على شاطئ البحر بالقرب من دار بني المدور. فانصرف فكري أنهما الجانيان ولدى استنطاقهما لم يوجد بينهما وبين المقتول مناسبة توجب هذا الفعل. وقد كان فوزي أفندي ذهب للتفتيش في الكازينو وذلك بإشارة مني، فلم يفتح له بعد الطرق الشديد على الباب مع أن صاحبها لم ينم فأصعد أحد أنفار الزندرمه حتى فتح الباب، فدخل وقبض على يوسف الرومي وخادميه. فتبيّن لي من استنطاقهما أنه كان مع أسعد منسى رجل غريب لابس غنباز أبيض فوقه «جوكتة» فذهب فكري إلى ذلك الرجل الذي أخبر بمعرفته، فعرفت أن اسمه أوسطه من الناصرة، فصار إحضاره بعد طلوع الشمس بقليل فأخذت استنطقه فتبيّن لي من الأسئلة والأجوبة والدم الذي رأيته على كمّ غنبازه وقوع الشبهة القوية عليه مع كونه ملازمه من أول تلك الليلة إلى حين قتله. فلذلك أوقفته وكنت أوقفت يوسف الرومي وخادميه.
ثم في ذلك النهار أجريت استنطاق من أشتبه به حتى مضى ذلك النهار وحضرت في الليل وأجريت بعض الاستنطاقات. وليلة الأحد توجهت من دار الحكومة وأخذت كافة التقريرات التي أخذتها ولكن بعدما تحققت ان القتل وقع داخل الكازينو وأن أوسطه ما خرج منها إلا بعد وقوع القتل وأن صاحبها عالم بالحقيقة وشاهد لأعمال القتل، وعزمت أن أراجع في يوم الأحد هذه التقريرات وأخذ خلاصتها فلم يتم لي ذلك حيث حضر أحد أفراد الزندرمه فأخبرني بحضور ورثة القتيل وطلبهم لي لأجل أخذ تقريرات. فحضرت إلى محل الحكومة واستحضرت المرأة إحدى نساء الكازينو لأجل تقريرها واستعنت بالله تعالى على إظهار هذه الجناية كما وفّقني لإظهار الجنايات الخمس التي وقعت في جميع اللواء منذ توظفت إلى الآن حيث لم يغب عني شيء منها.
شكوى ورثة القتيل وتعيين مستنطق آخر
ويتابع الشيخ سعيد بأن عمل الفساد الذي ظهر لي ممن لا يريد وجودي بهذه المأمورية لأسباب معلومة، صيّر الحبة قبّة، وصُوّر للورثة ما شوّش أفكارهم من جهتي فقدّموا رسالة برقية الى دولة ناظر العدلية العلامة العادل بأنه لم تجرِ تحقيقات كافية من طرف معاون المدعي العمومي، وهي معلنة بأني أجريت تحقيقات. وقد طلبت من رئيس المحكمة تعيين مستنطق فعيّن رفعتلو رسلان أفندي دمشقية. فأجرى جميع التحقيقات وظهر أن التدابير التي قمت بها كانت بمحلها بوجود دم على كرسي وطاولة وأرض أوطة في الكازينو وثوب يوسف الرومي صاحبها وصانعه، فصار تحليله مع الدم الذي رأيته على كمّ غنباز أوسطه فظهر أنه دم إنسان والبراهين كثيرة تقدّم عند إجراء المحاكمات، حيث كانت كافية للحكم في نظري.
ثم بعد ذلك حضر سعادة المدعي العمومي ونزل في دار رفعتلو السيد عمر أفندي الغزاوي لرؤية التحقيقات التي أجريتها. وبعد اطّلاعه على ذلك لم يجد أدنى قصور ثم عاد إلى الشام. وأبلغني المستنطق المومأ إليه قراره بأن يوسف الرومي وخادمه خليل وأسعد وأوسطه هم الذين ارتكبوا هذه الجناية داخل الكازينو المذكورة. فعلم أني لم أتماهل أصلاً بإظهار هذه الجناية خلافاً لما نسبه إليّ هذا المكاتب المفتري وأرسل القرار مع جرنال الاستنطاقات إلى الهيئة الإتهامية. 
جردة المدّعي العام بالقضايا والأحكام
ثم علاوة على ما ذكر أريد أن أحرّر بلسان القلم ما قدّمته لدائرة الجزاء من ابتداء مأموريتي إلى الآن عدا عن الدعوى الحادثة المرقومة 633 دعوى كل منها تمّت موجودة في أربعة دفاتر هي جناية وجنحة وقباحة عدا عن دعاوى الحقوق في الأموال الأميرية. وبعد مرافقة كل دعوى قد تبلغت من هذه الدائرة 497 من أصل ما قدمته. وقد أسقط الباقي وذلك إما لعدم وجود البرهان الكافي لبعضها، وإما لكونها من الدعاوى التي لا ينفرد معاون المدعي العمومي بها بدون المدعي الشخصي مثل الإهانة وإزالة البكارة إذا كانت راشدة بالرضى. وهذا دليل واضح على استقامة الدائرة وعدالتها وبرهان واضح على اهتمامي وقيامي بحقوق وظيفتي. وحيث كنت مأموراً بإجراء هذه الأحكام فقد أجريتها وللّه مزيد الحمد بمعاونة رفعتلو فوزي أفندي حيث كان جميع مضابط هذه الأحكام تحال إليه من طرفي عدا الأحكام بالقتل ولنكتفِ بما ذكرناه».

* مؤرخ