بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 شباط 2023 12:00ص بيروتيّات (23).. رسالة الشيخ عبد الغني النابلسي في رفع الأيدي عند الدعاء

مخطوطة رفع الأيدي مخطوطة رفع الأيدي
حجم الخط
قيل للجنيد: أَنطلب الرزق؟ قال: إن علمتم أين هو فاطلبوه. قيل: فنسأل الله. قال: إن خشيتم ينساكم فاذكروه. قيل: فنلزم البيوت. قال: التجربة شك. قيل: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة مراده تأديب وتهذيب مريديه أن يكون تصرفهم في كل أمورهم بإذن الله لا بشهوة النفس فان الدعاء مطلوب ومأمور به شرعا.
حضر الشيخ عبد الغني النابلسي الى بيروت سنة 1693 وأخبروه ان فيها متصوّف ينهى الناس عن رفع الأيدي عند الدعاء فكتب رسالة ردّاً على ذلك.

وُصف عبد الغني إسماعيل النابلسي بأنه قطب الأقطاب والأسد المهاب، عقدة قلادة الأفراد والانجاب، قدوة العلماء المحققين والأئمة المدققين، مسلك المريدين ومربّي السالكين، شيخ الطريقة ومعدن الشريعة والحقيقة. قام النابلسي بعدة رحلات، ورد ذكر بيروت في رحلتين منها.
قام في شهر محرم الحرام 1105هـ/ 1693م برحلة أولى وصل فيها الى بيروت في اليوم الرابع والثلاثين منها ونزل ضيفا عند ابن القصار وسمّيت هذه الرحلة «الحقيقة والمجاز في الرحلة الى بلاد الشام ومصر والحجاز» أو الرحلة الكبرى، وذكر فيها اجتماعه مع أحمد عز الدين وغيره كما ذكرنا في مقال سابق.
نشرت الرحلة الثانية باسم «التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية» قام بها سنة 1112هـ/ 1700م فنزل في سراية الحاكم وزار زاوية ابن الشويخ الحديثة العمران في تلك السنة والتي عُرفت فيما بعد بجامع المجيدية. وذكر إيوان بيروت بجوار القلعة وزاوية إبن القصار وزاوية ابن الحمرا، كما ذكر جوامع البلدة وهي: الجامع الكبير، وأشار الى أنه كان كنيسة، وجامع الأمير منذر وجامع الأمير عساف وجامع البحر الذي سُمّي كما قال بالعمري كما هو مشهور عندهم - أي البيارتة لأنه من زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
النابلسي وعلماء بيروت
تبيّن من آثار علماء بيروت انهم كانوا على اطّلاع على بعض رسائل النابلسي، وقد نقل بعضهم فقرات منها ونسخها البعض الآخر كاملة. ذكر الشيخ أحمد البربير في كتابه «الشرح الجليّ على بيتي الموصلي» قول النابلسي في وصف أهل الشام:
 زبلهم في الماء صيّرهم
شربة من غير افهام
وشرح قوله بأنه شبّه الوجود المطلق بالماء وشبّه الحوادث كلها بالزبل والنجاسات لأنها تمنع من الطاعات وتفسد العبادات، ومراده ان أهل الشام جمعوا بين الشرب صرفاً ومزجاً.
ونقل البربير لطيفة من الرحلة الحجازية المشار إليها وهي ان النابلسي استخار الله يوما في فعل أمر فرأى بعد الاستخارة على الأرض قطعة حبل كهيئة (لا) الناهية فترك ذلك الأمر لأن الحبل يشير الى ان: «لا تفعل»، وكانت الخيرة في تركه.
ونقل مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري في احدى مخطوطاته فقرة من كتاب «شرح الطريقة المحمدية» للنابلسي. ونقل في مخطوطة أخرى رسالة كتبها النابلسي في صفر الخير سنة 1086هـ سمّاها «قطرة السماء ونظرة العلماء لأنها قطرة سماء الوجود ونظرة علماء الشهود» والرسالة في بابين: الأول في حقيقة الوجود الموصل الى معرفة المعبود، والباب الثاني في بيان حقائق الآخرة وما يرجع إليه أمر الإنسان في دار الربح والخسران.
وفي السادس عشر من شهر ذي الحجة سنة 1312هـ نسخ الشيخ عبد الحميد الفاخوري رسالة النابلسي المسمّاة «حق اليقين وهداية المتقين» الذي كتبها النابلسي سنة 1108هـ. كما نسخ الشيخ عبد الحميد في السادس عشر من شهر ذي الحجة 1312هـ رسالة النابلسي المسمّاة «قطرة السماء ونظرة العلماء» المتقدم ذكرها (وفي خزانتنا نسخة منهما).
النابلسي وردّه على من نهى الناس عن رفع الأيدي
ذكر المحبّي في «سلك الدرر» ان لأحمد الشهير بالحلوي (1227-1195) منظومة في رفع الأيدي نظم بها ما ذكره الفقهاء. وذكر علي بن ميمون المغربي في رسالة له نسخها سنة 1084هـ عبد الوهاب بن سليمان الهوش «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا فرفع يديه ومسح وجهه بيديه. وجاء في رواية لم يضعهما حتى يمسح بهما وجهه، وجاء في رواية أخرى انه كان يأمر أصحابه بذلك ويحرّض عليه وقال: لو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال. وفي رواية أخرى رواها البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه: «استسقى فرفع يديه حتى نرى بياض إبطيه».
قال عبد الغني النابلسي في الرحلة الكبرى «أخبرنا بعض الناس من بيروت ان رجلا من المنتسبين الى التصوّف، ولم نجتمع به، ينهى أهل تلك البلاد عن رفع اليدين في حالة الدعاء والابتهال الى الله تعالى بعد الصلوات وغيرها، وسألونا عن ذلك: هل له أصل في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كلام الفقهاء أم لا؟ فأجبناهم بأن الناهي عن ذلك مبتدع في الدين وخارج عن طريق العلماء العاملين. وقبل الدخول في رسالة النابلسي في الموضوع نقول: اعتاد المسلم ببسط كفّه عند الدعاء وبمسح وجهه بكفيه بعد تلاوة الفاتحة وبرفع كفيه إذا دعا وبرفعهما أعلى من رأسه عند الابتهال.

كتب النابلسي رسالة في الرد على متصوّف بيروت المبتدع («الرحلة الكبرى» ص80) ان الناهي عن ذلك مبتدع في الدين وخارج عن طريق العلماء الصالحين، ولذلك أصل في السنّة وفي كلام الفقهاء. روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى رجل اعرابي من أهل البدو الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: يا رسول الله هلك العيال، هلك الناس. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه يدعو ورفع الناس يديهم مع النبي يدعون (الحديث مذكور في الاستسقاء). وفي رواية أخرى رواها البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه: «رفع يديه حتى نرى بياض ابطيه». وعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلّا في الاستسقاء وانه كان يرفع يديه حتى يُرى بياض ابطيه». ومعنى قول أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه مثل هذا الرفع المخصوص في الاستسقاء فانه كان يرفع يديه حتى يُرى بياض ابطيه وليس المراد مطلق رفع اليدين في الدعاء كما هو الظاهر من هذه الأحاديث وأحاديث رواها مسلم.
وروى ابن ماجه في سننه في باب رفع اليدين عند الدعاء عن سليمان رضي الله عنه قال «ان ربكم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يده فيردّها صفرا أو قال خائبتين». وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا دعوت الله فادع ببطون كفّيك ولا تدع بظهورهما فإذا فرغت فامسح بهما وجهك. وفي حديث ابن ماجه الأول قول الجلال السيوطي رحمة الله عليه على لسان القنقم الذي يستعمل فيه ماء الورد:
إذا كنت مع ضعفي وقلّة حيلتي
أجود بموجودي لباسط كفّه
 فما بالكم بالله ربي فابسطوا
أكفّ الرجا فالجود من بعض لطفه
(الى آخر ما جاء في رسالة النابلسي)
متصوّف آخر مبتدع في بيروت
وجد في بيروت مبتدع آخر ذكره مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري في مخطوطة «خبايا الدراية» بعد ذكره بيت أبي حيان:
يجرّون التيوس وراء رجس
تقرمط في العقيدة والمقال
قال «وقد اذكرني هذا البيت انه وجد في مدينتنا بيروت رجل يُدعى يحيى ادّعى التصوف واتبعه الجهلة من أهل البلد فأنكرتُ على ذلك أشدّ الانكار، وساعده على أحواله بعض أهل الفسوق وأصحاب الغايات والشهوات، فعمل بعض أدباء العصر من أهل بيروت بيتين وأرسلهما إليّ:
عجبت لبلدة رشقت بنوها أساطين العلوم بمنجنيق
فكم أسد يموت بها ويحيى بها كلب عقور في الطريق

* مؤرخ