بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 شباط 2023 12:00ص بيروتيّات (24).. قصة المعراج من ابن عبّاس والمعرّي وابن عربي... إلى «كوميديا» دانتي

كتاب «الإسراء إلى المقام الأسرى» كتاب «الإسراء إلى المقام الأسرى»
حجم الخط
الإسراء والمعراج معجزة من معجزات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذُكرت في القرآن الكريم وهي من الخوارق، كانت معجزة وستبقى كذلك إلى يوم الدين آمن بها الصحابة وصدّقوها، ولا يجوز أن نخضعها لمقاييس ما يشهده العالم اليوم من تقنيات لأن إخضاعها لذلك ينفي عنها صفة المعجزة من جهة ولأن العلم لا يزال في مجالات شتى، قاصراً عن حل معضلات أبسط بكثير، وليس أعظمها إيجاد دواء لأبسط الأمراض.
تكاثرت قصص المعراج على مرّ الزمن انطلاقاً من آية في القرآن الكريم (سورة الإسراء) إلى حديث متعدد الأسانيد وصولاً إلى ما رواه ابن إسحق عنها في «السيرة» وتمييزه بين الجحيم والجنة، في حين اكتفى البخاري ومسلم بالإشارة إلى سدرة المنتهى. أما القصة المنسوبة لابن عباس فقد حفلت بأخبار وتفاصيل شبيهة بما رواه أنس بن مالك.

وقد تحرّج سلف بيروت الصالح من الأخبار التي ذكرها معراج ابن عباس، الذي طبعت سنة 1351هـ/ 1898م بالمطبعة العلمية بدمشق لصاحبيها عمر ومحمد هاشم الكتبي ويرد فيها ذكر ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في جهنم من نساء احترقت وجوههن وألسنتهن، وأخريات في أعناقهن سلاسل من نار، وغيرهن معلقات في تنور من نار، إلى من يأكلن أمعائهنّ، ومن تنهشهن الحيّات الخ.. وهن اللواتي كن يتزيّن لغير أزواجهن، أو يشتمنهم أو هنّ زانيات أو قوادات أو يسعين بالنميمة بين الناس أو يقتلن أولادهن بالإجهاض، أو النواحات بالكراء أو يغيّرن خلق الله.
يُذكر ان «ثمرات الفنون» استنكرت في عددها الصادر في غرّة شعبان سنة 1317هـ ما جاء في الطبعة المشار إليها فقد قالت الصحيفة حرفياً «أهدينا نسخة كرّاسة عجيبة سُمّيت بمعراج الإمام إبن عباس مطبوعة بدمشق، فعجبنا من كرّاسة لحبر الأمة رضي الله عنه، إذ لم يكُ هذا الشيء معروفاً في الصدر الأول من الإسلام، ثم قلبنا صفحاتها فإذا هي محشوة بالخرافات والآقاصيص، بل بالإفك والبهتان مما لا يقبله الجاهل فضلاً عن العاقل». وتضيف الصحيفة «على أننا لا نرى بداً من أن نذكر أن بعض الكتبيين عندنا قد ابتاع من هاته الكرّاسة خمسين نسخة. لكنه لما علم بما تضمنته من الخرافات، أعادها كلها إلى طابعها الذي لنا الأمل الوطيد أيضاً بما نعهده فيه من الغيرة والحمية، بجمع النسخ جميعها وإطعامها للنار خدمة للدين فنكون له من الشاكرين».
وقد وضع مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري في رجب سنة 1292هـ/ آب (أغسطس) 1875م رسالة بعنوان «المعراج الشريف» لم يأتِ فيها على أشكال التعذيب والمعذبين من النساء والرجال والبدع الأخرى. كما ان الشيخ محمد عمر البربير ألقى في جامع المجيدية خطبة منبرية أوضح فيها معجزة الإسراء والمعراج.
وقد درجت العادة في بيروت على إسراج منارات الجوامع تكريماً لليلة المعراج وعلى تلاوة قصته في الجامع العمري الكبير.
قصة المعراج ملهمة الفقهاء والشعراء والمتصوّفة
ألهمت قصة الإسراء والمعراج العديد من الفقهاء والشعراء والأدباء في الشرق والغرب متأثرين بسيرة ابن أسحق وقصة ابن عباس. فيما رأى فيها بعض المتصوفة قصة رمزية توافق معتقداتهم. فأبو يزيد البسطامي (875م) وضع معراجاً عُرف بمعراج أبي يزيد، وهذا الأخير يحمله طير أخضر ويعرج به إلى السماء السابعة.
أما محيي الدين ابن عربي فقد كتب «الإسراء إلى المقام الأسرى» يشير إلى الانتقال من الأندلس إلى القدس. ومن هناك يعرج إلى السموات السبع في أسلوب من الإشارات والرموز والاستعارات. حققته وشرحته د. سعاد الحكيم شرحاً وافياً.
ويمكن القول بأن فريد الدين العطّار حذا في كتابه منطق الطير حذو البسطامي وابن عربي.
أما أبو العلاء المعري (1058م) فقد كتب رسالتين بتأثير قصة المعراج، هما «رسالة الغفران» و«رسالة الملائكة»، انتقد فيهما الفكر الديني والأدبي السائد في عصره. وظاهر «رسالة الغفران» جواب على رسالة تلقّاها الشاعر من أديب حلبي يُدعى ابن القارح (علي بن منصور) الذي سعى إلى دخول الجنة قبل الناس واقفاً في الحشر، ثم يدخل الجنة ويجتمع بالشعراء ويسأل من يلاقيه قائلاً: بِمَ غفر الله لك؟ ويطلّ على أهل النار ويسأل من فيها: لِمَ لم يغفر الله لك؟ فسُمّيت رسالته برسالة الغفران. وقد حشد المعري في رسالته معلومات لغوية وفلسفية ودينية في قالب ساخر والفاظ غريبة، لإخفاء حقيقة أفكاره. فيروي انه لم يتمكن من العبور على الصراط فعرض على جارية للزهراء أن تحمله بالطريقة التي قال فيها الشاعر:
سـتّ إن أعـيـاك أمــري
فـاحمـلـيـني زقفونه
(ويشرح معنى «زقفونه» بأن يطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر ويمسك الحامل بيديه، ويحمله وبطنه إلى ظهره).
وعندما يصل إلى باب الجنة يطلب منه جوازا للدخول، وطلب من رضوان إعطائه ورقة من شجرة صفصاف داخل الجنة فرفض رضوان ذلك إلا بإذن من الله تعالى، وهنا يقول المعري معرّضاً بحاكم البلد: لو أن للأمير خازناً مثلك لما وصلت أنا ولا غيري إلى درهم من خزانته (ما أشبه الليلة بالبارحة). ويروي بعض أخبار المتنبي وينفي عنه ادّعاء النبوّة.
أما «رسالة الملائكة» ففد أجاب المعري فيها عن ست عشرة مسألة صرفية قدّم لها بإحدى وعشرين مادة تناول أصولها وأوزانها فجعل نفسه كأنه أشرف على الموت وأراد أن يدافع ملك الموت ويشغله بالبحث عن أصل لفظة ملك واشتقاقها. ثم جعل نفسه كأنه دخل القبر فذكر أسماء بعض الملائكة ثم خرج إلى المحشر فذكر مسمّيات في الجنة أو النار. وأشار إلى أنه لا يحسن بساكن الجنان أن يصيب بثمارها في الخلود وهو لا يعرف حقائق تسميتها كمعرفة حروف كمثرى أَكُلّها أصلية أم بعضها زائد. ومعرفة كيفية تصغير كلمة سفرجل ووزن سندس ومعنى الحور (العين) ومن أي شيء اشتقت هذه اللفظة وكيفية جمع وتصغير لفظة الاستبرق. وإلى أي شيء نسب العبقري الخ..
ابن عربي وقصيدة دانتي
يُذكر ان المستشرق الإسباني ميكال آسين بالاسيوس ألقى في 26/6/1919 محاضرة في الأكاديمية الاسبانية لخّصها بالفرنسية اندره بلسور وعرّبها عمر فاخوري ونشرت في جريدة «الميزان» الدمشقية ثم طبعت سنة 1925م عنوانها «علم المغيّبات عند المسلمين وأثره في الكوميديا الإلهية». وأثبت فيها ان Dante Allighieri دانتي اليغييري (1265-1320م) مشى على آثار أبن عربي وان قصة المعراج ألهمته قصيدة الكوميديا التي نظّمها.
أما كيف اتصلت الآداب الإسلامية بعلم دانتي فشأن آخر. فمن الثابت أن الإسلام انبسط على شمال أفريقيا وجنوب ايطاليا وفرنسا وإسبانيا وصقلية. ففي القرن الثاني عشر كان في بالرمو ثلاثماية جامع وفي ضواحيها مئتان وكان الملك يتكلم ويكتب بالعربية وفي بلاطه علماء وشعراء عرب وقد غلب الروح الإسلامي عندما تبوأ عرش صقلية فريدريك الثاني. أما طليطلة فما كادت تؤخذ من المسلمين حتى أمر الوزير الأكبر بترجمة أشهر المصنفات العربية إلى اللاتينية، وكانت هذه الترجمات تنتشر بسرعة. فبطريق الأندلس انتقلت سيرة النبي وأخباره ومن ضمنها الإسراء والمعراج إلى الآداب الغربية.
فلم يكن من الطبيعي أن يبقى دانتي بمعزل عن هذه الآداب الإسلامية وقد يكون عرفها من محارب عائد من الحروب الصليبية أو من معلمه ومرشده برونتو لاتيني الذي ألّف كتاباً باسم «الكنز» مثقل بعلوم العرب وفلسفتهم. كما ان دانتي يذكر في مؤلفاته النثرية كثيراً من المؤلفات الإسلامية التي أخذ منها وقد كتب ملحمته الكوميدية بين سنتي 1308 و1320م. وينهي مترجم محاضرة بالاسيوس قوله «بأن تأثير دانتي على شعراء المجاز الإسبان منذ القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر يعود الفضل فيه لعلماء المسلمين في تأليف قصيدة الكوميديا الإلهية وان من المسلم به أن الكوميديا الإلهية هي الزبدة الشعرية للقرون الوسطى فان عليها طابع الحضارة الإسلامية التي كانت القرون الوسطى عهدها الذهبي».
وقد تثبّت الدكتور نذير العظمة في كتابه المعراج والرمز الصوفي صحة نظرية بالاسيوس، بعد وقوعه، أي العظمة، على النسخة الأندلسية للمعراج التي ترجمت سنة 1264م إلى الإسبانية واللاتينية والفرنسية. ومن الآثار الحديثة لتراث المعراج قصيدة للزهاوي العراقي (1863-1963م) بعنوان «ثورة في الجحيم» (1931م) ومسرحية «الغفران» لبنت الشاطئ المصرية (1975م) ومسرحية «الغفران» للتونسي عز الدين المدني (1976).
ونعود لمعجزة الإسراء والمعراج لنقول انها من المعجزات التي كرّم الله تعالى بها أنبيائه ورسله، وهي فوق طاقة البشر وإمكاناتهم. نشير إلى ان الشيخ أحمد البربير قرأ في بعض التواريخ «ان آدم عليه السلام لما كثرت أولاده شكا إلى الله من ضيق المساكن، فأمره الحق بتفريق ذريته في الأقطار. فلما تفرّقوا عنه اشتاق إليهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن يخرج له مرآة من مراء الجنة، فكان يبصر بها أولاده وأحوالهم وما هم عليه، ولم يزل كذلك في هذه الدار، حتى انتقل إلى دار القرار».

* مؤرخ