بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 شباط 2023 12:00ص بيروتيّات (25).. محرمة المأذون... ومهر «السُّمعة»

صورة العُقد صورة العُقد
حجم الخط
يمكن تشبيه العادات والتقاليد، مثل المأثورات كافة، بشجرة معمّرة باسقة، أغصانها مرتفعة في السماء وجذورها ممتدة في أعماق الأرض، تتجدد أغصانها وأوراقها باستمرار وتبقى الجذور. والجذع الرئيس أي الأرومة والعناصر الأساسية دون تبديل، وخلاصة الرحلة الطويلة التي تقطعها التقاليد بين أول راوٍ أو فاعل والأخير، ينالها الكثير من الحذف والإضافة والتغيير والتبديل. وقد أصبحت بعض العادات مثل اللقى الأثرية يقتضي التنقير فيها لاكتشاف أصولها وما نشأ حولها ومعها من أفكار وممارسات ونظم اجتماعية وعلاقات قانونية سادت المجتمع في فترة معينة من تاريخه وقد يندثر الأصل وتبقى موتيفات وممارسات شكليـــة لا علاقة لها به.
ومن هذا القبيل ما عرف بحساب العُقد عند العرب منذ الجاهلية واستمر حتى عهد قريب، ويطبق باستعمال أصابع اليدين وبسمى عند الفرنجة Dactylonomie. وكان مشهوراً في البلاد الحجازية والهندية وغالب بيع التجار به.

ذكر المفتي الشيخ أحمد البربير أنه «إذا وقعت المساومة بين البائع والمشتري، وضع المشتري يده في يد البائع وثم يجعلان فوق يديهما سائراً كمنديل ومحرمة، ثم يشير المشتري الى البائع بعقد الأصابع. فإذا لم يعجبه الثمن قال: لا. وإذا أعجبه الثمن قال له: بعتك. فلا يعلم الحاضرون كم مقدار الثمن. وهو نترجمه بأمثالنا العامية فنقول بين البائع والشاري يفتح الله. وأوضح البربير طريقة العد بالأصابع مفصلاً بقوله «إذا أرادوا عقد واحدٍ، ضمّوا الخنصر ضمّاً محكماً. أو عقد اثنين ضمّوا معها البنصر، أو عقد ثلاثة ضمّوا معها الوسطى. أو أربعة رفعوا الخنصر وتركوا البنصر والوسطى مضمومتين. أو خمسة ضمّوا الوسطى وحدها ورفعوا البنصر والخنصر. أو ستة ضمّوا البنصر وحدها ورفعوا الوسطى والخنصر. أو سبعة طووا العقدة السفلى من البنصر وحدها ومدّوها حتى يصل طرفها الى اللحمة التي في طرف الإبهام. أو ثمانية فعلوا بالخنصر كذلك. أو تسعة فعلوا مثل ذلك بالوسطى. أو عشرة جعلوا طرف السبابة في باطن ظفر العقدة العليا من الابهام.. الخ...».
وغاية العدد بالعُقد أن ينتهي إلى تسعة وتسعين وتسعمائة وتسعة آلاف فقط. وقد ورد عقد التسعين في حديث الصحيحين باستعمال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا العدد ولفظ الحديـث «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج وعقد تسعين» أي فُتح فتحٌ نافذٌ فيه وأن كان ضيقاً جداً. ومما يتعلق بالحساب قول بعض البلغاء:
بقلبي حبيبٌ ومليحٌ ظريفُ
بديعٌ جميلٌ لطيفٌ رشيقُ
ادّعى ناظمه أنه يخرج من هذا البيت أربعون ألف بين وثلاث مئة وعشرون بيتاً، لأن البيت ثمانية أجزاء فيمكن أن ينطق بكل أجزائه مع الجزء الآخر، فتنقل كل كلمة ثماني انتقالات.
حساب العُقد في الصلاة
ذكر الشافعية الحساب في الصلاة عند التشهد، فقالوا: السنّة أن يضع المصلي يده اليمنى فوق فخذه عند جلسة التشهد كعاقد ثلاثة وخمسين، وذلك بأن يضم أصابعه الثلاث وهي الخنصر والبنصر والوسط، ضمّاً محكماً بحيث يطوي العقدتين اللتين في كل إصبع منها، وهذا عقد ثلاثة، ثم يطوي الإبهام إلى الكفّ وذلك عقد خمسين، لأن عقد الخنصر والبنصر والوسطى من اليد اليمنى هي عقد الآحاد. وعقد السبابة والإبهام منها عقد العشرات. وعقد الخنصر والبنصر والوسطى من اليد الشمال عقد المئات. وعقد السبابة والإبهام منها عقد الألوف. فإذا أرادوا عقد واحدٍ ضمّوا الخنصر ضمّاً محكماً. أو عقد اثنين ضموا معها البنصر، أو عقد ثلاثة ضمّوا معها الوسطى الخ... وكان هذا العلم يستعمله الصحابة كما جاء في الحديث في كيفية وضع اليد على الفخذ في التشهد.
علم حساب العُقد
وفي خزانة الأدب انه ورد من حساب العُقد الحديث كما ذكرنا أعلاه. وألّفوا فيه كتباً وأراجيز منها أرجوزة لأبي الحسن على الشهير بابن المغربي شرحها عبد القادر بن علي شعبان العوفي ومنها في عقد الثلاثين:
وأضمّهما عند الثلاثين ترى
كقابض الإبرة فوق الثرى
أي أن الثلاثين تحصل بوضع إبهامك الى طرف السبّابة، أي جمع طرفيهما كقابض الإبرة.
جاء في «كشف الظنون» في كلامه عن أنواع الحساب قوله «ومنها علم حساب العقود أي عقود الأصابع، وقد وضعوا كلاً منها بإزاء أعداد مخصوصة، ثم رتبوا لأوضاع الأصابع آحاداً وعشرات ومئات وألوفاً، وهذا عظيم النفع للتجار ولا سيما عند استعجام كل من المتبايعين لسان الآخر وعند فقد الآت الكتابة».
وشاعت في القرن الماضي أرجوزة من نظم الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد الموصلي الحنبلي كانت محفوظة لدى العلّامة محمود شكري الألوسي، نشرها الأب أنستاس الكرملي وشرح ألفاظها ومطلعها:
بحمدك يا رباه أبدأ أولا
فما زلت أهلاً للمحامد مفضّلا
وأتبع حمدي بالصلاة على الرضا
أبي القاسم المهديّ خير من أرسلا
ثم يذكر كيفية الحساب بدءاً من الآحاد فيقول:
ففي عدد الآحاد يا صاح أفردنْ
ليمنى يديك اعلم وإياك تجهلا
فللواحد اقبض خنصراً ثم بنصراً
للإثنين والوسطى كذلك التكمّلا
وفي العشرة فما بعدها يقول:
وفي عشرة مع عقد الإبهام فاستمع
تحلّق رأساً للمسبّحة افعلا
وللظفر من إبهامك اجعله بين إصـ
بعيك هي العشرون فاعلمه واعملا
وما بين رأس للمسبّحة اجمعنْ
ورأس للإبهام الثلاثون حصّلا
وإن تركب الإبهام يا صاح فاحتفظ
لسبّابةٍ للأربعين مكمّلا
إجراءات البيع عند الرومان
وكان للبيع لدى الرومان إجراءات شكلية كأن يمسك المشتري المبيع بيده وينطق صيغة مخصوصة يؤكد حقه في الملكية ثم يضرب به الميزان بسبيكة معدنية يقدمها للبائع رمزاً على دفع الثمن. وكانوا يسمّون العُقد الشراء والبيع، فإذا اختصروها ففي لفظ الشراء emptio لا في لفظ البيع Venditio لأن الدور الغالب في الإجراءات الشكلية كان للمشتري. ولا يزال التقنين المدني الألماني يطلق على البيع اسم الشراء Dauf لغلبة الدور الذي يقوم به المشتري.
ومن الإجراءات الشكلية عند العرب عند الشراء الصفق وهو الضرب الذي يسمع له صوت، تصافق القوم تبايعوا، وصفقت له بالبيع صفقاً أي ضربت يدي على يده، وإنما قيل للعملية صفقة لأنهم كانوا إذا تبايعوا تصافقوا بالأيدي، ومن حديث أبي هريرة «ألهاهم الصفق بالأسواق» أي التبايع.
حرمة المـأذون ومهر السُّمعة
ومنذ أن ذاعت صناعة السينما المصرية، كنا نشاهد في الأفلام في احتفالات عقد القران أن وكيلي الزوجين يشبكان يديهما اليمنيين ويضع المأذون فوق اليدين محرمة، وما ان ينتهي من العقد حتى يرفع المحرمة. وتبدو هذه العملية وكأنها استمرار شكلي للعملية الحسابية القديمة التي ينتج منها الاتفاق على المهر.
ويبدو أن سبب استمرار وضع المحرمة عند إجراء عقد الزواج يعود الى وجود اختلاف بين المهر الحقيقي المتفق عليه وبين المهر المعلن.
وقد لحظ الفقهاء اتفاق المتعاقدين في الزواج على وجود مهرين: أحدهما هو المهر الحقيقي الذي يكون غالباً متدنياً ولا غلو فيه، والثاني يتفق على إعلانه فقط أمام الحضور دون الالتزام به ويكون غالباً مرتفعاً. ففي الفتاوى الهندية «إذا تزوج امرأة على صداق في السّر، وسمع في العلانية بأكثر، فإن اتفقا على المواضعة فالمهر ما تواضعا عليه في السّر، وان اتفقا في السّر على مهر ثم أقرّا في العلانية بأكثر من ذلك فإن اتفقا على ما تواضعا عليه سرّاً كانت الزيادة في العلانية «سُمعة» فالمهر هو ما ذكر في السّر» (ج1. 315).
وفي الفتاوى البزازية «تزوجها بمهر سرّاً وبشيء علانية بأكثر فالعلانية. فان تواضعا وتعاقدا في العلانية بأكثر فالعلانية، إلا أن يكون أشهد عليها أو على الولي أن المهر مهر السرّ، والعلانية سمعة» (بهامش الهندية 4/133).
وفي العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين «في رجل تزوج امرأة بمهر على أن منه كذا سمعة بعدما اتفقا على مهر في السّر وما عداه سُمعة. فهل يجب ما اتفقا عليه على أنه هو المهر ولا يجب ما جعل للسُمعة؟ والجواب «إن اشهد على السُمعة لم تجب الزيادة بالإجماع ويجب ما اتفقا عليه في السر، ولا يجب ما جعل للسُمعة» (2/22).
* مؤرخ