بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 آذار 2023 12:00ص بيروتيّات (26).. الحاج سيف الدين ابن الحاج علي العالية الشهير «بالسقعان» (1/7)

وثيقة العالية وثيقة العالية
حجم الخط
في الحديث: «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم»، وقد تناسى البعض ان الحديث يحثّ على صلة الرحم. بينما نشهد اليوم ان أغلب العائلات تحصر اهتمامها بسلفها الصالح لا للاقتداء بما قاموا به من أعمال برّ وخير بل للمباهاة والمفاخرة، ناسين أو متناسين الحديث الشريف الذي يقول: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له». ومن يكتب اليوم فيما نسميه «مصطلح النسب» قياساً على مصطلح الحديث الذي وضع له علماء الحديث القواعد والأحكام أو قياساً على مصطلح التاريخ الذي اقترحه الدكتور أسد رستم، يحصر همّه بتنسيب العائلات الى حسينية وحسنية وبكرية وعمرية الخ.. ويزعم بأن أجدادها حاربوا مع صلاح الدين ضد الصليبيين أو انهم قدموا من المغرب دفاعا عن الثغور، وكل ذلك دون سند أو مصدر أو وثيقة تثبت هذه الأقوال. ولم نجد في الوثائق التي اطّلعنا عليها ان أسلافنا تكلموا في أعمال أنسابهم بل اقتدوا بهم بوقف أراضيهم في وجوه البرّ وإطعام الفقراء المتمثل بقفة الخبز التي كانت توضع بدكانة قرب الجامع العمري الكبير عند صلاة الجمعة كي يأخذ الفقير حاجة أسرته منه، أو بإنشاء الأسبلة في الدروب والساحات لإرواء السابلة لا سيما في ليالي الصيف الحارة أو بتخصيص جزء من ماله لتعليم الفقراء أو بإنشاء المساجد والزوايا، كما يتبيّن مما ذكرناه في كتابنا «زوايا بيروت». كما أوصى بعضهم بمال لفقراء الحرمين الشريفين: حرم مكة المكرمة وحرم المدينة المنورة، أو بمال يشترى به من ماء زمزم يوزع في سبيل الله على حجيج بيت الله الحرام. وقد قاموا بذلك وفقا لقول ابن الوردي في لاميته:
لا تقل أصلي وفصلي أبدا
إنما أصل الفتى ما قد حصل
يُذكر ان البعض كان يحمل شجرة نسبه في جرابه ويسافر بها كأنها وثيقة هوية، وكلما حطّ رحاله في بلدة ملأ هامشها بتقريظ من العلماء، وشاع المثل القائل: «قال الولد لأبيه: يا أبي شرّفنا. قال له أبوه: حتى يموت اللي بيعرفنا». فالعمل الصالح يبقى على مرِّ الزمن كما نسب للشاعر اليمني البيت الذي حُفر على رتاج مبنى بلدية بيروت والقائل:
إن آثارنا تدلّ علينا
فانظروا بعدنا الى الآثار

وإذا كنا قد أطلنا في المقدمة التي قد تقولون انكم في غنى عنها ونقول أنه لا بد منها لأن ما يظهر من وثائق بيروتية تعود الى حقب مختلفة يجعلنا نعيد التأكيد على ان تاريخ بيروت وأهلها لم يُكتب بعد وان فيه فجوات كتلك التي نراها في بعض الكتب الصفراء تحت اسم «بياض في الأصل»، ويسرّنا اننا عثرنا على وثائق عائلية خاصة بأفراد من عائلة العالية البيروتية ومن فروعها الأنسي والسقعان أو الصقعان والسجعان، تعود أقدمها الى الثامن من شهر محرم الحرام سنة 1098هـ/ 1686م. خاصة بالحاج سيف الدين ابن الحاج علي العالية الشهير لقبه بالسقعان ومصطفى القصار، ونورد نصها كاملا لما فيه من فوائد:
«الحمد للّه رب العالمين، بمجلس الشريعة المطهرة الغرّاء بمدينة بيروت المحمية أجله الله تعالى لدى متوليه خلافته الحاكم الشرعي الحنفي الموقّع خطه أعلاه دام فضله وعلاه، اشترى فخر الأعيان حاوي وقف قفة الخبز وشمالا وقف بني الكباس وغربا حانوت وقف بني الكباس بحق ذلك كله العرفان الصدر الأجلّ المحترم الحاج مصطفى ابن المرحوم الخواجه محمد الشهير نسبه الكريم بابن القصار أعزّه الملك القهار بماله لنفسه دون مال غيره، من المدعو الحاج سيف الدين ابن الحاج علي العالية الشهير بالسقعان الحاضر معه فباعه ما هو جارٍ في ملكه وتحت مطلق تصرفه الى حين صدور هذا البيع الآتي ذكره فيه بالطريق الشرعي وذلك: جميع البنيان البارز عن قناة الصبانة القديم الذي كان عمّره وبناه البائع المزبور لنفسه بإذن من الحاكم الشرعي، وذلك جميع الحانوت الكائن بسوق الصبانة المشتمل على سقف مسقف بالأخشاب بفناء واغلاق ورفوف مسمّرة، المحدود كامله قبلة الطريق السالك وتمامه البركة وشرقا حانوت وقف قفة الخبز وشمالا وقف بني الكباس وغربا حانوت وقف بني الكباس، بحق ذلك كله بيعا وشراء صحيحين شرعيين مقبولين مرضيين مشتملين على قبض اليدين من غير ريب ولا مين وتسلّم وتسليم من الجانبين لثمن قدره لذلك أربعة عشر قرش فضة أسدية قاصص البائع المزبور للمشتري المرقوم الثمن المرقوم من أصل ما له في ذمته من الدين الشرعي من ثمن أرز وغيره حسب اعتراف البائع بذلك الاعتراف الشرعي بعد سبق النظر والخبرة والمعاقدة الشرعية جرت بينهما إليه بنقص وعناد ويحاكمه ويخاصمه بين يديه يوم العرض من غير غبن حصل عليهما في ذلك بلا حيف ولا فساج ولا اجبار، وما كان في البيع المرقوم من درك ونبعة وعهدة فضمانه على البائع حيث يجب الضمان شرعا، ثم بعد ذلك وتمتمه اشهد على نفسه الحاج مصطفى المشتري المرقوم اشهادا شرعيا في صحة منه وسلامة وطواعية واختيار من غير إكراه حصل عليه في ذلك ولا إجبار بأنه أوقف وأبّد وحبس وسبل جميع الحانوت المرقوم وجعله وقفا صحيحا شرعيا على مصالح البركة الكائنة تجاه الحانوت لجهة القبلة الذي انشأها الواقف المزبور تقبّل الله منه الأجور بعد أن اشرط الواقف على نفسه الكريمة بان جميع ما يحصل من أجرة الحانوت المرقوم يصرف على مصالح البركة المزبورة من تعمير وترميم، يقدم الأهم بالأهم لا يباع ذلك ولا يوهب ولا يملك ولا يستملك، أخرج وقفه هذا من ملكه وابانه عن حيازته وجعله وقفا شرعيا على الوجه المشروح أعلاه، وان الواقف المزبور يستدعي الله تعالى على من يقصد وقفه هذا بفساد ويتعرض إليه بنقض وعناد ويحاكمه ويخاصمه يوم العرض عليه يوم القيامة يوم الحسرة والندامة فمن بدّله من بعد ما سمعه فإنما آثمه على الذين يبدّلونه ان الله سميع عليم وثبت ما نسب في ذلك لدى متوليه الحاكم المومئ إليه أعلاه بصريح الاعتراف لديه ثبوتا شرعيا محكوما بذلك حكما شرعيا بالالتماس شرعي بعد اعتباره شرعا. تحرر في ثامن شهر محرم الحرام افتتاح سنة ثمان وتسعين وألف». الشهود فخر أقرانه محمد بك الأمين، أمين الدين السقعان، علي حجازي ابن السقعان، أحمد بن بزم العطار علاء الدين، محضر باشي علي المحضر.
أهمية المعلومات العمرانية والاجتماعية للوثيقة
تتضمن الوثيقة معلومات هامة عن الأوضاع العمرانية والاجتماعية في بيروت منها:
1- العالية الشهير بالسقعان:
كان البائع هو سيف الدين ابن الحاج علي العالية الشهير بالسقعان ما يمكن القول بان الحاج علي العالية المشار إليه قد يكون هو أول من لقّب بالسقعان، علما بان الصقعان لغة البردان لُقّب بها من عاد من الحرب في صقيع روسيا. وكانت هذه الشهرة ترد أحيانا بالصقعان على طريقة البيارتة في لفظ السين والصاد (كما بين السور والصور أو بين السنطية والصنطية) والقاف في الصعيد المصري تلفظ جيماً فتصبح الشهرة في بيروت سجعان أضيفت إليها الأنسي فغدت الأنسي السجعان، وهذه الأخيرة جمعت بين الشقيقين الشاعر عمر الأنسي ومحمد بك السجعان.
2- وقف قفة الخبز:
كما تفيدنا الوثيقة أيضاً بقِدَم وقف قفة الخبز في بيروت، وكانت هذه القفة في القرن التاسع عشر توضع في دكانة تجاه الجامع العمري الكبير عند صلاة الجمعة فيأخذ الفقير منها مجاناً حاجته من الخبز. وكانت لها الكثير من الأوقاف.
3- المشتري هو «الخواجه» ابن القصار:
ومن المتفق عليه بين المحققين بأن الخواجا أو الخواجه لقب فارسي بمعنى المعلم أو الكاتب أو التاجر أو الشيخ أو السيد. وجد في نقوش تعود إلى سنوات قديمة ذكرها ابن إياس في «بدائع الزهور ووقائع الدهور» والمقريزي والقلقشندي ونجم الدين الغزي. حمل الكثير من أبناء بيروت لقب الخواجا من عائلات القصار والشعار وسعادة والعيتاني والحلواني (مقال خواجات بيروت).
4- إنشاء المشتري بركة ووقف حانوت لمصالحها:
اهتم البيارتة بإنشاء الأسبلة والبرك في المساجد والساحات العامة والخصوصية في حدائق بيوتهم. تفيد الوثيقة المشار إليها 1686م ان المشتري أنشأ بركة في سوق الصبانة وأوقف حانوتا على مصالح تلك البركة ان جميع ما يتحصل من أجرة الحانوت يصرف على مصالح البركة من تعمير وترميم. يذكر ان الرحالة عبد الغني النابلسي زار بيروت مرتين، ذكر خارج السراية بركة ماء وبركة في زاوية ابن الحمرا، وكان صحن الجامع الكبير العمري يتضمن بركة مضلعة الجدران معدّة للوضوء. وكان الحاج محمد السّراج قد أوصى سنة 1819م أن يصلح قناة بيروت وأن يعمّر لها بركة ويوقف عليها دكان، فعمّرت البركة في ساحة التتن في سوق قيسارية الأمير منصور. كما أنشأ أبناء عبد الفتاح آغا حمادة سنة 1864م في أملاكهم سوقاً سمّوه سوق السيد (إياس فيما بعد) وضع في وسطه بركة ماء بنافورة جعلت سبيلاً.
5- موقع سوق الصبانة:
حددت الوثيقة موقع المبيع في سوق الصبانة، لتحديد موقع سوق الصبانة باطن بيروت القديمة نستعين بعدة وثائق منها الوثيقة التي بموجبها باع ريحان العبد مولى عبد الفتاح آغا حمادة العمار الكائن في محلة الأمير قاسم (بجوار جامع الأمير منذر) وفي السوق عدة مصابن منها المصبنة الكائنة أسفل خان طاسو (المشتمل على خمس وعشرين اوده واحدة مسقفة والباقي معقودة) المشتملة على قبو معقود به موقد وبركة لجمع الماء وخلقين واحوارف وشهاب وضياء وجمال ونجم الخ.. وفسحة معقودة برسم مخزن تلاصق المصبنة مفتوح لها بابان مغروس بها أربع خوابي افرنجية... (وقد سبق للصديق المهندس المعماري غبريال اندريا ان وضع تصميماً للخان المذكور).
6- مقاصصة الثمن مع صفقة أرزّ:
يتبيّن من الوثيقة انه تمّت مقاصصة بجزء من الثمن من أصل ثمن أرز ما يدل ان تجارة الأرز قديمة في بيروت، وكان لهذه التجارة مرفأ خاص في بيروت عُرف بميناء الأرز وكان يستورد من مدينة رشيد أحد فرعي دلتا النيل ودمياط على الفرع الثاني وراج في بيروت قولهم: «الرز الرشيدي والسمن (الحموي) الحديدي»، نسبة لقبيلة الحديديين الحموية. كما راج المثل القائل: «العز للرز والبرغل شنق حالو»، فبعد ان كان القمح هو الرائج في الطعام راج استعمال الأرز ليطبخ مع كثير من الخضار كالحمص والبازيلا ومع اللحم والسمك. وأخذ البيارتة يطبخون الأرز بالفول الأخضر التي جاءنا من الدلتا والبحيرة مع المصريين الذين قدموا الى بيروت واستقرّوا فيها كأسر الدمياطي والرشيدي والطنطاوي.
7- الأسماء المركبة مع كلمة «الدين»:
ظهرت في القرن الخامس (الحادي عشر) الألقاب المركبة مع كلمة الدين، فمن الأسماء التي ذكرها ابن خلكان 63 اسما مركبا مع كلمة الدين، ستة منها باسم سيف الدين وركن الدين، وسبعة لفخر الدين وعماد الدين ومجد الدين، وخمسة لبهاء وشهاب وضياء وشرف وجمال ونجم الخ.. وعمّ استعمال الألقاب المضافة الى الدين في القرن السابع جميع أنحاء العالم الإسلامي ولا سيما تحت حكم المماليك وعمّ تنظيمه وترتيبه بعناية العاملين في ديوان الإنشاء.
يُذكر ان علي بن ميمون، العالِم المغربي الفاسي المتصوف، ترك فاس سنة 1495م الى بلاد الشام مرابطا سنة 1509 فجال في مصر والشام وقدم الى بيروت مع ابن عراق واعتزل في قرية مجدل معوش وتوفي فيها. من رسائله التي لا تزال مخطوطة (في خزانتنا نسخة منها) «رسالة بيان غربة الإسلام بواسطة صنفي مدّعي التفقّه والتفقّر في مصر والشام وما يليها من بلاد الاعجام» انتقد فيها ما شاهده من بدع وأخلاق مذمومة ومخالفة للكتاب والسنّة في الأسماء فابدلوها باللقب البدعي، ابدلوا اسم محمد بشمس الدين وأبي بكر بتقي الدين وعمر بزين الدين وعثمان بفخر الدين وعلي بنور الدين وغيرها من الأسماء المركبة مع كلمة الدين. وفي عصرنا صارت تستعمل أسماء لا ألقاباً.

* مؤرخ