بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 آذار 2023 12:00ص بيروتيّات (27).. عالِمان من بيروت في دمشق: عمر وعلوان العالية (2/7)

وثيقة 1 وثيقة 1
حجم الخط
أهدى إليّ الصديق الأستاذ محمد عبد الله الشعار صاحب دار الحديث الكتانية بعض أوراق بخط عالِميْن من بيروت هما: عمر بن محمد بن عمر بن محمد العالية وعلوان بن عمر بن محمد العالية، يتبيّن انهما قاما في دمشق في شهري رجب وشوال 1142هـ/ 1730م بنسخ كتاب «فتح الباري شرح صحيح البخاري» للإمام الحافظ إبن حجر العسقلاني وجرى وقفه من أسعد باشا محافظ الشام فكان هذا المقال.

دمشق مقصد علماء بيروت 
خضعت بيروت منذ الفتح العثماني الى حكم المقاطعجية المعنيين من فخر الدين الأول ثم فخر الدين المعني الثاني ثم الى الشهابيين بعد وفاة الأمير أحمد المعني الى الأمير ملحم الشهابي فالأمير يوسف وصولا الى أحمد باشا الجزار والي صيدا ومعها سورية حتى وفاته سنة 1802م فبعد وفاة الأمير أحمد المعني تولّى الإمارة الأمير حيدر الشهابي ابن بنت الأمير أحمد فانتقلت السلطة الى الشهابيين وأصبحت بيروت تابعة لهم. وتوارثوا السلطة عليها. بظروف أعدّ لها الأمير ملحم وأعوانه، فقد كان ياسين بك وهو رجل تركي متسلماً على بيروت وكانت بينه وبين الأمير ملحم مشاحنة، فأمر هذا الأخير الشيخ شاهين تلحوق بأن «يمخرق» في ضواحي المدينة وأطرافها كالمصيطبة والأشرفية وراس بيروت وغيرها، فقام الشيخ شاهين بعدّة غارات عجز ياسين بك عن إحلال السلام وردّ الغارات وكتب الى والي الشام عثمان باشا يخبره بما يقوم به اتباع الأمير ملحم، فكتب عثمان باشا الى الأمير عارضاً عليه تسلّم بيروت فقبلها مسروراً وأزاح ياسين بك عنها.
وبعد فرض سيطرة الشهابيين على بيروت وتوطّنهم فيها مع حلفائهم فمن غير المستبعد أن يقوم بعضهم بتجاوزات لم يكن باستطاعة أهل المدينة مقاومتها أو الاعتراض عليها أو انتقادها. كما ان ملحم وحلفاءه سيطروا على تجارة المدينة وبنوا فيها القصور والخانات والقيساريات، حتى ان الأمير حيدر مؤرّخ تاريخ الجزار قال بان أرباب الوظائف الإدارية والأمنية ودزدار القلعة وكذلك المغاليق (جمع مغلق) أي المخازن والدكاكين كانت كلها موقوفة على موافقة ملحم وتحت أمره. كما ذكر ان الست ضيا زوجة ملحم ومالكة عدة جلول في تلة باب يعقوب قرب السراي الكبير أجّرت ختان ابنها بكلفة بلغت 25000 قرش.
وثبت ان المعنيين ولا سيما فخر الدين الثاني ومن بعدهم الشهابيين مارسوا دورهم كمقاطعجية يجبون الأموال من الناس وأحيانا بالبلص من أجل توريدها لخزانة الدولة، كما ورد في رحلة اوليا شلبي انه حضر الى جبل لبنان كموظف من الدولة لقبض تلك الأموال.
ولم يثبت ان المقاطعجية المذكورين أثناء تسلّطهم على بيروت بنوا أو انشأوا مسجدا أو زاوية أو انهم أسسوا مستوصفا أو مستشفى أو فتحوا مدرسة أو كتّابا أو اقتنوا مكتبة أو انهم أقاموا مجالس للأدباء والشعراء والعلماء على عكس ما عرف عن الولاة.
عندما قدم الشيخ أحمد البربير من دمياط الى بيروت لم يجد فيها ما توقّعه من علماء وفقهاء ومكتبات. وأجبره الأمير يوسف الشهابي على تولّي القضاء استغلالا لمركز البربير وعلمه وعلاقاته والظهور بمظهر الحاكم العادل وقابلا بشروط البربير وأهمها تنفيذ حكمه وحضور مندوب من قبل الأمير في مجلس القضاء من أجل استيفاء رسوم ونفقات الدعاوى مستبقا ما كان يحصل من سوء معاملة القاضي عند عزله بذريعة محاسبته عن تلك الرسوم. فاستقال وتوجه الى دمشق.
مكتبات ومجالس ولاة صيدا وطرابلس ودمشق وعكا
< مجلس محمد قبلان باشا محافظ صيدا:
أعلمنا الرحالة عبد الغني النابلسي الذي زار مدن الساحل سنتي 1693 و1700 عن مكتبات تلك المدن، فقد اطّلع من محمد قبلان باشا محافظ صيدا على ما وجد في مكتبته من كتب أهمها كتاب «نخبة الدهر في عجائب البر والبحر» للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي طالب الدمشقي شيخ الربوة الذي جعل كتابه في تسعة أبواب في كل باب عدة فصول، ومما جاء في الباب الخامس ان في بحر الروم (الأبيض المتوسط) من العجائب: «سمكة كصورة رجل أحمر اللون كبير اللحية رأسه كرأس القرعة أبيض كأنه رأس إنسان محلوق، وجهه طويل وفمه كتكوين القرد وليس له رجلان وله يدان صغيرتان بدنب، وكان أقرب ما يرى بالقرب من السواحل, كما ذكر ان بهذا البحر سمكة كصورة رجل محارب بيده سيف قصير وبالأخرى قوس مدور على رأسه بيضة تبرق». وقد ذكر الباحث المهندس غبريال اندريا ان هذا الحيوان قد يكون هو التنين الذي كان يبتلع كل سنة احدى بنات بيروت وان القديس جرجس قضى عليه كما تذكر الحكاية المتناقلة.
< مجلس أرسلان محمد باشا محافظ طرابلس:
وحكى النابلسي في رحلته الطرابلسية عن مكتبة ارسلان محمد باشا محافظ طرابلس ومكتبات حاشيته وما فيها من الكتب مثل «سكب الأنهر على ملتقى الابحر» و«الجامع الصغير في أحاديث البشير والنذير»، كما اطّلع على فتوى في حل الدخان المسمّى بالتتن وباحثه الوالي في مسألة وقفية. كما سأله أيضا عن قوله تعالى «شهد الله أن لا إله إلا هو»، وعن بيتين للشيخ محيي الدين ابن العربي هما:
 سائلي عن عقيدتي
أحسن الله ظنَّهُ
علمَ الله أنها
شهدَ الله انّهُ
< مجلس أسعد باشا محافظ دمشق:
عندما توجه أحمد البربير الى دمشق رحّب به علماؤها وأصبح أحد جلساء والي الشام أسعد باشا. وفي أحد تلك الجلسات دفع إليه محمد بك ابن أسعد باشا وأحضر له كتابا صغيرا هو ديوان عبد الرحمن الموصلي وأشار للبربير ببيتين في الديوان كانا الدافع للبربير لتأليف كتابه «الشرح الجليّ على بيتي الموصليّ». والبيتين هما: 
إن مرّ يوماً والمرآة في يدي
من خلفه ذو اللطف أسمى من سما
دارت تماثيل الزجاج ولم تزل
تقفوه عدواً حيث سار ويمّما
< مجلس أحمد باشا الجزار:
كان الجزار قد أرسل الى بيروت وأنابها رجلاً من المغاربة ومعه جملة عساكر منهم للمحافظة فعاث عسكره عيث الجراد وشمّر عن ساق الأذى والفساد حتى اشتكت منه بقاع البلاد فضلاً عن العباد فلزم أنني توجهت نحو رئيسه وكان يدعى بالبخاري ونصحته وخوّفته عقاب الباري فأجاب بأنه لا يقدر على رد جنوده وأنه يخشى من ذلك عدم وجوده. ففارقه وكتبت للوزير:
وزيرنا طاهر المزايا
فاقصد ندا جوده ويمّمْ
قد خصّ ببيروت بالبخاري
يا ليته خصّها بمسلم
فلما قرأ الجزار البيتين أمر بقتل ذلك القائد.
يروي الجبرتي في تاريخه أنه كان للجزار اعتقاد كبير واحترام عظيم للسيد محمد مرتضى الزبيدي صاحب «تاج العروس». وقد أرسل الزبيدي مرة الى الجزار مكتوباً ذكر له فيه أنه المهدي المنتظر وسيكون له شأنه عظيم فوقع عنده الصدق لميل النفوس الى الأماني وأن الجزار وضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الأحراز والتمائم فكان يسرّ بذلك الى بعض من يرد عليه ومن قدم عليه من مصر وأخبره أنه اجتمع بالزبيدي وأخذ عنه، أحبه وأكره وأجزل صلته، وإلا قطب منه وأبعده وأقصاه عنه ومنع عنه برّه.
من اللطائف التي نقلها البربير من مجلس الجزار قال «كنت مرة في عكا لزيارة الوزير الجزار رحمه الله رحمة الأبرار وتجاوز عنه أنه حليم غفار فاتفق ان جاءه من مصر كتاب كريم مشحون بالجوهر الثمين والدر اليتيم دال على أن مرسله في الفضل وحيد عصره وشافعي مصره غير انه مكتوب في إمضائه «غنت أمان» فلم يعرف الجزار من أرسله فأطلع البربير عليه وسأله عن مرسل الكتاب فأجابه: قد ظهر لي أن مرسله جناب شيخنا السيد محمد مرتضى. فقال الجزار: ومن أين لك هذا؟ قلت: اني نظرت الى قوله (غنت) فوجدتها مطابقة (لمرتضى) في العدد، ونظرت الى (أمان) فوجدتها مطابقة (لمحمد). فقال: وكيف قال غنت أمان وكان من حقه أن يقول غنى؟ قلت: لان عندهم الآن بمصر امرأة حاذقة بفن الموسيقى تسمى (أمان). فسرّ الجزار بذلك وانشرح وكاد يطير من الفرح» (قوله بالعدد أي بحساب الجمل أبجد هوز الخ).
< فتح الباري شرح صحيح البخاري:
نقل أبو معاوية البيروتي أفضل ما قيل في كتاب (فتح الباري شرح صحيح البخاري) الذي ألفه الحافظ ابن حجر العسقلاني، ما كتبه الشيخ علي الشبل «قال أفضل هو من أعظم كتب تفسير الحديث وأجمعها في شرح صحيح البخاري الذي اتفق المسلمون على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله. كتبه في أكثر من 25 سنة فقد كان م
ن أعظم كتب ابن حجر قدراً، وأعمقها علوماً، وأحظاها لدى المسلمين: شرحه على الجامع الصحيح - الذي اتفق المسلمون على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله - وهو صحيح الإمام البخاري (256)هـ الذي سمَّاه «فتح الباري شرح صحيح البخاري» والذي يُعَّد بحق أحد دواوين الإسلام المعتبرة، ومصادره العلمية المهمة، فلا يستغني عنه طالب علم ولا فقيه؛ بل ولا مفتٍ ولا مجتهد، فجاء الشرح سفراً ضخماً جليلاً. أخذ في جمعه وتأليفه وإملائه وتنقيحه أكثر من خمس وعشرين سنة، حيث ابتدأه في أوائل سنة 817هـ، وعمره آنذاك 44 سنة، وفرغ منه في غرة رجب من سنة 842هـ فجمع فيه شروح من قبله على صحيح البخاري، باسطاً فيه إيضاح الصحيح وبيان مشكلاته، وحكاية مسائل الإجماع، وبسط الخلاف في الفقه والتصحيح والتضعيف واللغة والقراءات، مع العناية الواضحة بضبط الصحيح، صحيح البخاري ورواياته والتنويه على الفروق فيها، مع فوائد كثيرة وفرائد نادرة واستطرادات نافعة إلخ حتى زادت موارد الحافظ فيه على (1200) كتاباً من مؤلفات السابقين له.
أما أفضل طبعات الكتاب (1) طبعة بولاق هي الأولى والأفضل، لكنها نادرة جدًّا. (2) ثم السلفية الأولى التي حقق جزء منها سماحة الشيخ (ابن باز) -. وقد أشار أبو معاوية البيروتي الى ان طبعة مؤسسة الرسالة العالمية/بيروت سنة ١٤٣٤هـ/ ٢٠١٣م هي أفضلها..
عمر وعلوان العالية في دمشق
ان الأسباب التي دفعت عمر وعلوان العالية (لم نتبيّن درجة القرابة بينهما وبين الحاج سيف الدين الشهير بالسقعان - «اللواء» 4/3/2023) لمغادرة بيروت والهجرة الى دمشق كانت على الأرجح هي الأسباب التي دفعت من سبقهما من علماء بيروت. ويبدو من أوراقهما انهما استقرا في دمشق على الأقل منذ سنة 1730م واشتغلا بالعلم والفقه والحديث ونسخ الكتب ككتاب فتح الباري في نسخة جرى وقفها من قبل الوزير الحاج أسعد باشا محافظ الشام على مدرسة والده الحاج إسماعيل باشا. وقد تم نسخ الأجزاء في شهري رجب وشوال 1142هـ.

* مؤرخ