بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 نيسان 2023 12:03ص بيروتيّات (30).. الشيخ محمد علي الأنسي... والدّراري اللّامعات (5/7)

وثيقة محمد عبده وثيقة محمد عبده
حجم الخط
الشيخ محمد علي حسن الأنسي وُلد في بيروت سنة 1869 ونشأ في بيت علم وتصوّف، توفي والده سنة 1907 عن خمسة وثمانين عاما قضاها بالتقوى والصلاح، قضى خمسة عشر عاما لم يخرج من بيته وكان يزار فيه طلبا لصالح دعاه. تثقّف على أيدي كبار علماء زمانه وكان على رأسهم الشيخ يوسف إسماعيل النبهاني، وعمل معه في قضاء بيروت وأخذ عنه أحكام القضاء الشرعي والمدني، عمل في المحكمة المدنية في بيروت ثم رئيسا لكتبتها ثم رئيسا لكتبة الاستئناف فرئيسا للمحكمة، وتولّى محكمة خليل الرحمن الابتدائية في فلسطين فرئيسا لمحكمة حمص التي كانت تنظر بالقضايا المدنية والجزائية لغاية سنة 1914 نقل بعدها الى حلب فإلى القدس معاونا لحاكم الصلح فيها. وانتقل بعد دخول القوات العربية الى دمشق معاونا لحاكم الصلح في عهد الأمير فيصل فعضواً ملازماً في محكمة التمييز لمدة سنتين، وعند دخول القوات الفرنسية الى دمشق سنة 1918 تولّى رئاسة محكمة التجارة. انتقل بعدها الى بيروت سنة 1923 نائبا لقاضي بيروت الشرعي «قاضي القضاة» الشيح محمد الكستي. عيّن سنة 1926 عضوا في محكمة التمييز المدنية حتى سنة 1932حين أسندت إليه رئاسة محكمة التمييز الشرعية خلفا للشيخ محمد الكستي وبقي فيها الى سنة 1952 فأحيل الى التقاعد.

مقدمة
ويبدو من تنقّله في الوظائف الإدارية والقضائية في العهد العثماني والعهد العربي الفيصلي ثم عهد الانتداب الفرنسي انه كان أنموذج الموظف الإداري البعيد عن السياسة، واستمر في العهود المذكورة في خدمة القضاء ولم يكن ضمن بعض علماء بيروت الذين تعاونوا مع سلطة الانتداب وشاعت في حينه أنشودة لعمر الزعني يقول فيها:
العيب ما هوشي على اللي لابسه
الكعب العالي وكمان الكورسه
العيب عاللي خاتم لفرنسه
وعامل حالو إمام في الدين
فانصرف طيلة عمله القضائي وابتعاده عن السياسة الى التأليف والبحث الفقهي. ذكر الشيخ يوسف إسماعيل النبهاني في كتابه «جامع كرامات الأولياء» ان الله تعالى يسّر له «بعض الكتّاب النبهاء النجباء من كتبة محكمة الحقوق (التي كان يرأسها) وهم عبد الباسط الفاخوري ومحمد علي الأنسي وسليم السروجي ومحيي الدين علم الدين»، وان الأنسي أنفعهم من جهة تصحيح الطبع لأنه من فضلاء الطلبة الصالحين وأنفعهم من جهة المداومة على الشغل..».
ولعلّ ملازمة الشيخ محمد علي الأنسي لأستاذه النبهاني ومعاونته له في طبع كتبه لا سيما «جامع كرامات الأولياء» ما شجّعه على تأليف الكتب الفقهية واللغوية، في وقت أشار فيه النبهاني الى «ان الهمم في هذا الزمان انصرفت بالكليّة عن نسخ الكتب بخط اليد ولو كانت من تأليف أكابر العلماء إلّا في النادر وذلك بسبب كثرة الكتب المطبوعة من كل العلوم وسهولة الحصول عليها».
نهضة بيروت في القرن التاسع عشر
عرفت بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نهضة علمية وأدبية وتراثية تمثّلت في المسرح وفي صدور كتب خاصة بالدراسات الخاصة بالمهن والحرف والتدبير المنزلي والصحة، كما تميّزت بتأليف وإصدار مجموعات موسوعية في اللغات والدين والتاريخ والتراجم والأدب الشعبي. فأصدر الشيخ يوسف النبهاني كتابه الضخم «جامع كرامات الأولياء» ومجموعة في المدائح النبوية. وفي سنة 1878 أصدر شاهين عيد كتاب «في صناعة الطبيخ وأنواع الحلويات والمربيات والمشروبات». وأصدر الصيدلي جرجي عون سنة 1884 كتاب «الدر المكنون في الصنائع والفنون». وكان الدكتور شاكر الخوري قد أصدر سنة 1879 كتاب «تحفة الراغب في صحة المتزوج وزواج العازب». وأصدر الأفوكاتو (المحامي) جان نقاش «مغني المتداعين عن المحامين». وأعلن طبيب الأسنان أمين حداد عن قُرب طبع كتاب «تفصيل الخياطين». وكتب نسيب مشعلاني عن مؤلفه «مخابرات الحب السرية ورسائل المملكة النباتية». وأصدر اسريدون منسى «المنهاج الجلي في واجبات الصيدلي».
أما بالنسبة للموسوعات والقواميس والتراجم فأول من يُذكر المعلم بطرس البستاني في «محيط المحيط» ودائرة المعارف وأول كتاب في مسك الدفاتر. ويُذكر كتاب «قاموس الكنوز الابريزية في متن اللغتين العربية والانكليزية» لجرجس همام. ونشير في التراجم الى كتاب مريم نوفل الصادر سنة 1879 «معرض الحسناء في تراجم مشاهير النساء». وكتاب زينب فواز «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور». ونشرت في بيروت دواوين الشعراء عمر الأنسي وقاسم الكستي ومصباح البربير وكتاب «الشرح الجلي على بيتي الموصلي» لأحمد البربير. كما صدرت السير الشعبية: ألف ليلة وليلة وعنترة بن شداد والظاهر بيبرس والملك سيف بن ذي يزن.
آثاره الأدبية والفقهية
أصاب تراث الشيخ محمد علي الأنسي ما أصاب تراث علماء بيروت من الإهمال نتيجة انتفاء مؤسسة تُعنى بهذا التراث وتحفظه وتنشره وتستثمره بتنظيم ندوات ولقاءات للاطّلاع عليه وبيان أهميته ودوره في الزمن الذي كُتب فيه. يشار الى ان أكثر مخطوطات علمائنا مفقودة وما بقي منها على طريق الضياع حتى فُقِدَ الذي طبع منه وأضحى بحاجة لإعادة طبعه.
نذكر من التراث مؤلف ضخم من الحجم الكبير (334 صفحة) بعنوان «تحفة العالم في أخبار سيد ولد آدم» كتبه عبد القادر بن مصطفى بن سعيد الدنا البيروتي الحسيني طبع سنة 1321هـ. وكتاب للشيخ صالح المدهون في تاريخ الإسلام وعدة مؤلفات في الفقه والتفسير لإبراهيم خرما وكذلك مؤلفات الشيخ سعيد اياس مثل «كشف الغيهب في زواج النبي بالسيدة زينب» أو «ثمرات المباحثة في مسألة زيد بن حارثة رضي الله عنه» و«حسن الصنعة في تحريم لبس القبعة» و«بلوغ الوطر في أحكام التصير والصور»، ومن مؤلفاته المهمة المفقودة «الكنز الثمين فيمن كان في بيروت من العلماء والمحدثين» و«تجريد مسند الإمام الأوزاعي للشافعي» و«كشف الغطاء في إثبات كرامات الأولياء».. الخ..
نشير الى ان علماء بيروت وشيوخها كعمر الأنسي وحسين بيهم وقاسم الكستي وأحمد عباس الأزهري أسهموا في النهضة المسرحية فألّفوا وقدّموا العديد من المسرحيات الاجتماعية والتاريخية ولم تصلنا نصوصها للأسف.
من الطبيعي أن يكون الشيخ محمد علي الأنسي الذي تنقّل في مختلف الوظائف القضائية في القضاء الشرعي والمدني وفي عدة مدن عربية وفي مختلف العهود من الطبيعي اكتسابه خبرة عملية إضافة الى معرفته الفقهية وقد تجلّى ذلك فيما كتب فمن مؤلفاته كتابه الشهير المسمّى «المنهاج البديع في أحاديث الشفيع» في 17 جزءا طبعت منه أربعة أجزاء فقط وقد تناول فيه تصنيف الأحاديث وتبويبها في أصولها الصحيحة ولا نعلم ما إذا كانت الأجزاء الباقية موجودة...
قاموس الدراري اللامعات
أصدر الشيخ محمد علي الأنسي سنة 1900 قاموس اللغة العثمانية المسمى «الدراري اللامعات في منتخبات اللغات» ويحتوي على الكلمات التركية والألفاظ الفارسية والافرنجية المتداولة في اللغة العثمانية، وكان من الطبيعي أن تسير على الألسن كلمات متفرقة من شعب معيّن لتندمج في لغة شعب آخر، وتصبح جزءا منها. وتتسرّب كلمات وتراكيب وأساليب بقدر ما تنشأ الحاجة الى استعمالها بين العامة لا سيما ما كان له علاقة بلغة الدواوين والنظم الإدارية والألقاب الدينية والعسكرية. وبقدر ما تعبّر عن حاجة مادية أو معنوية. وتعددت الدراسات الخاصة بذلك، فعلى سبيل المثال «الألفاظ التركية والفارسية في اللهجة الجزائرية» لمحمد بن شنب (1922) والألفاظ التركية في لهجة دمشق العربية في حوليات المعهد الفرنسي في دمشق (1929). والمعجم التركي - العربي لإبراهيم الداقوقي وعبد اللطيف بندر أوغلو ومحمد خورشيد وفيه أصول كثير من الكلمات من الفرنسية والانكليزية والفارسية والايطالية (1981).
وقد شاعت في العربية أساليب تركية لا سيما في اللاحقة (جي) لبعض المهن واللاحقة (لي) للنسبة الى مدن مختلفة، والاختلاط بين العربية والتركية في الأمثال الشعبية فالمثل البيروتي يقول: اعمل منيح وارميه بالبحر ان ما بان مع «البالق» (أي السمك بالتركية) ببان مع الخالق.

* مؤرخ