بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 تموز 2023 12:00ص بيروتيّات (41).. «المروءة والوفاء» مسرحية للشيخ خليل اليازجي تثير فتنة في بيروت

مسرحية «المروءة والوفاء» مسرحية «المروءة والوفاء»
حجم الخط
أفاق البيارتة صبيحة الأول من حزيران (يونيو) سنة 1880م ليجدوا منشورات أُلصقت ليلاً على الجدران في الشوارع، وكانت أُلصقت منشورات مماثلة في شوارع صيدا وطرابلس تتضمن إثارة الروح الوطنية في نفوس العرب وتذكّرهم بأمجادهم الغابرة، وتوجهت أصابع الإتهام في حينه الى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي كانت قد تأسست قبل ذلك بسنة تقريباً، فقد وردت رسالة من مجهول الى الوالي أحمد حمدي باشا تتهم الجمعية بأنها صاحبة المنشورات المذكورة. وكان الشيخ إبراهيم اليازجي قد نظم السينية الشهيرة ومطلعها:
دع مجلس الغيد الأوانس
وهوى لواحظها النواعس
وأعدّت نسخ عديدة منها تمّ إلصاقها على أبواب الجوامع والكنائس في بيروت وطرابلس وصيدا، ثم أتبعها اليازجي ببائية تغنّى الناس بها ومطلعها:
تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركبُ
فيم التعلل بالآمال تخدعكم
وأنتم بين راحات القنا سلبُ

محاولة خلق فتنة طائفية

ونُظّمت في خضم ذلك المخاض ومُثّلت مسرحيات استمدّت موضوعاتها من تاريخ العرب وأمجادهم، فقد دعت جمعية المقاصد والي سورية مدحت باشا الى بيت الحاج محمد بيضون في محلة الباشورة وقدّمت مسرحية «نائلة ملكة الحضر المعروفة بالزبّاء مع جذيمة الوضاح» من تأليف الشيخ إبراهيم الأحدب.
وعلت وارتفعت موجة التغنّي بمجد العرب وأقدمت العائلات على ترك تسمية بناتهم بأسماء تركية مثل: خانزاده وكلفدان وشهناز وكلبهار، وكثُر اسم «عربية» بالذات مثل عربية بلعة وعربية الكستي وعربية فاخوري وعربية قيسي وعربية مخللاتي الخ... ما جعل السلطة تتوجس خيفة ووجدت في الأمر بذور ثورة وانتفاضة، وخططت لإخماد هذه الجذوة فقامت أولاً بحلّ جمعية المقاصد على خلفية إتهام مدحت باشا بأنه كان وراء تأسيسها تحت عنوان الإصلاح لإخفاء حقيقة أهدافه السياسية، ثم وجدت السلطة أن أفضل وسيلة لإلهاء الناس عما فكّروا واعجبوا به أن يصار الى خلق فتنة طائفية تحت ستار إهانة الدين فوجدت ضالتها في مسرحية «المروءة والوفاء» التي ألّفها الشيخ خليل ناصيف اليازجي (1856 - 1889م) شقيق الشيخ إبراهيم اليازجي، وكان الشيخ خليل الخوري صاحب جريدة «حديقة الأخبار» قد ألّف رواية بعنوان «النعمان وحنظلة» وهي التي نظمها الشيخ خليل.

هرج ومرج في مسرح سورية والمطالبة بإقفاله

كانت مسرحية اليازجي شعرية من ألف وستمئة بيت، وقد وصفها صاحبها بأنها دعجاء ومحلها أن بدء الرواية يؤثر غمّاً وانقباضاً ونهايتها عكس ذلك، فاستعار لها الدعجاء وهي الليلة التي يطلع القمر في آخرها فيكون أولها مظلماً وآخرها منيراً.
وأثناء عرض المسرحية في مسرح سورية في شهر آذار سنة 1880م حصل جدال بين الحاضرين وساد الهرج والمرج وارتفعت الأصوات تزعم تعرّض المسرحية للإسلام وتطعن فيه ونودي بالويل والثبور وعظائم الأمور، وعمّت الفوضى وتنادى البعض للقيام بالاحتجاجات والتظاهر مطالبين بإقفال المسرح ومعاقبة المتسببين، ما استدعى الأمر الى تدخّل رجال البوليس مستغلين الفصل الهزلي الذي جرت العادة قديماً على تقديمه بين فصول المسرحية - للترويح عن المشاهد ومساعدته على إكمال المسرحية - فأوقفوا المسرحية عند هذا الفصل لمنـــــع ما كان يخشى حدوثه فيما لو استمر عرض المسرحية. وكانت دعوى الجهلة بأن الرواية تطعن في الإسلام مسندة الى بيت في المسرحية جاء فيه:
لعمري إن هذا الدين حق مؤيد
فنحن بدين جاهلي مضلل
(والإشارة هي للدين المسيحي والمقابلة بينه وبين الجاهلية) والحقيقة ان الرواية مسندة الى واقعة قديمة حدثت أيام الجاهلية وموضوعها مأخوذ من يومي النعمان أي يوم البؤس ويوم السعد. وقد ذكرت في أغاني الأصفهاني وفي أمثال الميداني وفي مستطرف الإبشيهي وفي معجم ياقوت الحموي للبلدان وغيرها من كتب التراث العربي المعروفة والمتداولة.

وفد من شيوخ بيروت في المسرح

وتنادى العقلاء في بيروت إثر ذلك لتدارك المزاعم المثارة والتثبّت من حقيقة ما أشيع وأذيع فقام والي سورية أحمد حمدي باشا ومتصرف بيروت رائف أفندي بمشاهدتها، كما تألّف وفد من محمد سعيد باشا محافظ ركب الحج الشريف والشاعر الشيخ قاسم أبو الحسن الكستي والشيخ عبد القادر قباني والشيخ إبراهيم الأحدب فتوجهوا الى المسرح وشاهدوا الرواية واعجبوا بها وقرظوها ولم يجدوا فيها ما يطعن في الدين. وتبيّن ان ما حصل لا يعدو ضجة إعلامية زائفة أو التباسا لا يقع فيه تلميذ بليد وان العين الناظرة لا تقرأ والأذن السامعة لا تدرك ولا تتفهّم بل تتصيّد الشر والفتنة.

أحداث المسرحية

وتدور أحداث المسرحية حول النعمان بن المنذر الذي خرج يوماً يصطاد، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر عليه فطلب ملجأ يأوي إليه، ووجد في بناء متواضع رجلاً من طيء يقال له حنظلة الذي رحّب به وذبح شاته وأطعمه من لحمها وسقاه من لبنها. فلما أصبح الملك لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طيء أطلب ثوابك أنا الملك النعمان (والوفاء عند بعض الملوك قليل) قال: أفعل ان شاء الله. ومضى النعمان نحو الحيرة. أصابت الطائي بعد مدة نكبة فذكّرته امراته بقول الملك، فأقبل حتى انتهى الى الحيرة فوافق وصوله يوم بؤس النعمان فلما نظر إليه هذا الأخير عرفه وقال له: أفلا جئت في غير هذا اليوم ولو سنح لي ابني في هذا اليوم لم أجد بدّاً من قتله، فسل ما بدا لك فإنك مقتول. قال الطائي: ان كان لا بد فأجّلني حولاً حتى اجتمع بأهلي وأعود إليك. قال النعمان: أقم كفيلاً بموافاتك. فوثب رجل يقال له قراد بن أجدع الكلبي وقال للنعمان: أبيت اللعن هو عليّ. ثم أمر النعمان للطائي بخمسمائة ناقة ومضى الطائي الى أهله حتى إذا حان الموعد وبقي من الأجل يوم قال النعمان لقراد: ما أراك إلّا هالكاً غداً فقال قراد:
فإن يك صدر هذا اليوم ولّى
فإن غداً لناظره قريب
وعندما همّ النعمان بقتل قراد حضر حنظلة فعفا الملك عنهما. وكان مما دعا قراداً الى الكفالة: المروءة، وما دعا حنظلة الى الرجوع الوفاء، فسمّيت الرواية بهذين الإسمين، كما سمّيت الفرج بعد الضيق باعتبار ما ترتب على كفالة قراد من الضيق واليـــــــــأس، وما ترتب على عودة حنظلة من التفريج.
وكانت مدة تشخيص الرواية حوالي أربع ساعات تخللتها قصة حبّ من لوازم الرواية - حيث جعل المؤلف للنعمان إبنة إسمها هند جعلها معشوقة قراد وربط عقدة الحب بعقدة الرواية وقد وصفها مؤلفها بأنها:
شعرية لا نثر فيها وهي من
بعض الوجوه ترى كنثر الناثرِ
ويتوافق زمان وقوع حوادثها ومدة التشخيص. إذ كان الحادث بعد العصر من يوم الموعد الى ما بعد المغرب أي ساعات ما بين المغربين كما جاء في مقدمتها:
لها بين المغربين ابتداء
ومنتصف ومختتم نهائي
وقد حصر الزمان بها فتمت
بمثل زمانها حتى المساءِ
وكانت هند عندما دنا مقتل قراد قد عزمت أن تتزيّا بلباسه وتعرض نفسها للقتل مكانه فقالت بيتين (أولهما فيه تضمين مزدوج من قصيدة لابن القارض أخذ صدره من بيت المطلع وعجزه من بيت آخر):
أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
لا خير في الحب أن أبقى على المهجِ
تهيئي للردى يا نفس واقتحمي
وفي فداك قراداً منه فابتهجي
يا حبذا أن سيغدو سالماً وأنا
أموت عنه وباب الموت لم يلج
ومما قال المؤلف على لسان حنظلة بعد عفو النعمان عنه:
فمن يبشّر أهلي أن حنظلة
قد عاش حتى يسرّ اليوم باكيه
ودّعتهم فأجابوا بالدموع فقد
أغصّهم مدمع الأجفان تجريه
كم قيل لي أهرب فقلت الموت أفضل لي
فقد وعدت ورب الوعد وافيه
وأشار الشيخ خليل اليازجي الى يومي البؤس والنعيم وهو من مخترعاته:
فيا لها سنّة ما كان أشأمها
فليت لا نعماً كانت ولا نقما
فما أكثر السنن التي إبتدعت في مجتمعاتنا العربية متدثرة بثياب وهمية تحت ستار الدين والعقيدة وكانـــــــــت شؤماً ووبالاً.

* مؤرخ