بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 تموز 2023 12:00ص بيروتيّات (42).. «الريال الزائف»... ثمن الشرف والعفاف

الريال الزائف الريال الزائف
حجم الخط
يذكر المؤرخون الويلات التي نشأت أثناء الحرب العالمية الأولى وعانت منها المنطقة العربية ومنها بيــروت، فقد أقفل المرفأ وتوقفت عمليات الاستيراد والتصدير وتعطّلت الأعمال وانتشرت البطالة وعمّت المجاعة وتزايدت أعداد الفقراء والمتسوّلين في الطرقات نتيجة احتكار المواد الغذائية من بعض التجار الذوات حتى سار على ألسنة العامة قولهم: «السكر غالي وما في مصاري قولوا للوالي يرخص السكر؟»، فمات الفقراء جوعاً على الطرقات وباع متوسطو الحال أملاكهم بأبخس الأثمان دفعاً لخطر الموت عن أطفالهم وعيالهم. وشحبت الوجوه وخَوَتْ البطون وتقطّعت السبل وتفشّت الأمراض وخَلتْ الصيدليــــات وعزّ الدواء.
ألّف الشيخ رائف فاخوري من هذه الظروف المأساوية مسرحية «الريال الزائف» حول حادثة جرت في بيروت في السنة الثانية من الحرب العالمية الأولى.

رائف فاخوري... حياته

ولد رائف ابن الشيخ رشيد ابن الشيخ عبد الرحيم فاخوري (1884 - 1953) في بيروت في محلة برج أبي حيدر, كان والده نائبا (أي قاضيا) في مرجعيون فسمّى ابنه رائف على اسم رائف بك متصرف بيروت الذي كان له الدور الأول في تأسيس جمعية المقاصد بالتعاون مع حسن بك محرم البيروتي سكرتير مجلس الإدارة. ثم انتقل الى بيروت وعيّن محرر مقاولات بيروت أي (كاتبا بالعدل)، يُذكر ان اسم محرر مقاولات أُبدل الى كاتب بالعدل بناء لاقتراح مصباح محرم البيروتي أحد مؤسسي جمعية المقاصد والأستاذ في كلية الحقوق السورية ورئيس المحكمة المدنية في بيروت التي حكمت بإنهاء امتياز شركة الماء العثمانية.
درس في الكتّاب الحساب والعربية وقراءة القرآن. ثم انتقل الى المدرسة الرشدية العسكرية (مدرسة حوض الولاية) ثم الى المدرسة (الكلية) العثمانية لصاحبها الشيخ أحمد عباس الأزهري. وللتخلص من الجندية تعمّم بعمامة بيضاء وعمل مدرّسا في مدارس جمعية المقاصد وأستاذا للعربية في الكلية الشرعية. أسهم سنة 1913 بتأسيس الجمعية البيروتية وشارك سنة 1921 بتأسيس جمعية الكشاف المسلم.

مسرحيات رائف فاخوري

كتب رائف فاخوري عدة مقالات في جريدة «العهد» وفي مجلتي «الأديب» و«الكشاف». نظّم عدة مواويل. تولّى بعد والده خدمة الشعرات النبوية الشريفة في الجامع العمري الكبير. كتب عدة مسرحيات منها:
1- «جابر عثرات الكرام» التي تركّز على تقاليد العرب في الوفاء والإيثار. عرضت في مسرح الكريستال سنة 1921 وأعيد تمثيلها عدة مرات بناء لطلب الجمهور، كما قُدّمت في طرابلس ومصر. مدحها الشاعر خليل مطران بقصيدة طويلة، كما مدحها الشاعر بشير يموت، وظهر فيها لأول مرة عمر الزعني باسم حنين شاعر الجزيرة الذي قدّم بين الفصول أناشيد منها (بصّارة برّاجه) ذات خلفية سياسية. يُذكر ان سلطة الانتداب لم تعترض على المسرحيات التي تُشيد بتراث العرب ومناقبهم في محاولة لصرف نظر البيارتة عن الهوى العثماني الإسلامي.
2- مسرحية «شيرين» مُثّلت في الكريستال سنة 1923.
3- مسرحية «السباق» لا تزال مخطوطة.
4- رواية «الأمانة والوفاء أو السمؤال» لا تزال مخطوطة.
5- «الريال الزائف» مُثّلت في الكريستال سنة 1928.

مسرحية «الريال الزائف»

في الظروف المأسوية للحروب سيق الرجال الى الحرب تاركين نسائهم وأطفالهم بلا مورد وبلا معيل فريسة الجوع والمرض والشيطان. وقد تمثل ذلك بمسرحية من ثلاثة فصول ألّفها رائف فاخوري سمّاها «الريال الزائف» استقاها من حادثة وقعت أوائل السنة الثانية من الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م) في بيروت وهزّت المجتمع في حينه وتناقلتها الألسن (حصل بحث في شأن المسرحية بين مؤلفها والمفتي الشيخ مصطفى نجا سنشير إليه في محله).
وخلاصة الحادثة أن فريدة سيدة شريفة المسلك عفيفة النفس. سيق زوج فريدة الى الحرب وتركها مع طفلين، أحدهما مريض والآخر رضيع، بلا ناصر ولا معيل في بيت مؤلف من غرفة واحدة للمعيشة والنوم والخدمة، يغطي أرضها حصير مسودّ. ويشتدّ المرض ويزداد الجوع وتبلّغت قرار هدم بيتها الكائن في محلة الحمام الصغير الي انتقلت إليه بعد هدم بيتها السابق الكائن في محلة الدركه وضرورة إخلائه. وتتدخّل جارتها صالحة تنصحها بالاستفادة من النعمة الوحيدة التي تتمتع بها أي نعمة الجمال. دخلت عليها ذات يوم وسمعتها تنشد لتنوّم طفلها المريض:
نام يا ابني نام لاحق تبكي وتتنهد
نام يا فرخ الحمام وتندب حظك الأسود
نام واتهنّى في المنام خد لك غفوة وتنهد
وخبّي دموعك للأيام النوم مرهم للآلام
لا أب لك ولا عم
إلّا أم عم تبكي دم
حليبها مخلوط بسم
لا بتغفل ولا بتنام
وظلّ المرض يشتدّ على ابنها وظل الجوع يعصر جسمها وظلت جارتها حليفة ابليس تغويها حتى مكّنت أحد الأشخاص من نفسها مقابل ريال استلمته وخاطبته قائلة «ما أشدّ سوادك في نظري أنت يا قاضي الحاجـــات يا من تقطع دونه الرقاب وتسيل لأجله الدماء وتزهق النفوس.. تعزّ الذليل وتذلّ العزيز يا علّة بلائي وسبب شقائي، هنيئاً لمن صاحبت وتعساً لمن فارقت، يا فاضح الأسرار وساتر الأشرار، لا كان يوم أنت فيه أثمن من الشرف وأغلى من العفاف آه ليتني مت قبل هذا اليوم ليتني». ثم ذهبت الى السمّان ودفعت له الريال ثمن ما اشترته فيدفع السمان الريال إليها قائلاً: هذا ريال مغشوش، ريال زائف، فكانت كقول الشاعر:
كالمستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وصلت أصداء هذه الحادثة الى بشارة الخوري - الأخطل الصغير، فنظّم سنة 1919 قصيدة مطلعها:
ويح الفقير مما تراه يلاقي
سدّت عليه منافذ الأرزاقِ
فاذا بصرت به عجبت لشمعة
كالزعفران تجول في الأسواق
علق المجاعة مصّ بعض دمائه
وتعسف الحكام مصّ الباقي
ويضيف قائلا:
قالت وأدته الريال ألا اعطني
بعض الغذاء وأردد عليّ الباقي
اسرع فانك أن تؤخّرني تذق
من جوعها بنيتي أمر مذاقي
نقف الريال باصبعيه وجسّه
وانهال بالأرعاد والأبراق
قبحا لوجهك... سيدي أتسبني
عمدا وتحسبني من السراق
لا... فالريال مزيف.. أمزيّف 
صاحت وقد سقطت من الارهاق
كما نظمها طانيوس عبده في سنة 1925 في قصيدة مطلعها:
مشت مشي القطاة الى الغدير
يدغدها ضيا البدر المنير
وقال فيها:
وقال لها لقد خدعوك فيه
وكم عبثوا بغيرك من فقير
ريالك زائف لا خير فيه
فهاتي ما أخذت به وسيري
وعند الصباح الفوها قتيلا
تحطّم رأسها فوق الصخور
وفي يدها... الريال فكفّنوها
وذاك الطفل في ذاك الحصير
جنازات شهدناها ثلاث
تسير بذلك اليوم المطير
لقد قتل العفاف الجوع
فمات مع المروءة والضمير
ويبدو ان المسرحية أثارت لغطا في بيروت وعمد بعض الخبثاء الى التلميح الى من كان صاحب الريال الزائف ووصل الأمر الى مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا فأرسل لمؤلف المسرحية كتابا يقول فيه «... ولدنا القلبي رائف أفندي الفاخوري المحترم، بعد السلام عليكم لا يجوز لمسلم أن يؤذي مسلما ولا غير مسلم. فإذا كان الأمر كما بلغني من ان روايتكم فيها ذمّ لبعض المسلمين فلا يجوز تشخيصها هذا ما وجب علي بيانه».
فأجابه: «بعد لثم أيديكم الكريمة، لي الشرف جوابا على كتابكم إن أذكّر سماحتكم بالآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا} مع أسفي الشديد أن تكون ثقتكم بولدكم القلبي سريعة التأثر لأدنى ظن أو أقل وهم وتقبّلوا».

* مؤرخ