بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 تموز 2023 12:00ص بيروتيّات (43).. الدكتور بشير القصّار ومسرحية «الوصي الخائن»

د. بشير القصّار د. بشير القصّار
حجم الخط
القصّار لغة من القِصارة بمعنى منظّف الثياب ومبيّض النسيج أي منقّيه من الأوســـــاخ والأدناس. من القول قصّرت الثوب قصراً، بيّضته. والقِصارة من الحِرف المؤلمــــــة التي تورث تعباً ومشقة لأن القصار يغسل القماش ويرشّه بالماء مراراً حتى ينظف وهو حينئذٍ معرّض لحرارة الشمس والهواء، وللشيخ أحمد البربير البيروتي في مخاطبة صديق غائب:
قد تعطّلتُ في مغيبك عني
وأراني الزمان شدّة بأسِه
كنتُ مثل القصار في الحزن لما
غيّب الله عنه طلعة شمسه
وأسرة القصّار قديمة في بيروت. قام أفراد منها بأعمال تُذكر فتُشكر. أقدم من ذكر منهم «فخر الأعيان المعتبرين الحاج علي إبن سيدي محمد القصار» الذي أنشـــــأ سنة 1091هـ/ 1680م الزاوية المنسوبة إليه وأوقف لها عدة عقارات والتي هدّمت أثناء توسيع شوارع بيروت فتم بناء جامع القصار في محلة عائشة بكار. ومنهم الحاج مصطفى القصار إبن الخواجة محمد القصار ( شقيق الواقف الحاج علي) الذي بنــــى سنة 1098هـ/ 1686م بركة وجعلها سبيلاً لوجه الله تعالى ووقف عليها حانوتاً. ومنهم درويش إبن علي آغا القصار (حفيد الواقف) الذي وقف في شوال سنة 1233هـ/ 1817م دكاناً في سوق الفشخة بجوار الجامع العمري الكبير، على مسجد طنطا فـــــي مصر الذي يضم ضريح السيد أحمد البدوي. ومن أبناء القصار البيارتة قديماً يحيى القصار «البيروتي» الذي لما تزوج سنة 1217هـ/ 1802م نظّم له الشيخ عمر اليافي الخلوتي (1759 - 1818م) أبياتاً وردت في ديوان اليافـــــــي مطلعها:
لألسنة الأقلام أعذب منطق
تهنّيك بالأفراح والأنس يا يحيى
ومن أبناء أسرة القصار في بيروت عبدي آغا إبن حسن القصار الذي تولّى حماية قلعة بيروت سنة 1133هـ/ 1720م وعرف بالدزدار من دز (حافظ) ودار القلعة. ومن أبناء القصار البيارتة القاضي والسفير وعميد كلية الحقوق أستاذنا المرحوم الدكتور وفيق القصار والد الفاضلين الوزير السابق عدنان القصار وشقيقه عادل. ومنهم محمد فضل القصار والد الدكتور بشير.

مولد بشير القصّار ونشأته

ولد بشير محمد فضل القصار في بيروت سنة 1883م كما ذكر الزركلي، في حين أن مجلة «الكلية» أوردت سنة 1935م ذكرى تأبينه وقد دوّن أحدهم فيها أن مولده كان سنة 1885م ونحن نميل الى ما ذكره الزركلي. ويمكن تحديد مكان ولادته في بيت والده الكائن في محلة الباشورة وبالتحديد في حي طريق المحافر أي الطريق الذي تمرّ من الأطفائية (حالياً) وخلف مبنـــى كلية المقاصد للبنات في محلة قبر الوالي الى برج أبي حيدر. وكان هذا البيت يحتوي على أربع غـــــــرف ومطبخ وفسحة دار وحقوق ومنافع شرعية يحدّه قبلة طريق سالك وشمالاً طريق خاص وشرقاً ملك بني البواب وبني حجازي وغرباً خديجة بنت الحاج أحمد بن الحاج محمد القصار والحاج رستم بن محمد إبن الحاج أحمد القصار. وكان لبشير القصار من الأخوة أربعة هم: مصطفى (أكبرهم) ومنيب وعبد اللطيف وتوفيق.
ونشأ بشير القصار في بيت علم وأدب وشعر. فقد كان والده أديباً وشاعراً، ففي سنة 1889م صدر الجزء الأول من جريدة «الصفاء» لسنتها الرابعة وعهد بتحريرها الى الشيخ فضل القصار كما ذكره القاياتي في كتابه «نفحة البشام» ولفضل القصار مسرحية بعنوان «عاقبة الظلم» مُثّلت مرة أولى. وفي المرة الثانية منعت وصودرت أوراق الشيخ فضل وفتش منزله وهو ما سيكون له تأثير على مسيرة إبنه بشير كما سنبيّن فيما بعد.

دراسته وتخصّصه في الطب

انتقل بشير القصار من الكتّاب إلى «المدرسة العثمانية» التي افتتحها الشيخان أحمد عباس الأزهري وعبد القادر قباني، والتي استقطبت التلامذة ثم الطلاب من مختلف المناطق ولا سيما بعدما حُلّت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية سنة 1882م. ويذكر القصار في الخطاب الذي ألقاه في ذكرى عبد الباسط فتح الله الى انه، أي القصار، كان سنة 1897م في الصف الثاني بالمدرسة العثمانية عندما دخل عليهم فتح الله معلّماً.
وتخرّج بشير القصار من المدرسة العثمانية سنة 1317هـ/ 1899م وتخرّج معه في السنة نفسها بدر دمشقية والد السفير نديم وفوزي رمضان مدير البوليس، وانتقل الى الجامعة الأميركية لدراسة الطب. وتخرّج منها سنة 1908م. وعلى عادة الأطباء قرأنا في جريدة «الإتحاد العثماني» في رمضان 1326هـ/ 1908م ما يلي «إعلان للدكتور بشير القصار: يعاين المرضى في بيته الكائن في البسطة الفوقا تجاه الجامع كل يوم من الساعة 8 الى الساعة 12 افرنجية قبل الظهر ومن الساعة 2 الى 4 إفرنجية بعد الظهر والفقراء مجاناً في كل الأوقات».
ويبدو أن طب الأبدان لم يكن يرضي طموحات الطبيب، وأن تربية النفوس والأذهان في تلك المرحلة الإنتقالية من تاريخ الأمة كانت برأي الدكتور القصار تتقدّم على طب الأبدان وتغلّبت لوثة التربية والتوجيه إن صحّ التعبير - على دسّ النبض وقياس الحرارة ومعالجة الإسهال والإمساك، فلبّى بشير القصار دعوة الرئيس الشيخ أحمد عباس الإصلاحية وانتسب معلماً في المدرسة العثمانية، ليصبح أستاذاً لجيل من المفكرين والسياسيين والأدباء والشعراء والإصلاحيين شكّلوا اللبنة الأولى والأسّ المتين للنهضة التي عرفتها بيروت.

وفاته وآثاره

تولّى التفتيش في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية. وكان سنة 1932م وما يليها أستاذ الأدب العربي في كلية المقاصد للبنات ومراقب التعليم في مدارس البنات. وله من المؤلفات التاريخ العام (مدرسي) و«أوليات الحساب» (مدرسي أيضاً) ومسرحية «الوصي الخائن»، وتوفي بشير القصار يوم السبت في 26/1/1935.

مسرحية «الوصي الخائن»

وضع بشير القصار مسرحية باسم «الوصي الخائن». وهي مزيج من النثر والشعر وقد غلبت مساحتها النثرية على الشعرية. وأبيات الشعر كلها موزونة مقفّاة وتمتاز بألفاظ رشيقة يكاد بعضها أن يكون نشيداً متداخلاً مع الحوار.
وتتلخص حوادث المسرحية برب العائلة خالد الذي يدعى الى الخدمة الإجبارية فيوصي شقيقه ضرار بأمواله وعائلته. ويبدي الشقيق غيرة مصطنعة ثم يقوم بالاستيلاء على أموال شقيقه ويدّعي خسارتها بالحرب، فيستولي على مجوهرات زوجة شقيقه ويمتنع عن إعالة عائلة شقيقه ويذهب الى الجبهة ويحصل من شقيقه علـــى وكالة للتصرف بأملاكه وفي اللحظة نفسها يتبلّغ خالد من القائد العام تعيينه حاكماً على مدينته ومنحه قصر الإمارة لسكنه، وعندما يحضر الى بيته ويعرف ما جرى يطلــــب زجّ أخيه في السجن إلّا أن زوجته طلبت من زوجها ترك شقيقه حرّاً يعاقبه ضميره.
ومن المؤكد أن المسرحية مُثّلت وهي مخطوطة ولم يتبيّن أنها طبعت. ولا يعرف تاريخ تأليفها أو متى مُثّلت لأول مرة. وتفيدنا مجلة «الكشاف» أن الفرقة الكشفية الخاصة بالكلية العثمانية والمسمّاة الفرقة العباسية زارت سنة 1927م مدن شمال سورية وقامت بتمثيل رواية «الوصي الخائن» على مسرح «اللونا بارك» في حلب ونالت استحسان الجمهور، وأعادت الفرقة تمثيلها في مدينة حمص وفي شباط من السنة نفسها أمام الكشاف المسلم في منتدى الكلية الإسلامية حفلة تذكارية لعيد الكشفية مثّلت فيه الفرقة العباسية «رواية كشفية» دون ذكر عنوان المسرحية.
وقد حافظ المؤلف على التقليد المسرحي فيما خصّ مكان الأحداث.
واستمدّ موضوع المسرحية من وقائع عاشها المؤلف واستطاع حبك الحوادث وتشويق المشاهد وجعل من البطل رمزاً للوطنية والدفاع عن الوطن والتضحية في سبيله، وجعل من شقيق البطل رمزاً للخيانة الذي خطّط للاستيلاء على أموال أخيه مستغلّاً ظروف الحرب.
وقد أظهر المؤلف الشقاء الذي عاشته عائلة الجندي البطل متعمّداً التلميح بدل التصريح مثلما سبق لوالده أن فعل في مسرحية «عاقبة الظلم». وتتجلّى خبرته المسرحية في عدم إكثاره من الشخصيات الى جانب البطل بما يضعف الحبكة وعدم إطالة النص بما يضعف عنصر التشويق. تغلب صفة النشيد على بعض ما جاء في المسرحية من قصائد منها:
خالد - الضابط:
لبّيك لبّيك ها أني بلا وهن
أجيب داعي العلا في خدمة الوطن
أسير للحرب لا أخشى أوارها
ولن ألين لحد الركب الخشن
وأطعن الطعنة النجلاء يتبعها
ضرب دراك كسيل العارض الهتن
ظن العدا أنهم يرهبون شوكتنا
بالطعن والضرب والإرهاب والفتن
وما دروا اننا نحمي حقيقتنا
نحن الجنود إذا ما ثار ثائرنا
فزنا ولو بقراع الدهر والزمن
الضابط - خالد:
هيا لكسب المعالي يا بن بجدتها
يا من تحلّيت بالتدبير والمحن
أجبت داعي العلا لما دعاك إلى
نيل الفخار بما قد عزّ من ثمن
وسوف ترجع معتزا بما كسبت
يداك في الحرب من فخر ومن منن
اني أخوض غمار الحرب مقتنعاً
لانه من أهم الفرض والسنن
وسوف تسمع والرحمن يكلؤنا
ان العدا في أشد الذل والمحن
فالجيش في فتن والشعب في محن
والناس في حزن والكل في شجن
وذا مصير الأولى خانوا الجوار ومن
نسوا عهد الوفاء في السر والعلن
(يخاطب زوجته هند):
يا هند صبراً فأني ذاهب لأرى
ما جدّ من سيىء الأنباء أو حسن
وراجع بعد حين كي أودّعكم
لا تحزني وادعي ربي أن يوفّقني
وأنت يا مهجتي سلمى أصبري ودعي
دنعاً يدلّ على الأشجان والحزن
وأنت يا سيدي الأخ العزيز لنا
دافع فديتك عن أهلي وعن سكني
وكن لهم والداً في كل مفصلة
وزدهم منناً فينا على منن
فأنتم يا أحبائي بحرز أخ
صافي السريرة معوان ومؤتمن
كانت تيمة (Théme) المسرح متداولة، الغدر وعاقبة الخديعة وعاقبة الرذيلة الخ.. موضوعات حفلت بها أدبيات تلك الفترة ولا نستبعد أن يكون بشير القصار في فتوته وتأثّراً بنشاط والده المسرحي قد شاهد أو حضر أو سمع عن مسرح القره كوز. فقد كانت مسرحيات قره كوز وعيواظ تمثل في مقاهي بيروت قديماً. فقد ذكرها عبد الغني النابلسي عندما زار بيروت سنتي 1693 و1700م وأشار قنصل فرنسا في بيروت هنري غيز الى تمثيلها في المقاهي في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وبقيت الى أوائل القرن العشرين تمثل في مقاهي البسطتين التحتا والفوقا (قرب بيت القصار) وفي قهوة القزاز (ساحة البرج) وفي مقهى دار المريسة. وقد أوحت مسرحيات القره كوز الى الأدباء بمعالجة موضوعات اجتماعية ولكن بلغة بعيدة عن الابتذال العامي، علماً بأن مسرحيات القره كوز في بلاد الشام كانت مستمدة من واقع المجتمع ومشاكله. وأعتقد أن الحاجة ماسّة الى دراسة مقارنة بين مسرحيات خيال الظل وبعض مسرحيات أدبية حديثه. نشير الى أن حسين حجازي جمع نصوص بابات خيال الظل من الساحل السوري ونشرها سنة 1994م ومنها بابة بعنوان «الوزير الخائن» تشبه بحوادثها وأشخاصها «الوصي الخائن» شبهاً كبيراً. فالملك يريد السفر ليحجّ الى بيت الله الحرام ويضع مملكته وماله وحلاله أمانة بين يدي الوزير. ويتعهد الوزير بالحفاظ على الأمانة والوفاء. وما أن يسافر الملك حتى يبدأ الوزير بالتقرّب من الملكة والضغط عليها ويحاول الدخول عليها ومراودتها عن نفسها ولما تمنّعت حاك مؤامرة مع شهود زور وأبلغ الملك بخيانتها المزعومة فيأمر بنفيها. وبعد عودة الملك ظهرت له الحقيقة وعاقب الوزير ينفيه في البراري والقفار مثلما فعل بزوجة الملك. يذكر أن أبا خليل القباني ألّف ومثّل مسرحية بعنوان «ناكر الجميل» ومسرحية بعنوان «القائد الخائن» و«عاقبة الصيانة وغائلة الخيانة»، وفي موضوع مماثل كتب أحمد خيري سعيد قصة بعنوان «المملوك الخائن». وفي سنة 1930م نشرت للقصصي الإنكليزي آلان سميث قصة بعنوان «الشريك الخائن».
قد ذكرنا سابقا ان الشيخ عبد الرحمن سلام وضع رواية بعنوان «الصديق المخادع» مثّلها طلاب المدرسة العلمية سنة 1909م في ملك حمادة بزقاق البلاط فكانت أجرة الكرسي بشلك عدد 2 والقولتك 4 بشالك.

* مؤرخ