بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 آب 2023 12:00ص بيروتيّات (46).. طوارئ وطرائف من مسارح بيروت

طهرا بك مرتدياً الكوفية طهرا بك مرتدياً الكوفية
حجم الخط
كان المسرح برأي الجمهور قاعة كبرى تصطف فيها الكراسي فيحضر الرواد للفرجة على الممثلين وشرب الأراكيل وسماع بعض الأغاني بين الفصول، ولا يخلو الأمر من اعتراض أحد الرواد على مشهد أو عبارة، وقد يتعرّض المسرح لمداهمة رجال الشرطة ومنع التمثيل وقد يشهد المسرح طرفة من أحد الحاضرين.

فضل القصار و«عاقبة الظلم»

ألّف الشيخ فضل القصار (والد الدكتور بشير) مسرحية بعنوان «عاقبة الظلم».
أجرى حوادثها أوائل دولة الفرس والماديين وأودعها ثورة نفسه على الأوضاع الفاسدة. مُثّلت سنة 1883م في صيدا بمناسبة ختان نجل محمود المجذوب بحضور موظفي الحكومة وضباط العساكر السلطانية ووجوه البلدة، وسرّ الجميع من حسن التشخيص. عرف ما بقي من أبياتها:
إليكم بني الأوطان تجلّى رواية
مدبّجة الأطراف بالنثر والنظم
تشخّص حاكماً ظالماً باد ملكه
لذا دعيت بالاسم عاقبة الظلم
نقدّمها في ظل مالك أمرنا
مليك المعالي ناشر العدل والحلم
خليفتنا عبد الحميد الذي به
مضى الجهل مذ أحيا لنا دولة العلم
ثم أُعيد تمثيلها سنة 1887م فما كادت تظهر للعيان أول ليلة حتى أحدثت تأثيراً غريباً في النفوس خصوصاً الموظفين فلجأوا الى الفرار قبل انتهاء التمثيل خوفاً من أن يقال انهم رأوا «عاقبة الظلم» ونتائج الاستبداد ومنعت المسرحية. واضطهد مؤلّفها وجرت مراقبته ثم أمّوا داره وفتشوا بين أوراقه وكتبه ومراسلاته وأرسل النص الى الأستانة وترجم الى التركية وعرض على قصر السلطان.
وأُعيد عرض المسرحية سنة 1909م بعد سقوط السلطان عبد الحميد. ومثّلها سنة 1911م في طرابلس مصطفى ابن المرحوم الشيخ فضل القصار.
وقد أحيت جمعية الاتحاد والترقي في طرابلس الشام ثلاث ليالٍ مثّلت في خلالها رواية «عاقبة الظلم» تأليف المرحوم الشيخ فضل أفندي القصار. أما التمثيل فلم يفرق شيئاً عن تمثيلها في بيروت، وليس بغريب أن تأخذ رواية «عاقبة الظلم» استحساناً فائقاً في بيروت وطرابلس معا فأن الذي عُني بتمثيلها وأبلغها حد الكمال هو نجل المرحوم المؤلف مصطفى أفندي القصار.
فكانت أول ليلة مُثّلت فيها الرواية ليلة الأربعاء ولقد أعجب الأهالي بالممثلين حتى انهم بعد خلاص المسرحية اجتمعوا بالممثلين وشكروا لهم حميتهم واعتبارهم التمثيل فخراً في سبيل خدمة الأمة.

أبوك ها الأخو... إجا خرب الدنيا وراح

يذكر المرحوم الشاعر أمين لادقي أنه حضر ذات مساء في التياترو الكبير مسرحية «غادة الكاميليا» لإسكندر دوماس، تمثيل يوسف وهبي وأمينة رزق. ويذكر من نوادر ما حصل أثناء أحد المشاهد الذي يظهر فيه الكونت والد الشاب العشيق وعشيقته غادة الكاميليا ويكلم الكونت العاشقة وكانت مريضة بالسل ويطلب منها الكفّ عن لقاء ابنه إذا كانت تحبه حقيقة وتخشى على مستقبل حياته فوعدته بذلك.
ثم يخرج الأب ويدخل العشيق ويحاول التودد إلى حبيبته ولكن هذه الأخيرة أخذت تصدّه وتظهر برودة تجاهه وتفهمه أنها لم تعد تحبه ولا تريد أن تراه وتطلب منه عدم التقرّب منها، فيقف الشاب في مشهد درامي يتنهد متعجباً ويسألها: ماذا حصل؟ ماذا جرى؟ وهنا يقف من بين مقاعد النظارة أحد القبضايات وكان يرتدي خنبازاً ويلوح بخيزرانته ويصرخ: «ما أبوك ها الأخو... إجا خرب الدنيا وراح والله لأعمل واترك فيه».
وضجّت القاعة بالضحك. 

يا أمّي.. وانقلب المشهد الدرامي

قدِمت فرقة جورج أبيض الى بيروت سنة 1919م وقدّمت على مسرح الكريستال ومسرح زهرة سورية أشهر مسرحياتها: مضحك الملك، الحاكم بأمــــــــــر الله، البطل عطيل، ثارات العرب، هارون الرشيد، أوديب الملك، عيشة المقامـــــــــر، في سبيل الوطن ومدام سان جين مع نابوليون، والذين شاهدوا جورج أبيض في هذه المسرحية الأخيرة ظنّوه نابوليون نفسه في بلاطه بين قواده شكلاً ووجهاً. وفي رواية «في سبيل الوطن»، ظهر جورج أبيض بدور القائد العسكري العظيم الذي كان بطلاً في الحرب والسلم.
وقدّم مسرحية «كين» على مسرح زهرة سورية وهي من وضع اسكندر دوماس الأب وتدور حول ممثل له أعداء من جهة ومريدون من جهة ثانية، عاش مترفاً خليعاً ويظهر بأسمى مظاهر الشرف والنبل وكرم الأخلاق. ويشمله أمير برعايته، ولكنه لا يجد الصداقة إلّا في شخص ملقّنه المسكين. والطريف أن بعض الممثلين كانوا يجلسون في بعض فصول الرواية، في الألواج بين الرواد، كأنهم يحضرون تمثيل «كين» لفصل من مسرحية هملت. فيحدث ما يدعو كين الى قطع دوره ويسمع بينه وهو على خشبة المسرح وبين الرواد وهم في الألواج حديث عنيف مؤثر، وهو أمر لم يكن قد سبق له مثيل في المسارح العربية.
كتب الأديب الراحل عمر فاخوري في «الحقيقة» في مسرحية أبيض «لويس الملك»: «في كل يوم يزداد إعجاب الناس بالأستاذ أبيض وباتقان فرقته وفي كل يوم مساء يزداد الإقبال على مسرح زهرة سورية ليروا كيف أن التمثيل العربي أصبح حيّاً يفيض ذوقاً وشعوراً وحسناً. أبيض أم لويس الملك، ميزة الدور هي صعوبة تمثيله. ولا مغالاة في قولي أن أبيض نشر لويس الميت بعد خمسة قرون، فعاش ملك فرنسا في شخص ملك التمثيل العربي. لم يجد جورج أبيض، بل أبدع الإبداع كله وأعجب به كل من حضر الرواية وكان الناس بعضهم فوق بعض، وكانوا جميعاً مأخوذين بما يرونه.. وماذا رأوا؟ رأوا لويس الحادي عشر يشعر ويفكر ويجلس ويشجّع ويجبن، رآوه يحيا الحياة كلها..».
وقال عمر فاخوري في مقال آخر «ان سوريا تغبط مصر على نعمة الله عليها بالأستاذ أبيض، كيف لا وهو إبن بيروت وان كان أبيض الممثل ربيب باريس والقاهرة. لذلك وعدت بيروت نفسها بالسعادة بعودة إبنها إليها. أما وسيقضي الأستاذ بين ذراعي أمه عشر ليالٍ فقط، ثم يترك بيروت، فبيروت تعدّ هذه الليالي ليالي عيد».
قدّمت فرقة جورج أبيض مسرحية «عاصفة في بيت» على مسرح الكريستال وهي من تأليف أنطوان يزبك مثّلت فيها دولت أبيض دور دلال، المرأة الخائنة التي طردها زوجها (جورج) من البيت ومنعها من رؤية طفلها.
روى المرحوم أمين لادقي انه ألحّ على شقيقيه مصطفى ومحمد راشد ليصطحباه الى مسرح الكريستال لحضور هذه المسرحية فتمنّعا لصغر سنّه إلّا ان والدتهم اشترطت عليهما أخذه معهما. وقال: جلسنا في الصف الأمامي في المسرح وأُطفئت الأنوار وبدأ التمثيل. وكانت دلال في أحد المشاهد قد اتفقت مع الخادم على السماح لها بالتسلل الى البيت لرؤية إبنها. وبالفعل ما كادت تتسلل الى البيت، حتى دخل الأب (جورج) فجأة وشاهدها فصرخ بأعلى صوته العالي الجهوري وكان مشهوراً به: دلال.. يا دلال. وهنا صرخت يقول أمين لادقي: يا أمّي. فضحك جورج أبيض وضجّ الجمهور بالضحك. وكان جورج أبيض يردّد حكاية ذلك الولد البيروتي الذي نادى أمه وقلب المشهد من قمة الدراما الى قمة الكوميديا.

مشادة في مسرح «الكريستال» بين طهرا بك وحسن بك المخزومي

غدونا في زمننا الحاضر نصدّق بكل ما يقال مهما كان غريباً متى قيل لنا أنه يستند الى أساس علمي ومضى الزمن الذي كان الاعتقاد فيه بالفأل والتصديق بأقوال العرّافين وأوهام المتنبّئين من صفات الإنسان الجاهل وكان السحر والتنجيم - الى عهد قريب - منبوذاً من الخلق ومكروهاً من المتنوّرين ومحرّماً من اللاهوتيين. أما اليوم وقد توسّع المجتهدون في تصنيف العلوم فقد أصبحنا نسمع بعلوم التنجيم والتنويم والحروف واستحضار الأرواح والتخاطر والتباشر والتوقّع والإلهام. وكم يتلهف الإنسان وهو في مطلع حياته العملية لمعرفة مستقبل أيامه وكم يسرّه أن يعلم انه خلق ليكون حاكماً أو حكيماً أو تاجراً، وعندما تعجز الأنظمة الفكرية والسياسية عن ضمان استقرار الفرد ومدّه بالطمأنينة ليومه وغده، يتطلّع حوله فلا يرى إلّا طلاسم وألغازاً فيتوق الى معرفة المجهول ويلجأ الى العرّافين والسحرة يستمدّ من ترهاتهم وتعويذاتهم مدداً وأحلاماً أشبه بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء.
عرفت بيروت بعض المشعوذين الذين كان يقال عن الواحد منهم بأنه «منجم مغربي»، ففي سنة 1877م حضر واحد منهم الى بيروت فزعم ما تميل إليه النساء قليلات العقل من كتابة المحبة والقبول فاستحضره آغا (قائد) ضبطية بيروت أحمد آغا الحاسبيني وأمره بالخروج من المدينة. وفي السنة نفسها حضر رجل مغربي احتال على بعض الناس بأن كان يضع ماية ليرة في صندوق ضمن صرّة ويسكّر الصندوق ويضعه في بيت صاحب المال وفي اليوم التالي يحضر ويفتح الصندوق فيجد صاحب المال ان ماله زاد عشر ليرات. وإذا كان المبلغ مايتين كانت الزيادة عشرين ليرة وإذا كان المبلغ ألف كان الربح أربعماية ليرة، وأخيراً سكّر الصندوق وذهب وانتظره أصحاب المال الى الغروب فلم يحضر وكسروا الصندوق فوجدوا ضمن الصرر خمسات نحاسية وتبيّن أن المسروق مائتان وأربعماية ليرة ذهبية.
لا يزال المخضرمون يذكرون الإعلانات التي كانت تنشرها صحف بيروت وتشير الى وصول بعض رجال الأسرار ومنهم الدكتور سالمون العالم الروحاني والمنوّم المغناطيسي الذي وصل في صيف 1925 وأعلن حينه «انه بواسطة وسيطه المسيو إميل وبقوة سحر عينيه يخترق قلوب الناس ويقرأ أفكارهم ويعلم ما يجول بخاطرهم ويقرأ الخطابات المقفلة ويخبر عن أحوال الغائبين وأماكنهم وعن أحوال التجارة والزواج والمحبة في الماضي والحاضر والمستقبل وانه شهد بكفاءته سعد زغلول وجمعية الأطباء والصيادلة في بيروت والمعهد الطبي ورئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس الدولة السورية والوزراء والعظماء». وكان يستقبل زائريه في فندق كوكب الشرق - ساحة البرج. وعاد بعد ذلك بسنوات لزيارة بيروت حيث استقبل زائريه الخصوصيين في الفندق العربي وقدّم عدة حفلات في سينما رويال - ساحة البرج - وفي منتدى «وست هول» في الجامعة الأميركية.
وقدم المدعو عادل اليماني الى بيروت سنة 1927م وادّعى ان بمقدوره كشف المستقبل وانه يعرف علم الكيمياء والسحر ومن أعطاه ثلاثة دراهم أعادها له ثلاثة أضعاف بعد طبخها كيماوياً وصدّقه أحد تجار الحبوب المعروفين حتى دفع له ثلاثة آلاف وستمائة ليرة ذهبية فطبخها في جيبه واختفى. وفي سنة 1938 عاد الحاج محمد إدريس الفلكي من الهند والمغرب واتخذ محلاً في رأس النبع شارع عمر بن الخطاب ملك توفيق طبارة لتأليف القلوب وتفريج الكروب وفك المربوط وربط المحلول وكان على من يريد استشارته أن يرسل ليرة سورية.
ومن الذين شاعت شهرتم آنذاك فقير مصري يدعى طهرا (أو طهرة بك) ظهر في انكلترا عام 1927، فمساء إحدى الليالي سنة 1928م احتشد جمهور مثقف مؤلف من بضع مئات في قاعة مسرح الكريستال في بيروت تتقدمه أزهار المجتمع البورجوازي فتصاعدت روائح العطور الأنثوية وتنافست محاسن الثياب مع رشاقة القدود ونضارة الشباب واجتمع الشيوخ من الوطنيين والأجانب الى التاجر والصانع والطالب من المعجبين بشهرة طهرا بك والمتلهفين لمشاهدة غرائبه. وعند الساعة العاشرة مساء ظهر طهرا بك بثوبه الأبيض وكوفيته وعقاله فكان مثالاً للهيبة والوقار: كهولة نضرة وذهن وقّاد وبديهة حاضرة ونظرات حادّة يحدوه الإحترام المنبعث من شهرته ورهبة القوم الذين حضر بعض وجهائهم من آل غزالة ونجار وزيدان ومواطننا المرحوم حسن بك المخزومي (وحسن هو إبن محمد باشا سلطاني الذي حمل لقب المخزومي في قصة طريفة ذكرناها سابقا).
ونعود لمسرح الكريستال لنجد ان طهرا بك اعتلى المسرح ودعا نفراً من الأطباء أن يعتلوا المسرح ويفحصوه جيداً وعزل جسده عن الشعور، فأخذ الأطباء يغرزون في ندويتيه (الندوة للرجل بمثابة الثدي للمرأة) وزنديه دبابيس كبيرة ثم مشى بين الحاضرين يحادثهم بصوت عذب وأسلوب هادئ يبدو عليه التردد ويلقي الكلام على عواهنه ظاهراً، وكان يحمل بيده خنجراً مسنوناً يدخله في جلد عنقه ويسيل الدم من عنقه فيوقفه وقد أثر هذا المنظر بأحد الأجانب فسقط مغشياً عليه واضطرب الحضور وصاحوا بالطبيب وساد الهرج والمرج، فقال طهرا بك «لا حاجة لكل هذا فالحادث بسيط طالما حدث مثله ولكن هذه الضجة برهان على عقلية الشرقيين الذين يتركون الأمور المهمة ويتعلقون بالأمور التافهة». فتأثّر حسن بك المخزومي من هذا الكلام واعتبره إهانة غير مقبولة وطلب من طهرا بك أن يسحب كلامه ويعتذر.
ودار بينهما حوار فهدّد حسن بك بتعطيل السهرة وإقفال المسرح بينما طلب طهرا إخراجه وأن يردّ إليه ثمن ورقة الدخول، وتدخّل وجهاء الحاضرين وأفهموا طهرا مكانة حسن بك ومركزه الاجتماعي فاعتذر طهرا بك وعرّف عن نفسه بأنه شرقي وأنه لم يقصد إهانة الحاضرين وسُوّي الأمر.
وتفشّت في المجتمع عادة اللجوء الى المنجّمين نتيجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. رُويَ أن والدة أحد الطلاب قصدت شيخاً وطالبته بأن يكتب حجاباً لابنها كي ينجح في الامتحان فقال لها: إذا درس ينجح. إلّا أنها ألحّت عليه بقولها انك رجل فاضل ولك كرامات ويدك مبرورة، إلخ.. فكتب شيئاً في ورقه ولفّها بقطعة جلد وخاطها وشمّعها بشمع عسلي ودفعها لوالدة الطالب الذي حملها وأدّى الامتحان وعندما ظهرت النتيجة... وسقط ابنها فتحت والدته الحجاب فرأت مكتوباً فيــه «إن نجح وإلّا لكذا وكذا... ما ينجح».

* مؤرخ