بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 أيلول 2023 12:00ص بيروتيّات (51).. من كرامات بيروت: إبن التينة

ابن التينة ابن التينة
حجم الخط
قرأنا في صغرنا ان الملك رأى شيخاً يزرع نخلاً فسأله: أتؤمل أن تأكل من ثمر هذا النخل ولا يحمل إلّا بعد سنين؟ فقال له الشيخ: غرسوا فأكلنا ونغرس فيقطعون. وقرأنا عن الثروة التي جناها أجدادنا من حرير شرانق التوت ومن طحن السمسم وعصر الزيتون والخروب وتفاكهوا بالتين والصبير والجميز. وأهملنا شعار: إزرع ولا تقطع، فقطعنا التينات والخروبات والجميزات والتوتات وزرعنا مكانها أبنية من حجر غشيم. ولم يبقَ في بيروت من التينات إلّا «ابن التينة».
*****

حوار بين التين والقمح

تجري العرب الأمثال للناس على ألسنة الحيوان، كذلك تجري الأمثال على ألسنة النبات: فمن ذلك قول التين للقمح: أنا أبوك وأمك حضنتك وحفظتك من البرد والحر وربّيتك، فلما صرت قمحا شُرّفت عليّ وجعلك الناس في مخازنها وترفع وتعظّم وتعزّز وأنا أُداس وتأكلني الدواب وأُرمى بين الأرجل... فقال القمح: أَمَا زرعنا في موضع واحد وربّينا من موضع واحد وحصدونا جميعا ودرسونا جميعا؟ قال التين: نعم. قال القمح: فلما ذرونا اتبعت أنت الهوى ومشيت معه فذللت وأنا ما اتبعت الهوى وتواضعت فتعزّزت، فكل من اتبع الهوى أذلّه.
وقريب منه سأل أهل البصرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا: يا إمام هذه شجيرات النخيل تحمل الثمرات الطيبة مثل الرمان والتفاح والعنب وجميع أنواع الفواكه ثم كل سنة تقطع أغصانها فيكون عقباها النار. فبأي ذنب مع حسنها وكثرة منافعها يكون عقباها النار؟ قال: لأنها تميل أغصانها مع الهوى، وكل من يميل مع الهوى يكون عقباه النار.
في روايات خلق الكون أن الله تعالى خلق شجرة لها أربعة أغصان فسمّاها شجرة اليقين. ووضع الشجرة في بداية الخليقة دلالة على معاني الحياة والتجدّد والخلود. فالشجرة تنمو وتكبر وتزهر وتثمر وتجدّد أوراقها وجذوعها وتزهر وتثمر من جديد، وهي معمّرة تصمد في وجه العواصف والرياح. كان العرب يقدّسون الأشجار وكانت لهم فيها معتقدات. وقد يتلاشى المعتقد الأسطوري ولكنه يظل حيّاً في بعض العادات والتقاليد. أباح الله لآدم وحواء الجنّة إلّا شجرة واحدة. وقد اختلفوا في هذه الشجرة التي هـــــــــي «شجرة المحنة» ما هي؟ الإمام علي قال: هي شجرة الكافور. وقال قتادة: شجرة العلم. وقال محمد بن كعب ومقاتل: هي السنبلة، الحنطة. وقيل الكرمة وقيل هي شجرة الخلد الخ.. ولما أكل آدم من الشجرة وظهرت عورته وصار هائماً في الجنّة تلقته شجرة العنّاب فأخذت بناصيته. ثم طاف بأشجار الجنة يسأل منها ورقة يغطّي بها عورته فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة. فكافأ الله التين بأن سوّى ظاهره وباطنه في الحلاوة والمنفعة. وقيل أن آدم هبط من الجنة ومعه آنية بزر عريشة من عنب وريحان. وعن إبن عباس أن آدم هبط من الجنة بثلاثة أشياء: بالآسة وهي سيدة رياحين الدنيا، والسنبلة وهي سيدة أهل الدنيا، والعجوة وهي سيدة ثمار الدنيا. وأن الله زوّد آدم حين أهبطه الى الأرض من الثمار ثلاثين نوعاً: عشرة منها في القشور كالجوز واللوز والرمان والبلوط، الخ.. وعشرة لها نوى كالأجاص والعنّاب والزعرور والنبق الخ.. وعشرة لا قشر لها ولا نوى كالتفاح والسفرجل والعنب والتوت والتين.
وأما حواء فقد ابتليت بخصال عدة منها الحيض. يروي أنها لما تناولت من الشجرة دميت الشجرة. فقال الله تعالى: ان لكِ عليّ أن أدميك وبناتك في كل شهر مرة كما أدميت هذه الشجـرة.
واستقرّ في اللاوعي الإنساني أن الغابات أو بعض الأشجار يجب أن تكرّس وتنذر للآلهـة. فالنخلة شجرة مقدّسة في مصر وبابل وفينيقيا والجزائر، في ظلّها يتفيأ البدوي من هجير الصحراء ورمضائها. جذور الشجرة ضاربة في الأرض وقامتها المنتصبة شامخة بأوراقها الخضراء الزاهية التي لا تكاد تسقط في عالم سمته الأساسية المحل والجدب فهي متصلة بالتراب والماء والهواء مرتفعة في عنان السماء، فهي رمز التجدّد والشباب الحيّ ونسغ الحياة الذي لا ينضب. وتجتمع في الشجرة العناصر الأربعة: التراب والماء والهواء وبواسطتها يقتدحون النار، واستمر تقليد تقديس الشجرة ولكن مغلّفاً بتقاليد وممارسات يغيب معها الأصل الأسطوري. من ذلك تسمية شجرة بإسم شخص معيّن وارتباطه بها واشهارها به، وإما لذكريات عاشها الإنسان في ظلها كتلقّي الدروس الإبتدائية أو لقاء الحبيبة في ظل أشعة قمر متسللة من بين جذوع الشجرة وأوراقها، وما قيل من شبه بين القمر ووجه الحبيب لأن من طبع الإثنين الحضور والمغيب. أو لما وجد في الشجرة من منافع في ثمرها وورقها وجذوعها لا سيما للإبتراد صيفاً في الظلال الوارفة، وللتدفئة شتاء بالجذوع اليابسة (الذابلة). فليس غريباً أن تنسب محلة، أو زقاق الى شجرة لا سيما الأنواع المعمّرة منها، بحيث تصبح الشجرة مع الزمن معلماً من معالم المنطقة ورمزاً من رموزها. وليس غريباً أن ترتبط شجرة معينة بولادة شخص أو بحادثة حصلت عند جذعها تناقلتها الركبان. عرفت بيروت القديمة أماكن مرتبطة بأشجار معروفة مشهورة بأسماء أفراد أو عائــلات. وأكثر تلك الأشجار كانت موجودة خارج سور المدينة بالنظر الى اتساع المساحات الخضراء خارج البلدة وبقي من هذا التكريس حكم العامة بضرورة الحفاظ على بعض الأشجار وعدم قطعها.

استعارة أسماء الأشجار للمحلات وللأفراد

عرفت بيروت القديمة أماكن مرتبطة بأشجار معروفة مشهورة بأسماء أفراد أو عائــلات: جميزة يمين، خروبة التنير. وسُمّيت عدّة مناطق في بيروت بإسمها، مثل محلات تينات جل البحر وتين الرمل وعين التينة وتينات الفرخ.

قشّر التين عندما أخذه الجوع

استعملها الظرفاء في النوادر، ذكرها هنري غيز في مذكراته: نسبوا إلى أحد أهالي رأس بيروت أنه دعا ضيفاً إلى مائدته، ثم تأخّر عمداً بتقديم الطعام، فنزل الضيف الى البستان، وقد أخذ منه الجوع مأخذه، فجعل يأكل حبات من التين دون تقشير، ولما أحسّ بالشبع، نادى ربّ البيت إبنه وسأله عن الضيـف: قشّر؟ فأومأ له الإبن بالإيجاب، فدعا ضيفه عندئذ إلى الطعام.

من التراث الشعبي

وأشدّ ما يؤلم التينة عصفور يختار الحبة الناضجة من ثمرها فينقرها، ولا يزال كذلك حتى يسمن ويكسو الدهن جسمه، وهو يعرف عند الناس بعصفور التين، يصطادونه ويأكلونه ولا يذكروها بخيــر.
ومن عادات بني آدم السيئة ضرب المثل فيمن يعود من قطافه بسلّ فارغ فقيل: طلعت سلّته بلا تين. واستدلوا على اعتدال المناخ بالمقارنة بين ورق التين ورجل البطة فقالوا: لما بتصير ورقة التين قد إجر البطة نام ولا تتغطّى. ودخلت في الأغاني الشعبية:
إيدي وإيدك عالوادي
ناكل تيـــــــــن سوّادي
ناكل مناكل لنشبــع
ونجيب معنـــــا زوّاده
خبز وتينـــة أحلالي
مع شرفـي وراحة بالي
كلو نعمـــــة من الله
عايش راضي شو عبالي
يلّا نقطـــف تينتنـــا
كل العالـــــم سبقتنــــــا
كل مين حصّل نصيبو
لكن نحنــا يـــا حسرتنا
قمنا عبكره جيعانين
بسبّة إنّــــا مش عاجنين
رحنا وجينا عالفاضي
وسلّي وسلّك بلا تيـــــن

مات في شوران ودُفن في اليونان

روى لي سنة 1992م المرحوم مصطفى العيتاني (أبو إبراهيم) أن جد أبيه المدعو محمد أبو يوسف العيتاني ذهب مع إبنه إلى كروم التين جهة المنارة للنزهة. وإذ بقراصنة اليونان قد نزلوا إلى الشاطئ، فطلب من إبنه تسلق شجرة التين والاختباء فيها واشتبك هو مع القراصنة في معركة ضارية إلى أن قتلوه.
أضاف أبو إبراهيم بأن القراصنة خطفوا عدة أشخاص من بيروت، كان منهم شخص من آل بدر وآخر من آل قصقص. وكان هذا الأخير جميل الطلعة حسن الصوت فباعوه لملكهم وتعلّم لغة اليونان. أعجبت به إبنة الملك فأسلمت وتزوجته.

إبن التينة من كرامات بيروت

أخبرني من أثق بصدقه أن أحد شيوخ بيروت ذهب الى شيخه في دمشق وشكا له مرور زمن دون أن ينجب، فأحضر له الشيخ ثمرة تين قرأ عليها شيئاً وأعطاها له. عاد الرجل الى بيروت وأطعم التينة الى زوجته التي حملت وولدت صبياً وصف بأنه إبن التينة. وفوجئت لأنني أعرف الإبن المذكور منذ سنوات. وقد تكررت هذه الكرامة مرة ثانية فقط.

* مؤرخ