بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 تشرين الأول 2023 12:00ص بيروتيّات (53).. تقديم القاضي على المفتي في النظام الإداري الإسلامي

تقديم القاضي على المفتي تقديم القاضي على المفتي
حجم الخط
تبيّن من التراتيب الإدارية الإسلامية تقديم القاضي على المفتي في الفرمانات والمخاطبات والأوامر. ويعود ذلك الى اختلاف دوريهما. فمن المتفق عليه ان دور المفتي هو دور استشاري في مسألة عارضة وللقاضي أن يسند حكمه إليه أو أن يهمله ويعتمد رأياً آخر.
ويتبيّن من مراجعة سجلات محكمة بيروت الشرعية الموجودة منذ سنة 1843 ان القضاة كانوا يلجأون بكثرة الى المفتين سواء أكان المفتي من بيروت أو من أية مدينة أخرى. ومنذ سنة 1876 خفّ لجوء القضاة الى المفتين وذلك بعد قرار الدولة لمجلة الأحكام العدلية المستمدة نصوصها من أرجح الأقوال من المذهب الحنفي، لأن المجلة وضعت الحلول لكثير من القضايا التي تعرض على القاضي.
ومن جهة ثانية فان المتفق عليه ان قرار القاضي يتمتع بالقوة الثبوتية والتنفيذية. أطّلعنا على فرمان صدر سنة 1268 عن والي صيدا محمد أمين باشا في مقدمته ما قيل في القاضي «أقضى قضاة المسلمين، أولى ولاة الموحدين، معدن الفضل واليقين، رافع أعلام الشريعة والدين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، المختص بعناية الملك المعين مولانا بيروت (قاضي) زيدت فضائله».

تاريخ القضاء في الإسلام

كتب شكري العسلي كتابه «القضاة والنواب عن القضاء في الدولة العثمانية»، ومما جاء فيه ان السلطان عثمان مؤسّس الدولة استخدم قضاة للشرع والحكم بالدعاوى، وكانت يعتمد رأي المفتي ويسند حكمه إليه أو أن يهمله ويعتمد رأياً آخر. وفي عهد السلطان سليم موكولة الى عالم بالفقه وعلوم الشرع وفي عهد السلطان بايزيد الأول أسند منصب الفتيا الى محمد شمس الدين أفندي. وكان المفتي ناظراً عاماً على جميع العلماء والقضاة والمدرّسين. وتم في عهد السلطان محمد الفاتح تنظيم مراتب العلماء وكان في آخر أيامه قاضٍ واحد للعسكر - باعتبار ان العثمانيين كانوا أصلاً قبائل محاربة - فلما فتحت القسطنطينية وكثرت الأعمال قسّم القضاء الى قاضي عسكر للروم إيلي أي للأراضي الواقعة في أوروبا - بلاد الروم - وقاضي عسكر الأناضولي في آسية. ونُصّب خضر بك قاضياً على استانبول ومفتياًَ في مقر السلطنة، وأسند بعد ذلك منصب الفتيا الى رجلين شهيرين هما: ابن كمال باشا وأبو السعود أفندي، وكان كل منهما قاضياً للعسكر. وأطلق بعد ذلك على منصب الإفتاء مقام المشيخة الإسلامية، وصار هذا المنصب فوق منصب قاضي عسكر الروم إيلي وقاضي عسكر الأناضول، كما اختصت به رئاسة الطرق العلمية وصار يقال لشيخ الإسلام «ولي النعم»، وعُدّ أمر المعارف والعدل من حقوق مقام المشيخة حتى ان طلبة العلوم متى قيّدوا أسمائهم في الدولة عند إنجاز دروسهم عدّوا قضاة، وكانت رتبة المولوية «المولى» منتهى رتب التدريس. وفي سنة 1272هـ فتح مكتب النواب وشرط أن يكون النائب من متخرّجي هذه المدرسة. ثم انقسم مستخدمو الشريعة الى قسمين: الأول للفتوى والثاني للقضاء، وصار في مركز كل ولاية ولواء وقضاء مفتٍ، وغدا المفتي مرجعاً لحل الأمور الشرعية وعُدّ شيخ الإسلام المفتي الحقيقي وشرط في الإفتاء أن لا تعطى الفتوى لأرباب المصالح قبل تصديق شيخ الإسلام عليها.
وكما ان شيخ الإسلام يعيّن القضاة المومئ إليهم، لا بد له كذلك من أن يخصص مفتياً لكل بلدة من البلاد التي يعيّن لها قاضياً ويكون من المتضلعين بمعرفة الأمور الشرعية لمراقبة ما يجريه ذلك القاضي من الأحكام الشاذة أو ليستعين به القاضي في القضايا المشكلة فلا يبرم حكماً إلّا من بعد أن يستشيره ويحصل على جواب ممضي ومختوم منه مبني على نص شرعي يوثق به.
وأصبح تعيين القضاة منذ سنة 1855م يتم بنتيجة امتحان.
ويعود أصل إطلاق كلمة النائب على القاضي الى مفهوم الإنابة القضائية المعروف في الإسلام. فالسلطان أو الخليفة هو صاحب السلطة القضائية التي يفوضها من يشاء كي ينوب عنه في ممارستها لإحقاق الحق وتحقيق العدالة. وقد عبّر عن هذه النيابة الشيخ أحمد العريشي قاضي عسكر مصر ردّاً على سؤال علماء الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م والمتعلق بتنظيم القضاء في مصر فقال في جوابه «وأما صفات وكيفية لبسهم هما كنايتان عن إذن كبير القضاة لهم بسماع الدعوى وفصل الخصومات وكتابة الوقائع الشرعية وقيدها في السجلات المحفوظة ويكون المأذون نائباً عن موليه».

أول نائب شرعي لبيروت

يُذكر أن أول نائب شرعي عيّن لبيروت من قبل قاضي عسكر الأناضول هو حالت خليل بيرامي من خريجي معهد القضاة في إسطنبول بعد أن جعلت بيروت مولوية دورية يعيّن نائبها الشرعي من خريجي المعهد المذكور. وقد وصل النائب المذكور الى بيروت في محرم سنة 1267هـ/1850م وافتتح سجله الشرعي بعبارة «الحمد للّه الذي شرّع كتب الصكوك والسجلات تحرّزاً عن ضياع حقوق المسلمين والمسلمات والصلاة والسلام على نبيه محمد أفضل الأنبياء في الهدايات وعلى آله وأصحابه واضح الحجج والبيّنات، وبعد فهذه اتخذت جريدة جيدة بكتب الصكوك والسجلات في زمن العيد المفتقر الى كرم ربه الجليل بيرامي زاده السيد حالت خليل القاضي بمدينة بيروت عفي عنهما لسنة سبع وستين ومايتين بعد الألف في غرة محـــرم الحرام».
وضع حيدر بامات سنة 1946 كتابا بعنوان «مجالي الإسلام» ترجمه عادل زعيتر سنة 1956، ومما جاء ان «هنري الثامن ملك انكلترا أرسل الى تركيا لجنة لدرس القضاء العثماني وصولا الى إصلاح النظام القضائي الانكليزي». وكانت المحكمة الشرعية هي المحكمة العادية التي تنظر في قضايا الأحوال الشخصية والدعاوى المالية والعقارية والبيوعات والتأمينات والقضايا الجنائية ومع الزمن حدّت صلاحياتها بقضايا الأحوال الشخصية كالطلاق والتفريق والنفقة والمهر والحجر.
والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) هو أول من قام بوظيفة القاضي في الإسلام. وسار الخليفة أبو بكر على طريقته. ولما انتشر الإسلام واتسعت دار الإسلام في عهد الخليفـة عمر بن الخطاب فصل القضاء عن الولاية وعيّن للقضاء أشخاصاً غير الولاة فاصلاً بذلك بين السلطتين التنفيذية والقضائية. وسار الخليفتان عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه على هذا السبيل. واستمر الأمر في الدولة الأموية على ما كان عليه الحال في عهد الخلفاء إلّا انه تميّز بمعاملة تدوين الأحكام في سجل خاص. واختلف الأمر في الدولة العباسية فقد نشأت المذاهب الأربعة ووظيفة قاضي القضاة وانتشر الجدل الفقهي واختلفت أحكام القضاة باختلاف المذاهب وازداد تدخّل الخلفاء في أحكام القضاة مما دعا الفقهاء الى الزهد في منصب القضاء والتمنّع من قبوله كما حصل مع الإمام أبي حنيفة النعمان وتلميذه زفر ومع الإمام أحمد بن حنبل.الفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام ويقال استفتيت فأفتاني بكذا. ومن جهة ثانية فان قرار القاضي يتمتع بالقوة التنفيذية الملزمة. يقال أصله من الفتوى وهو الشاب القوي، فكأن المفتي يقوي السائل بجواب حادثته. وقال الإمام الشاطبي في الموافقات ان المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم . وهو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدّة ولا يميل بهم الى طرف الانحلال، والدليل على هذا إنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة. فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
واشترطوا أن يكون المفتي عالماً في عموم القرآن وخصوصه وتاريخه وناسخه ومنسوخه وكذلك السنن والاستنباط وأن يستكمل ثلاثة شرائط هي: الإجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل وأن يعرف من اللغة والنحو ما يعرف به مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم  ويعرف إجماع السلف وخلافهم وكيفية إنتزاع العلل وترتيب الأدلة وتقديم الأولى منها ووجوه الترجيح وأن لا يؤثر فيه قرابة وعداوة وجر نفع ودفع ضر. والفتوى اصطلاحاً هي نص جواب المفتي أو هي حكم الشرع ولما كان الفقهاء في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وكانت حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم الى الطعام والشراب، قال العلماء: إذا لم يوجد مفتٍ في مكان حرم السكن فيه ووجب الرحيل منه.
من الأخبار التي رواها جرجس الخوري المقدسي عن أحد المسنين من رأس بيروت، حادثة تتعلق بإبراهيم باشا عندما كان محتلاً بلاد الشام خلال المدة بين 1832 - 1840م وملخصها أن إبراهيم باشا كان يعتمد على تاجر دمشقي لتموين عساكره بما يحتاجون من مواد غذائية. في آخر السنة طلب التاجر تصفية حسابه وترصيده، فرفض إبراهيم باشا تسديد كامل مطلوب التاجر، متذرّعاً بأن هذا الأخير زاد في الأسعار عمّا كان رائجاً في السوق. استاء التاجر وحاول عرض قضيته على أصحاب الرأي في دمشق، فقالوا له انه على حق، ولكن لم يجسر أحد منهم على إصدار فتوى ضد الباشا. وقيل للتاجر ان في بيروت شيخاً فقيهاً جريئاً، جرّب أن تستفتيه، فلعلّك تحصل على ما يؤيد موقفك. وبالفعل قصد التاجر المفتي البيروتي وعرض عليه قضيته مع الباشا. فأفتى للتاجر ضد إبراهيم باشا، وأن على هذا الأخير دفع ما يتوجب للتاجر. حمل التاجر الفتوى وقدّمها لإبراهيم باشا طالباً التسديد. فاستاء الباشا وأرسل بطلب المفتي إلى الشام. فلما حضر ووقف بين يديه، عاتبه على إصدار الفتوى ضده. فأجابه المفتي: يا حضرة الباشا، لست أنا من أفتى ضدك بل كتاب الله. وشرح له الحكم الشرعي مدعماً بالنصوص الشرعية والفقهية. فاضطر إبراهيم باشا للسكوت على مضض. وأدّى الحساب للتاجر مكرهاً.
ويظهر أن الباشا أراد التحقق من حال المفتي، فعمد إلى زيارة بيروت بعد مدة من الحادثة، وطلب رؤية المفتي في بيته، فأخذوه إليه ودخل إلى غرفة المفتي البسيطة، فوجده يقرأ كتاب الله. ولاحظ الباشا أن المفتي لم يحفل بالزائر، بل ظل متابعاً قراءته، ويظهر أن رجل المفتي كانت ممدودة في حينه بسبب المرض. وغادر الباشا بيت المفتي وأرسل مع مرافقه صرّة من النقود هدية للمفتي. فلما جاء مرافق الباشا لبيت المفتي وعرض عليه الصرّة قال المفتي: قلْ للباشا يلي بمد إجرو ما بمد إيدو.

* مؤرخ