بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 تشرين الأول 2023 12:00ص بيروتيّات (54).. إعمـال التراث أوْلى من إهمـالـه (1/2)

رسالة مُفيدة الحُسْنَى لدَفْعِ ظنّ الخلوّ بالسكنى رسالة مُفيدة الحُسْنَى لدَفْعِ ظنّ الخلوّ بالسكنى
حجم الخط
تقول المادة 60 من القواعد الكل من مجلة الأحكام العدلية «إعمال الكلام أولى من إهماله» وتعني انه لا يجوز إهمال الكلام واعتباره بدون معنى ما أمكن حمله على معنى حقيقي لأنه لما كان إهمال الكلام إنما اعتباره لغوا وعبثا والعقل والدين يمنعان المرء من أن يتكلم بما لا فائدة فيه.
ان حالنا مع تراث أسلافنا كحالة ما درسناه في القراءة المصورة في المرحلة الابتدائية عن ذلك الرجل الذي دنت ساعته فجمع أبناءه وأطلعهم على سر أخفاه عنهم بأنه خبأ كنزاً من الذهب في أرضه، ولما سلّم الروح حفروا الأرض ولم يعثروا على شيء، ونبّه أحدهم اخوته بأن السر هو دفعهم الى حرث الأرض وزرعها «وجني الثروة - الكنز منها». وهكذا مخطوطاتنا الموروثة فلو قيل أن فيها كنوزاً ابحثوا عنها، لعمدنا الى قراءتها ثم درسها وتمحيصها والتأمل فيها وظهرت منها الأفكار المفيدة لمجتمعنا العصري، وهنا يكمن الفرق بين الإبداع والإتباع بين ماعون ورق أبيض يفوق ثمنه ثمن كتاب مطبوع أضيفت إليه كلمات ومداد لطّخ صفحاته البيضاء ولم يأتِ بجديد.

ونحن مع الذين ينتقدون الرسائل التي يقدمها الطلاب للحصول على الماجستير والدكتوراه في الجامعات اللبنانية وغيرها لأن أكثرها يعالج موضوعات لا تقدّم جديداً لإصلاح المجتمعات. ونرى ان السبب لا يعود الى الطالب وحده، بل الى إدارات الجامعات التي تفرض على الطلاب منهاجاً محدداً مُعدّاً سلفاً ومقرر لغايات بعيدة عن الغاية الظاهرة من الأبحاث بحد ذاتها فتستقرّ أبحاثهم في أدراج بعض السفارات ودوائر المخابرات. بينما نرى الغربيين يهتمون بالتراث الإسلامي في مختلف فنونه، فيغوصون في دراسة مخطوطاته التي تبلغ عشرات الألوف فلا يهملون صغيرة ولا كبيرة.
قد يقال أن ثمة مخطوطات لا تقدّم جديداً لإصلاح المجتمعات؟ ولكن ما هو معيار الفصل بين مخطوطة وأخرى؟ أفي عنوانها أو في موضوعها؟ فلا توجد في التراث مؤلفات يمكن وصفها بكتب قديمة أو مواضيع تراثية مرّ عليها الزمن أو دراسات وضعت على الرف، ففي كل مخطوط حتى ولو كان مؤلفاً من بضع وريقات، بحاجة لعالم أو باحث أو داعية مبدع يستطيع إستخراج ما فيه من لؤلؤ مكنون فما بالك بالكنوز المنتشرة في كتب التراث التي وصفت بالصفراء (لأنها طبعت على ورق أصفر) والتي تتناثر في الحواشي والشروح والمتون.
فبالعمل على تلك الكتب الصفراء أدرك العلماء أن الشريعة هي قواعد دينية وأحكام اجتماعية تشمل كل الأنظمة التي تشملها القوانين الوضعية ولكن بفارق وحيد هو أن القوانين الوضعية مرتبة ومبوبة خلافاً للأحكام الشرعية المبعثرة في كتب متعددة وغير مرتبة.
لقد تمكّن المبدعون من خلال إعمال الفكر في دراسات القرآن والسنّة وفي كتب التراث الفقهي من استخراج ما فيها من إعجاز ونظريات يقال عنها اليوم أنها عصرية والنماذج في ذلك كثيرة منها:
1) قانون الكاتب العدل: استوحى محمد مصباح محرم البيروتي من القرآن الكريم لفظة الكاتب العدل (بدل محرر مقاولات) فوضع القانون الخاص بذلك.
(2) مصطلح التاريخ: احتفلت الحكومة السورية سنة 1936م بمرور ألف سنة على وفاة المتنبي وكان الدكتور أسد رستم أستاذ التاريخ ثم رئيس الدائرة في الجامعة الأميركية من جملة الوافدين الى دمشق للاحتفال بذكرى الشاعر فزار المكتبة الظاهرية ووقعت في يده وريقات من نسخة قديمة من رسالة القاضي عياض في علم «مصطلح الحديث» كتبت سنة 595هـ فاستنسخها ودرسها فوجدها من أنفس ما صنف في موضوعها وان صاحبها سما بها الى أعلى درجات العلم والتدقيق في عصره. ووجد أن ما جاء فيها تحت عنوان تحرّي الرواية والمجيء باللفظ يضاهي ما ورد في الموضوع نفسه فيما كتب في أوروبة وأميركا. وطبق الدكتور رستم ما ورد في رسالة القاضي عياض من قواعد علمية كالعلوم الموصلة الى نقد الأصول وتفسير النصوص والعدالة... طبقه على دراسة التأريخ وكتابته ووضع نظرية سمّاها «مصطلح التاريخ».
3) كدك أو كادك أو جدك أحد التصرفات التي ترد على الأوقاف. والجدك هو نوع من الإجارات الطويلة يطلق على ما هو ثابت في عقارات الوقف لا ينقل كالبناء يبنيه المستأجر من ماله لنفسه بإذن المتولي، ويطلق أيضاً على ما يضعه المستأجر فيها من أدوات ولوازم مما تستلزمه الحرفة أو الصنعة التي يزاولها في العقار الموقوف، كالرفوف والكؤوس والفناجين وغيرها مما يستعمل في المقاهي، وما يضعه مستأجر الحمام من مساطب وسلاسل ومواقد. وأصله أن صاحب الحرفة أو المهنة يستأجر عقار الوقف لمدة معينة ليستعمله لصنعته.
وعندما تنتهي مدة إجارته يجدّد له المتولي الإجارة تفادياً من الضرر الذي قد يلحق بالعقار من قلع تلك الأشياء أو نقلها فيبقى العقار بيد مستأجره صاحب هذه الأشياء المسماة «كدكاً» ويؤدي ذلك الى إدّعائه بحق إبقائها في العقار، وأصبحت تنتقل عنه الى غيره في حياته وتورث عنه بعد موته لورثته الشرعيين. مما اضطرت الحكومة العثمانية الى وضع نظام خاص للكدك بتاريخ 8 ذي الحجة 1277هـ منعت فيه الكدك بعد هذا التاريخ وأبطلت ما أحدث بعد سنة 1247هـ منه.
يذكر أن والي صيدا سليمان باشا وجد سنة 1808م أن العقارات التي صادرها الجزار أصبحت خربة فتعهد للدولة بدفع بدلها، وبعد المذاكرة بشأنها قرّ الرأي بأن تعطى المحلات الى السكان على سبيل الكادك بشرط أن يدفع المستأجر أجرة السنة سلفاً وأن يقوم بترميم المحل على نفقته وبدون مقابل تحت طائلة إبطال كدكة، ولقاء ذلك يبقى المحل في يده ويد ذريته. وعرض هذا الحل على مفتي عكا الشيخ محمد أبو الهدى التاجي فأفتى بأنه مطابق لقواعد الشريعة الغرّاء، ورفع سليمان باشا الأمر الى الباب العالي فحسن هذا التصرف وصدر الأمر الملوكي بالإذن بإجرائه. وقد نشر الخوري قسطنطين الباشا في كتابه «تاريخ ولاية سليمان باشا» ص.328 نص سند كاديك مؤرخ في 25 ذي الحجة 1238هـ/ 1833م وموضوعه إجابة طلب رهبان طائفة الكاثوليك في صيدا بوضع يدهم على نصف الدار شركتهم التابعة لأملاك الميري في صيدا ودفعوا الى الخزينة ثلاثين قرشاً وتعهدوا بالشروط المذكورة سابقاً فصار تفويض كادك نصف الدار لهم وأذنوا بوضع يدهم ويد وارثهم من بعدهم عليها.
بقي هذا التصرف المسمّى كادكاً خاصاً بالعقارات الموقوفة الى ان قدر للأستاذين في معهد الحقوق الفرنسي شارل فابيا وبيار صفا أن يضعا مشروع قانون المؤسسة التجارية التــــــــــي لا تختلف في أحكامها عن شروط معاملة الكادك وقد أقرّ المشروع ونشر بموجب المرسوم رقم 11 تاريخ 7/6/1967 وهو ما سمح لمستأجري المحلات التجارية من التصرف بمؤسساتهم في حال حياتهم وبتوريثها بعد وفاتهم لورثتهم بمعزل عن إرادة المالكين.
4) الخلوات بتسع ورقات تحمل عنوان «مفيدة الحُسْنَى لدَفْعِ ظَنِّ الخلوِّ بالسكنى» كتبها الحسن بن عمار الشرنبلالي الحنفي (ت 1069هـ) حققها مشهور حسن سليمان. وأربع ورقات تحمل عنوان «رسالة في الخلوّات» كتبها أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي المالكي (المتوفى سنة 1101هـ) ورسالة بالموضوع نفسه من ثماني ورقات للشيخ أحمد الفرقاوي اليومي المالكي (المتوفى سنة 1101هـ) حققهما كمال يوسف الحوت. بحثت في موضوعات خلو الرجل كما يسميها المصريون وأهل الشام أو القفلية أو السرقفلية عند العراقيين أو الفروغية عند بعض أهل الشام أو نقل القدم أو خلو الرجل. فمن الكتاب من أجازها ومنهم من منعها. وحقيقة الخلو يعود لوجود أماكن في الوقف آيلة الى الخراب فيؤجرها ناظر الوقف لمن يعمّرها ويكون ما صرفه هذا الأخير خلواً له ولورثته من بعده، ولم يكن فيها نص صريح، إنما كان التعامل بها عرفاً. وانتهى الأمر الى النص على الخلو في كثير من القوانين الوضعية ولا سيما قوانين الإيجارات.
5) طب الأعشاب: نشرت مخطوطات كتب العلماء المسلمين التي تناولت خصائص الأعشاب والنباتات ومنافعها في علاج كثير من الأمراض وهي مرتبة على حروف المعجم بحسب الأحرف الأولى من الكلمة كترتيب المعاجم الحديثة، وأدّى هذا النشر الى حثّ الأطباء على العودة الى المعالجة بالنباتات وهو ما شاع اليوم وذاع وملأ الأسماع تحت عنوان «طب الأعشاب» وتمكّن المبدعون الاجزائيون (الصيادلة الذين يعملون في تركيب الأجزاء) ورثة العطارين القدامى، من إبتكار خليط من المستحضرات لكل حالة مرضية. وتبدو فائدة هذا الطب من المقارنة بين ما تنتجه مختبرات الغرب من أدوية إذا اطّلعت على نشرتها لملئت منها رعباً، ذلك أن فائدة الدواء ترد في سطرين أو ثلاثة بينما ترد محاذير الدواء وانعكاساته المحتملة في أكثر من عشرين سطراً. بينما طبيب الأعشاب يحضّر الدواء اللازم للمرض بذاته، فيسرّع في الشفاء وبعدما كانت ترد بعد ذكر العلاج لفظة «مجرّب» أصبحت الأدوية حالياً تعرض في رفوف الصيدليات وفقاً للأحرف الأبجدية بحيث يمكن لأي كان أن يسلّمها للمريض، ولا يهم بعد ذلك شفي أم لا.
(6) التعسف باستعمال الحق: انطلق الفقهاء من الحديث الشريف «لا ضرّ ولا ضرار» ليبحثوا في حدود تصرفات المالك بملكه ولا سيما في العلاقات بين المتجاورين وكثرت الفتاوى والآراء. وفرّق الفقهاء في ذلك بين الضرر المألوف وغير المألوف أو بين الضرر البيّن وغير البيّن. ومن جملة الرسائل رسالة من عدة صفحات كتبها مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر في شوال سنة 1258هـ/ بعنوان «دليل التيهان والحيران الى معرفة حكم الكشف المضرّ على الجيران» (نشرناها في كتابنا «حقوق الجوار في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية») وقد كتبها تعليقاً على فتوى لمفتي بيروت الشيخ محمد الحلواني بحادثة فتح شباك مطل على دار السيد محمد البربير من قبل أحد جيرانه، وفتوى لمفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله بالحادثة المشار إليها. وقد تناول المفتي الأغر موضوع الضرر المترتب على كشف مقرّ حريم الجار وآراء الفقهاء بذلك وخلص الى إقرار حق الإنسان بالتصرف بملكه دون إلحاق ضرر بيّن بجاره. وهذا الضرر البيّن صيغ في القوانين الوضعية بلفظة الفاحش وصيغت نظريته بإسم إساءة استعمال الحق أو التعسف باستعماله. ونصّ عليه في قانون الموجبات والعقود اللبناني الذي وضع مشروعه السيد روبرس ثم أرسل الى الأستاذ جوسران، فعدّ هذا الأخير في طليعة ناشري النظرية المشار إليها.

* مؤرخ