بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 تشرين الأول 2023 12:00ص بيروتيّات (55).. اعمال التراث أَوْلى من إهمالـه (2/2)

كتاب «النظرية العامة للموجبات والعقود» كتاب «النظرية العامة للموجبات والعقود»
حجم الخط
عرفت الفنون الجميلة بالآداب السامية الرفيعة وتشمل الشعر والموسيقى والرسم والغناء. وقد درس الفنانون المسلمون الموسيقى وأدركوا أهميتها واثرها في النفوس فاستعملوها في المارستانات في علاج بعض الأمراض. ووضعوا قواعد لها أقدمها وردت في كتاب في النغم وعلل الأغاني بعنوان «الآداب الرفيعة» لعبيد الله بن عبد الله بن ظاهر (ت102هـ) وكتاب «زين الألحان في علم التآليف والأوزان» لمحمد بن عبد الحميد اللادقي (ت886هـ) أُهدي للسلطان العثماني بايزيد الثاني. ويقول بعض آل اللادقي البيارتة ان المؤلف المذكور هو أحد أجدادهم. وينسبون له وضعه للنوتات المعروفة اليوم أي (دو ري مي فا صو لا سي) عبارة «الدائرة المفصلة» وهذا الكتاب لا يزال مخطوطاً ولعل إصداره يكشف ما وصل إليه المسلمون في علم الموسيقى وما وضعوه من ألحان لكل ساعة من ساعات النهار، وللسرور وللحزن، ولما قبل النوم وما بعده الخ..
أدخل في روع طلاب المدارس أن العالم الإسلامي كان في عصر انحطاط لم يفق منه إلّا بعد الجهود التي قام بها المستشرقون والمبشّرون ولا يهدم هذا الوهم سوى نشر الموسوعات التي كتبت في ذلك العصر. منها «لسان العرب» لابن منظور (ت 711هـ) و«تاج العروس» لمحمد مرتضى الزبيدي و«النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» لابن تغري بردي (ت 874 هـ) و«صبح الأعشى في صناعة الإنشا» للقلقشندي (ت 821هـ) و«السلوك لمعرفة دول الملوك» للمقريزي البقاعي (ت 845هـ). ولا يزال طلاب الحقوق يرجعون الى موسوعات داللوز وسيراي في القانون والإجتهاد الفرنسيين وهي مفخرة للفكر الحقوقي، علماً بأن داللوز ينسب الى فيكتور داللوز (1795-1869م) وينسب سيراي الى جان باتيست سيراي (1762- 1845م).
ان إيمان الباحث محمد حامد الفقي بأهمية كتب التراث دفعه الى تحقيق كتاب «جواهر العقود ومعين القضاة والموقّعين والشهود» للعلّامة شمس الدين محمد بن أحمد المنهاجي الأسيوطي أحد علماء القرن التاسع الهجري (ولد سنة 813هـ/ 1410م) كانت منها نسخة في المكتبة الأزهرية لمالكها (الشيخ عمر المحمصاني البيروتي) وقد طبع الكتاب سنة 1955م على نفقة الشيخ محمد سرور الصبّان وزير المالية والاقتصاد والمواصلات في المملكة العربية السعودية سابقاً. وهو كتاب فقهي بديع الترتيب، جيد التأليف والتركيب، جمع الأحكام الفقهية والقواعد الأصولية في المسائل التي تضطرب فيها حياة الناس في الأسرة وخارجها وما يتعلق بها، وذكر كاتبه فيه نماذج من المسائل الخلافية والأحكام الصادرة فيها ونماذج لعقود الشراء والبيع والصلح والقرض والضمان والشركة والوكالة والعارية والشفعة والإجارة والوقف بحيث يعتبر مرجعاً للقضاة والمحامين والموقّعين والعامة ولا يقل أهمية في بابه عن موسوعات داللوز وسيراي.

الإبداع في الأعمال الفنية

نشأت الأعمال الفنية خدمة للشعائر الدينية فلا يمكن فصل الفن عن التقاليد الدينية، فليست القيمة المتفرّدة للعمل الفني مستقلة عن إيمان صاحبها قبل أن تشيع نظرية الفن للفن. وقد مهّدت نظرة الدين بالتعاطي مع الإنسان والطبيعة السبيل لازدهار فكري وإبداع ناتج عن علاقة تفاعلية بين الله والإنسان. فوجد الخطاط في الخط وسيلة من وسائل نشر الإسلام والتوحيد لما مثّله من قيم روحية: علّم بالقلم، إقرأ، والقلم وما يسطّرون، فامتدّ الخط الى المسجد وملأ المنابر والمحاريب والمآذن وامتد الى الأواني والقناديل ومختلف الأدوات المنزلية والألبسة الشخصية، ما خلق منافسة أوجدت تحفاً فنية خالدة، فالعبقرية تحفّز الإبداع والجمال يشجّع الإبتكار، فكم نتج عن الإحتفال بتذهيب مصحف من حافز لفنان لإنشاء أعمال فنية جميلة.
وكم دفع الإيمان الى اشتغال أفراد أسرة بكاملها من أصابع الكبار الى أنامل الصغار طيلة شهور في جزّ الخيوط وغزلها وتلوينها وإعداد اللحمة والسداة لصنع سجادة صلاة يركع عليها المصلّون ويسجدون معظّمين مسبّحين في مثلث يجمع بين المسجد والساجد والسجادة، ولا يقلل من ذلك تسمية بعض الفقهاء بشيخ السجادة لأن المهم ما يبتكره الفقيه مما لا يخفى على النبيه وآل الاهتمام بهذه السجادة الى اختراع سجادة صلاة بتقنية الفضاء تناسب كبار السنّ («اللواء الإسلامي» 2/10/2013).
عندما عرضت ذات يوم في لندن تحف من الفن الإسلامي من الخط والخزف والسجاد والاسطرلاب والقناديل، اتفق النقاد على أن أقوى رباط ثقافي يربط أبناء اليوم بأجداد الأمس هو الفن، فالإبداع الفني الذي صنعه مبدعوه في الماضي عاشه متذوّقوه في الحاضر فجمع اللقاء الفني بينهما. وتمثلت السمة البارزة التي جمعت الماضي بالحاضر في فن الكتابة أو الخط العربي أي الحرف والكلمة والعبارة التي نقشت هنا وحفرت هناك وزخرفت وذهّبت هنالك، فاكتسب الفن من قداسة الآيات القرآنية قداسة كانت أسّ ذلك الإبداع الذي عرف في الصين وإسبانيا ومصر والعراق وطهران والجزيرة وكذلك في سمرقند وطشقند وكافة بلاد السند والهند.
الفقه الإسلامي هو أصل الشفعة ومرجعها فالشريعة هي أصل نصوص الشفعة وأحكامها ورغم أن غالبية الدول العربية والإسلامية كانت الى عهد قريب تحت حكم الأنظمة الفرنسية والإنكليزية التي فرضت على الدول صيغها للقوانين، إلّا ان لفظة الشفعة ظلت هي المصطلح العربي الإسلامي في القوانين، فليس في اللغات الأجنبية مصطلحاً يقابل مصطلح الشفعة فهي في الفرنسية Premion وفي الإنكليزية Pre-emption التي تعني بالتحديد الإسترداد. ومن المتفق عليه أن الحروب الصليبية أدّت الى الإختلاط بين الغرب والشرق وكان هذا الأخير الأكثر مدنية، فمن المرجح أن يتأثر الغربيون بالمسلمين أكثر من تأثّر هؤلاء بأولئك. وقد حفلت كتب المذاهب الفقهية الأربعة والفتاوى بآلاف الآراء والاجتهادات في موضوع الشفعة. وكان مقدّراً للفقيه الدكتور عبد الرزاق السنهوري أن يقارن بين ما نظر به الفقهاء المسلمون ونظرة الغرب وأن يبيّن عبقرية النظرية الإسلامية التي ميّزت بين الرخصة في التملّك والحق في التملّك، فقال: «وما بين الرخصة والحق توجد منزلة وسطى هي أعلى من الرخصة وأدنى من الحق... فحق التملّك وحق الملك، الأول رخصة والثاني حق وما بينهما منزلة وسطى هي حق الشخص في أن يتملّك. فلو أن شخصاً رأى داراً أعجبته ورغب في شرائها، فهو قبل أن يصدر له إيجاب البائع كان له حق التملّك عامة في الدار وفي غيرها، فهذه رخصة، وبعد أن يصدر منه قبول بشراء الدار صارت له ملكية الدار وهذا حق، ولكنه قبل القبول وبعد الإيجاب في منزلة وسطى بين الرخصة والحق بالنسبة الى الدار. فهو بين بين، له أكثر من رخصة التملّك وأقل من حق الملك». ويضيف الدكتور السنهوري «لم يصل الفقه الغربي الى تبيّن هذه المنزلة الوسطى إلّا حيث ارتضى ووصل في الرقيّ الى مرحلة بعيدة، نرى ذلك في الفقه الجرماني الحديث ويدعو الفقيه فورثور Vorthur هذه المنزلة الوسطى بالحق المنشئ».
وامتازت اجتهادات فقهاء المسلمين بإقرار حوالة الدين التي أقرّتها القوانين الحديثة. وحوالة الدين هي حوالة المدين دينه الى مدين آخر يحل محله برضاء الدائن. وقد بيّن الدكتور صبحي محمصاني ذلك في كتابه «الموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية». وأقرّها قانون الموجبات والعقود اللبناني في المواد ( 287-289).
فمن المتفق عليه أن الديون والموجبات هي علاقات شخصية بين دائن ومدين ولم تكن حوالة الدين جائزة في القانون الروماني وكذلك في القانون الفرنسي، أما الشريعة الإسلامية فقد أجازت حوالة الدين لحاجة الناس مسامحة وإرفاقاً واستندت الى الحديث الشريف كما رواه الإمام أحمد «ومن أحيل عليّ مليء فليحتل». وقد أثبت المستشرقون أن السفتجة عرفت لدى الغرب في القرن الثاني عشر الميلادي عن طريق إيطاليا ابان الحروب الصليبية وعن طريق الأندلس العربية وليس أدلّ على ذلك من كلمة الحوالة نفسها التي تستعمل باللغة الفرنسية وغيرها بلفظ آفال Aval بمعنى تظهير السفتجة بتوقيع شخص ثالث على سبيل الكفالة. والحوالة شرعاً نقل الدين من ذمة الى ذمة أخرى «السفتجة تعريف كلمة سفته الفارسية وتسمّى اليوم سند السحب وصورتها أن يدفع أحد في بلده الى مسافر عرضاً ليدفعه الى صديقه أو وكيله في بلدة أخرى ليتفادى خطر الطريق ومن طريف ما ذكر أن أحد التجار خاف على أمه خطر الطريق بانتقالها الى بلد آخر فاقترح عليه صديقه أن يرسلها «سفتجة»...

الخلاصة:

قال تعالى {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله}، يقول الجاحظ «والكلمات في هذا الموضع ليس يريد بها القول والكلام المؤلف من الحروف وإنما يريد النعم والأعاجيب والصفات وما أشبه ذلك. فإن كلاً من هذه الفنون لو وقف عليه رجل رقيق اللسان صافي الذهن صحيح الفكر تامّ الإرادة، لما برح أن تحشره المعاني وتغمره الحِكم». فلكل من شاء أن يغترف من التراث ما شاء وكيفما شاء، لا ليحفظه في رأسه أو على رفوف بيته كقطعة مكملة للزينة، بل يغترف منه من أراد أن يلمس فيه إلهاماً يقدح به شرارة الإبداع ويوقد المشاعل، وهو بذلك يسحب من الرصيد الذي خلفه الآباء والأجداد ويحوّله الى ما ينفع الناس، فإحياء التراث إنما يكون بالتزام تقاليده لا بتقليده، والفقيه الذي يدرس ما قاله الفقهاء ليصوغ لنفسه فقهاً يلبّي حاجات المجتمع الذي يعيش فيه. فلنعد الى التراث الإسلامي ففيه من اللؤلؤ المكنون المتناثر في الحواشي والشروح والمتون ما لو قدّر لرجل رقيق اللسان صافي الذهن صحيح الفكر تام الإرادة أن يستخرج منه الدرّ لما فيه فائدة للمجتمع.

* مؤرخ