بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 تشرين الثاني 2023 12:00ص بيروتيّات (56).. آخر أثر للعمارة الأندلسية في بيروت

المبنى الأندلسي الباقي في بيروت بعدسة السيدة إنعام خالد المبنى الأندلسي الباقي في بيروت بعدسة السيدة إنعام خالد
حجم الخط
في 25 أيلول 1915 ألّفت السلطة العثمانية لجنة ثلاثية من: عمر الداعوق وأنطوان عرب وحسن القاضي، لوضع نماذج الدور المنوي بناؤها في شوارع بيروت نتيجة مشروع عزمي بك، ودفعت الخلفية العربية لأعضاء اللجنة الى تغليب التراث المعماري العربي والأندلسي على الأبنية التي بُنيت في شوارع فوش وويغان واللنبي والمعرض. ويعود الفضل الى مهندس البلدية يوسف أفتيموس الاختصاصي في العمارة المغربية الى تنفيذ توجهات اللجنة.
ولم تعترض سلطة الانتداب على هذا التوجه العربي للعمارة، كما شجعت المسرحيات المستمدّة من تاريخ العرب، ولعل السلطة أرادت بذلك صرف الشعب عن هواه العثماني الإسلامي.

ذكر ابن طولون الدمشقي في كتابه «مفاكهة الخلّان» أنه ورد إلى دمشق في شهر ذي الحجة سنة 897هـ/ أيلول 1492م، جماعات من بلاد المغرب من مقاتلة غرناطـــة، بعيالهم وأولادهم، لإستيلاء الفرنج على بلادهم.
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر استخدم المغاربة من قبل الولاة والحكام في بلاد الشام. فوجد منهم في دمشق (كما جاء في كتاب بريجيت مارينو «حي الميدان في العصر العثماني» الذي ترجمه ماهر شريف) سبع طوائف منتسبة إلى المناطق الجغرافية التي قدموا منها وهذه الجاليات هي: الفاسية والجزائرية والسوسية والتونسية والطرابلسية والدراوية والمراكشية. كما أن أحمد باشا الجزار قدم إلى بيروت وتولّاها سنة 1772م وقدم معه ستمائة مغربي انضموا إلى من كان فيها منهم. فقاموا بضبط الأسوار والحصون والأبراج والدفاع عنها. وقد أشارت الوثائق الدبلوماسية الفرنسية إلى هجرة آلاف الجزائريين منذ سنة 1881م إلى بلاد الشام.

 الأثر المغاربي في العمارة

من الطبيعي مع تكاثر المغاربة في المشرق عامة وفي بيروت خاصة سواء للمرابطة والجهاد والدفاع، أم كمحطة لأداء فريضة الحج أو تلقّي العلم، من الطبيعي أن يترك المغاربة أثرهم في العمارة. ولا سيما ان عدداً كبيراً من المغاربة كان سنة 823هـ/ 1420م يعمل في العمارة بدمشق.
وتجلّى هذا الأثر في بيروت بشكل جليّ في أثرين يعودان الى القرن الرابع عشر الميلادي: وهما مئذنة جامع الدباغة ومئذنة جامع البدوي فوق سطحهما قبة صغيرة. وكل واحدة مربعة البناء ولا تتضمن المئذنة الشرفة أو الجوسق الذي يقف فيه المؤذن بل تتضمن نوافذ صغيرة مما يرجح كون هذه المئذنة كانت تتخذ أيضاً كمنارة يتم من خلالها مراقبة الساحل وكشف أية تحركات باتجاه المدينة. وطراز هاتين المئذنتين كان شائعاً في عمارة المآذن في المغرب، وهو يختلف عن المآذن الشامية المربعة التي تحتوي على شرفة لوقوف المؤذن، علماً بأن مئذنة الجامع العمري الكبير المربعة في بيروت تشبه المآذن الشامية وقد بنيت سنة 1508م أي بعد مئذنتي الدباغة والبدوي بأكثر من مئة سنة.
وقد نشر تيتوس بوركهاردت في كتابه عن فن الإسلام صورة عامة لمدينة فاس مأخوذة من مدافن المرينيين تظهر مئذنة مربعة لجامع فاس مشابهة تماماً لمئذنتي جامعي الدباغة والبدوي.

عقد حدوة الفرس

وأهم تلك المؤثرات المغربية هي العقود نصف الدائرية من نوع حدوة الفرس Round Horse - Shoe وهذا العقد سائد في عمارة الأندلس والمغرب.
وكنا صغاراً عندما نسأل والدينا عن الحدوة المعلقة فوق باب مدخل الدار العليا يقال لنا إنها تكريم للفرسان العرب الذين بسيوفهم وبحدوات خيولهم عبروا البحر الى الأندلس. وعقد حدوة الفرس وجد له أثر قديم في الجامع الأموي بدمشق، إلّا أنه لم ينتشر في الشرق الإسلامي مثلما انتشر في الغرب الإسلامي وأصبح من أهم مميزات العناصر المعمارية هناك.

مئذنة جامع الدركاه

ومما يؤسف له أن الصورة الوحيدة للمئذنة يعود الفضل فيها الى أحد الرحّالة الأجانب ولو كان للمسؤولين في حينه عن المساجد رؤيا لأهمية التراث المعماري الديني لكانوا احتفظوا بالمقصورة العليا للمئذنة والهلال المرفوع أعلاها ووضعوها في متحف للعاديات مع لوحات الزوايا والمساجد التي تم هدمها أو لكانوا على الأقل وثّقوها بالصور والشروحات زمن وجود عدد من المعمّرين الذين تناقلوا أخبار تلك العاديات عن آبائهم وأجدادهم؟
وتتميّز مئذنة جامع الدركاه بأن الشرفة التي يقف عليها المؤذن كانت مختلفة عن الشرفات التقليدية فقد ضمّت الشرفة نافذتين (من كل جهة) تعلو كل نافذة منهما قنطرة على شكل حدوة الفرس (في حين كانت نوافذ مئذنة جامعي البدوي والدباغة عادية). ويعلو القناطر غطاء مخروطي يعلوه هلال. ومن المعروف أن القناطر بشكل حدوة فرس شاعت في أبنية المغرب العربي والأندلس. وتبدو هذه المئذنة بشرفتها ونوافذها تقليداً لأبراج المغرب والأندلس ولقصورهما. ولولا أن أحد المصورين الفنانين الأجانب أعجبته جمالية مئذنة الزاوية العمرية (الدركاه) فأنتج بطاقة بريدية لما عرفنا موقع الزاوية ولا جمال مئذنتها.
أما تحديد تاريخ إنشاء الزاوية فاستناداً إلى أن بناء السبيل لمصالح الزاوية تم أيام سلطنة السلطان سليم خان أي سليم الأول الذي تسلطن سنة 918هـ وفتح بلاد الشام وبيروت سنة 923هـ/ 1517م وتوفي سنة 926هـ. فالإشارة إليه في لوحة السبيل تبرر القول بأن الزاوية العمرية أنشئت بين سنتي 918 و926هـ. وقد صمدت مئذنة جامع الدركاه الخشبية منذ إنشائها سنة 1539م حوالي أربعمائة سنة عندما أزيلت مع باب الدركاه في عشرينات القرن الماضي. وإذا كانت ملاحظة أوليا شلبي بأن جامعاً خشبياً أنشئ عند باب القلعة، فمن المرجح أن زاوية أو جامع الدركاه الذي أنشئ عند باب الدركاه كان أيضاً من الخشب، ويرجح أن بقاء المئذنة الخشبية يؤشر الى أن الجامع كان كله مبنياً من الخشب وأن ترميماً أجري فيه كان من نتيجته أن استعمل الحجر الرملي في إعادة بناء الجامع وجرى تدعيمه بسور المدينة عند الباب وأبقيت المئذنة الخشبية لجمالها ولعدم تعرّضها للتلف.

أعمال مهندس بلدية بيروت يوسف أفتيموس

يذكر ان المهندس أفتيموس هو الذي أشرف على بناء السبيل الحميدي في ساحة عصور وعلى بناء الساعة العربية التي أقيمت سنة 1898م في ساحة القشلة بمناسبة جلوس السلطان عبد الحميد، وقد تضمن برج الساعة زخرفات ومقرنصات عربية مشهورة. وكان من الطبيعي أن تظهر الهوية العربية للأبنية الجديدة التي أنشئت بعد سنة 1915م عندما هدّمت الأبنية القديمة. وظهر الأثر المغاربي في عدة أبنية رسمية وخاصة منها مبنى بلدية بيروت الذي بُني على الطراز الموريسكي أنشأه المهندس أفتيموس سنة 1928م. وعقد مدخل المبنى الداخلي بشكل حدوة الفرس. وقد نقش فوق عقد الباب الخارجي بيت الشعر:
إن آثارنا تدلّ علينا
فانظروا بعدنا الى الآثار
وهذا الشعر هو على لسان أحد التبابعة أي مما نظمه عرب الجنوب للفخر بقومهم وهو آخر بيت (من القصيدة) وهو شائع جداً في أفواه الناس سائر مسير المثل.
وفي سنة 1930م أنشأ المهندس افتيموس سبيلاً في محلة باب إدريس على الطراز الأندلسي أُزيل فيما بعد للأسف.
يقول أنطونيو هورتز أن عدداً من الموريسكيين (مسلمي الأندلس) اتجه منذ سنة 1609م الى القاهرة وسالونيك كما وجد عدد منهم «في الأرض التي تكوّن الجمهورية اللبنانية».
وبنى المهندس أفتيموس سنة 1929م مبنى التياترو الكبير بقنطرة كبيرة في مدخله بطراز حدوة الفرس وقناطر صغيرة مماثلة في الحائط الغربي للمبنى.
وبعد هدم الأبنية القديمة في بيروت سنة 1915م تم أنشاء المدخل الغربي للجامع العمري الكبير بقنطرة حدوة الفرس أيضاً.
واستوحى المهندسون البيارتة العمارة الإسلامية المورسكية عندما زخرفوا نادي عزمي بك. كما أن المدخل الأساسي (الجنوبي) للجامعة الأميركية في بيروت مستوحى من الطراز العربي الإسلامي. يذكر أن قصر سرسق (متحف سرسق حالياً) الذي بُني سنة 1913م جمع بين الفنين البيزنطي والإسلامي وعقود حدوة الفرس. ومما عثرت عليه في بيروت من الأبنية التي تحتوي على عقود حدوة الفرس بيت المؤرخ الراحل محمد جميل بيهم في محلة المصيطبة، وبيت نقيب المهندسين الأسبق المرحوم عاصم سلام.
إلّا ان مبنى بيهم الكائن في محلة حوض الولاية (الباشورة) يتميز بالعقود والزخرفة الأندلسية التي تعلو المدخل والأبواب والنوافذ (الصورة المرفقة الخاصة به هي بعدسة السيدة انعام خالد). ويظهر الطراز الأندلسي كذلك في بيت بُني في محلة فرن الشباك سنة 1900م ذكره جورج دباس. ويذكر روبير صليبا واجهات في بعض البيوت معقودة بعقود حدوة الفرس كطراز فرنسي - مغربي مشترك.

مؤثرات مغاربية في التراث الشعبي البيروتي

قد تتهدّم الزوايا والمآذن، وقد تغيب الآثار المعمارية، ولكن المأثورات الشعبية تبقى راسخة لدى العامة تنتقل من الجدود ولا سيما الجدّات الى الأبناء والأحفــاد وتبقى رواسب هذه المأثورات في اللهجة والأطعمة والأمثال والحكايات والتقاليد والعادات والمعتقدات ومشجرات الأنساب: اعتمد الناس في حفظ أنسابهم على الرواية والشهرة والسماع والتواتر. ثم دوّنوا سلاسل النسب على هيئة شجرة. وجرت العادة على حمل هذه الوثائق في الحل والترحال واعتبارها وثيقة إثبات الشخصية وكأنها حلّت محل جواز السفر. وكانت للمغاربة في بيروت القديمة مقبرة تُعرف بمقبرة المغاربة.
والعائلات السبع: تسود في بيروت عبارة «العائلات السبع» وتقدير العدد سبعة معروف لدى الساميين. وتشتهر في المغرب عبارة «سبعة رجال» وفيه اعتقاد كبير بالأولياء السبعة. ويتناقلون أن قبيلة مصمودة كانت تعتقد بالتوحيد ولا تمارس عبادة الأصنام وبنبوة عيسى وبتبشيره بنبي يأتي بعده، فعندما بعث محمد نبياً غادر سبعة منهم المغرب وتوجهوا الى مكة المكرمة وذهبوا الى المسجد وتعرّفوا على النبي وآمنوا بدعوته فأرسل النبي معهم رسالة تدعو أهالي المغرب الى الإسلام وهكذا عمّ الإسلام المغرب، وقد اعتبروا رسل الإسلام فيه، وعدّوا من الصحابة. وأقيم مزار للرجال السبعة في رقراقة. وبالمقابل أقيم في مدينة مراكش مزار «لسبعة رجال» كرّس زيارتهم الشيخ اليوسي عندما انتقل من فاس الى مراكش سنة 1100هـ ونظم قصيدة عينية بأسمائهم مطلعها: بمراكش لاحت نجوم طوالع جبال رواسيٍ بل سيوف قواطع.
والأمثال والكنايات: ذكر ابن عاصم الاندلسي الأمثال التي كانت سائرة في الأندلس ويتبيّن منها شبه كبير بينها وبين الأمثال السائرة في بيروت. ومما يلفت النظر الشبه الكبير بين المغاربيين والبيارتة في الحكايا الشعبية ولا سيما ما يعرف منها Randonné وهي أحدوثة صغيرة تدل على اتصال الحرف بعضها ببعض كالقول بأن الفأس عند النجار، وهو يريد بيضة، والبيضة عند الدجاجة والدجاجة تريد قمحة الخ... وهي معروفة بألفاظ متقاربة في أكثر البلاد العربية وكذلك في تونس والجزائر. واعتبر المغرب بلد المنجمين وشاع ما عرف بالمنجم المغربي وعرفت بيروت عدداً منهم اشتهروا بفتح المندل.
وكثرت المسرحيات المستمدة من تاريخ العرب كمسرحيات: هارون الرشيد والمعتمد بن عباد وولّادة بنت المستكفي مع الوزير ابن زيدون وكشف الظنون فيما جرى بين الأمين والمأمون الخ.. وقد تنامى هذا الشعور وقوي مع ظهور جمعية العربية الفتاة سنة 1909م ثم تأليف جمعية الإصلاح العام لولاية بيروت والتضييق على الوطنيين وشنق بعضهم، وقد تمثل هذا الشعور بإصرار البيارتة على الحفاظ على المؤثرات العربية المغربية الأندلسية في الأبنية الرسمية وفي الدور الخاصة التي أنشاؤها قبل أو أثناء الانتداب الفرنسي، وكثرت زوايا المغاربة كزوايا بني زنتوت والبدوي والخلع وتكية الشاذلية اليشرطية. ويقول الشيخ عبد الله العلايلي بان أصل الجذر المنتهي بواو بربري وأن العرب زادوا عليه النون فخلدو وزيدو ونزهو وحمدو وعبدو صارت خلدون وزيدون ونزهون وحمدون وعبدون الخ..

* مؤرخ