بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 تشرين الثاني 2023 12:00ص بيروتيّات (57).. سفـينـة بيـروت وربـابنتهـا وركّـابهــا

حجم الخط
نشر الصديق الشيخ بهاء الديـــــن ســـــــــلام في 4/4/2014 رسالة داعيا سفينة الإصلاح في بيروت بالسير، واضعاً الإصبع على الداء بقوله «المشكلة حتماً ليست في السفينة وإنما في طمع ركّابها الذين أغلبهم ليسوا مؤهّلين ولكن مع ذلك كلهم يريدون القيادة وكلهم يريدون السيطرة وكلهم كذلك يبغون الجلوس على كرسي الرّبان...» في غياب رؤية مستقبلية وخطة مدروسة وبرنامج واضح. وقد عبّر فيها عما يجيّش في صدورنا من إحباط وقلق وأقول ان المعري يسلّم عليك ويقول معبّراً عما في فؤادك:
ولو اني حييت الخلد فرداً
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي
سحائب، ليس تنتظم البلادا

لقد أراد يونس عليه السلام يوماً أن ينأى بنفسه - النأي لا زمن له - عن عبء إصلاح عيوب مجتمعه، ففرّ الى شاطئ البحر واستقلّ سفينة انقلبت بمن فيها والتقمه الحوت محققاً له أقصى درجات العزلة، ولما ألقاه الحوت على الشاطئ وأنبتت عليه شجرة من يقطين حتى أدرك أن الإصلاح لا يتمّ بالإنزواء.
يشهد المجتمع صنفين من الناس: صائتون يملأون الدنيا صراخاً يصمّ الآذان، وصامتون عاملون لا يسمع لهم صوت. وقد كبرت الفجوة واتسعت بين القول والعمل وأسوأ المجتمعات التي يكثر فيها الصائتون ويقلّ أو يندر الصامتون. يذكر ان الفيلسوف الإنكليزي دافيد هيوم عندما أشار الى التعاقد الاجتماعي فشبّه ذلك بالسفينة وركابها وربّانها. وقال ان الركاب ركبوا السفينة بإرادتهم ولكنهم ملزمين عندما تصبح السفينة في عرض البحر بما يقرره الربان ومساعدوه لتسييرها الى هدفها. وكيف يمكن للسفينة أن تصل الى هذا الهدف إذا كان الركاب كلهم يريدون أن يكونوا ربابنة؟! فإذا تأمّلنا سفينة بيروت وجدنا ان ركابها لا يجمعهم هدف واحد وهم لا يعرفون أصلاً هدفاً يتجهون إليه، وأهدافهم متناقضة ووسائلهم مختلفة المعايير. وغالبهم يتطلع الى الجلوس على الكرسي، ولو كانت الكرسي من أقراص الصبّار، وأن يقعد الآخرون أرضاً. ومن يجلس منهم على كرسي يعزّ عليه أن يتركها، ويوجد من حوله من يدبّج له الذرائع والمدائح، فيرى نفسه أكبر من دهره ودهره أصغر من عقله. وهم كمن أصيب بمرض موروث كامن في الجسم يتربص غفلة أو علّة أو تهاون فيظهر ويستشري، وقد ابتدعوا أساليب كالتي ابتدعها أحد الثعالب الذي زعموا انه واثب عنقوداً مراراً فلم يصل إليه فلما أعجزه قال: هذا العنقود حامض لا يؤكل، وانصرف. وإذا كانت أمراض العقول كثيرة كأمراض الأبدان إلّا ان أمراض القلوب هي التي لا حيلة فيها. ان كثيرين ممن يدّعون العلم والمعرفة لا يصيبون منه إلّا كما يأخذ الاسفنج من الماء ينتفخ منه ثم لا يلبث أن يمجّه ولا يثبت فيه شيء ولهم قوة على تنويم ابليس تنويماً مغناطيسياً وتلقّي آراءه، وكل واحد منهم يزعم أنه الورد حتى لم يعد للورد معنىً.

وراثة الكرسي

وقد شهدنا بعض من تبوأ في غفلة من الزمن موقعاً فظن أنه ورثه عن أبيه أو أخيــه لا ينازعه أحد فيه، ومثل هذا البعض كتلك السمكة الصغيرة التي جرى بها السيل الى مجرى النهر فقالت في نفسها إنه ميراث أبي، فلما فاض النهر وأخذها التيار الى البحر، قالت هذا لا شك ميراث عمي، وثم عندما وصلت الى المحيط اعتبرته ميراث أجدادها، وعندما رأت زورقاً يتمايل على صفحة الماء أسرعت نحوه وقد انتفخت أوداجها غضباً لأنه اعتدى على ملكها وأدركت أخيراً أنها لا تملك شيئاً وان الصنارة كانت تجذبها الى حتفها. ومن لم يجد كرسيا في الصف استعار من كراسي الكوش؟؟؟؟

يتصدّرون الاجتماعات ويحرصون على الصور التذكارية والتشدّق بالسيكار

ونقل البربير ان ابن قاضي شهب ذكر في كتابه «الكواكب الدرّية في السيرة النورية» ان الملك نور الدين الشهيد كان يباشر الحرب بنفسه، فرآه يوماً قطب الدين النيسابوري الشافعي فقال له: يا مولانا السلطان، لا تخاطر بنفسك وبالمسلمين، فإنك عمادهم، فإن أصبت في معركة لا يبقى من يقوم مقامك ولا يبقى من المسلمين أحد إلّا أخذه السيف. فقال له: اسكت يا قطب الدين، فإن قولك هذا إساءة أدب على الله، ومن محمود حتى يقال له هذا فقبلي من حفظ العباد والبلاد، ذلك الله الذي لا إله إلّا هو.

مقلقات الضمير ومؤتمرات الفنادق

ترد في القانون مواد للمحلات المقلقة للراحة، وقد غدت الحاجة ملحّة الى مواد خاصة بإقلاق الضمير. أما الخطب الرنّانة والجمل الطنّانة التي نسمعها صباح مساء والداعية الى التعاون ونكران الذات والاعتماد على الكفاءة والتجلّي بفضائل الأعمال ونسيان فضائل الأموال، فما هي إلّا من قبيل التزيّن كتجمّل تلك المرأة السوداء التي سخر منها القدر حين ولدت فسمّاها أهلها دنانير ثم سخر منها حين كبرت فتزوجها أعشى سليم (الشاعر) ثم سخر منها ثالثة حين تجمّلت وتكحّلت فقال الأعشى:
كأنها والكحل في مِرودها
تكحل عينيها ببعض جلدها
وحالنا مع العلماء الصالحين كحال القاضي عبد الوهاب المالكي الفقيه المتوفى سنة 422هـ وصاحب الخبر المستفيض لما خرج من بغداد وخرج أهلها لوداعه وهم يبكون ويولولون وهو يقول: والله يا أهل بغداد لو وجدت عندكم رغيفاً كل يوم لما فارقتكم. أما السيوطي الذي اعتزل في بيته فقد عانى من عصرييه (يقال عصريه لا معاصريه) فقد عهد الخليفة المتوكل على الله عبد العزيز للسيوطي بوظيفة القاضي الكبير على سائر القضاة فشق ذلك على القضاة وأنكروا حق الخليفة بذلك مع وجود السلطان فاضطر الخليفة للرجوع عن قراره وبعث استردّ العهد الذي كتبه للشيخ السيوطي وكادت أن تكون فتنة كبيرة بسبب ذلك كما ذكر ابن إياس السيوطي سبق له أن أفتى بأنه لا يجوز البناء في شطوط الأنهار الجارية.

غياب الرقابة والمحاسبة والشفافية

وقد شهدت بيروت في تاريخها الحديث علماء عانوا مثل ما عاناه السيوطي. فها هو القاضي الشيخ أحمد البربير الذي أرغم على تولي القضاء وهو كاره له لم يلبث برهة فيه حتى أصرّ على تركه بعدما رأى من فساد الخاصة وجهل العامة ولم يرَ عجباً في ذلك، فعلى حد قوله «في كل زمان تتناقص العقول كما تتناقص الأبدان ووجد أن عرج الحمير تسابقت في حلبة الشعر وميدانه، ونحتوا بيوتاً يفتخرون بها على كسرى وإيوانه وسيف بن ذي يزن وغمدانه وان الزكام استولى على ممدوحيهم فلما يشمّوا تلك الروائح القذرة».
وعندما رحل البربير في طلب العلم وجاء بيروت سنــــــــــة 1769م قال:
لقد غرّني ابليس قومي بقوله
تغرب عن الأوطان في طلب المجدِ
كما غرّ ابليس الشياطين آدماً
وأخرجه بالمكر من جنة الخلد
وعندما ولي القضاء ووجد أن قلّة من الناس ترتضي بحكم القضـــاء فقال:
قد عدلنا وما عدلنا لغيّ
وحكمنا بأمر رب السماء
فشكا الناس من حكمنا ولعمري
قلّ من يرتضي بحكم القضاء
كما شكا مفتي بيروت عبد اللطيف فتح الله من افتقادها الى العلم والعلماء فقال: 
فيم الإقامة بالإفتاء يحبسني
بغير نفع ولا علم ولا عملِ
لا سفر أنظره، لا درس أقرؤه
لا شيخ أسمعه لا بحث يذكر لي
أما المفتي أحمد الأغر وقد نفي مرة الى دمشق ومرة الى طرابلس وثالثة الى اللاذقية وعانى ممن يظهر له الودّ ثم يطعنه في الظهر وسمّاه بذي الوجهين وقال فيه:
فإيّاك ذا الوجهين خلّي ولا تكن
له بالمجاور يبتليك بدائهِ
فأنت كصافي الماء وهو كظرفه
يري الماء إذ يصفو بلون إنائه
وقد وجد أن الجاهلين ادّعوا العلم وما عرفوا منه إلّا تكبير العمامة والكمّ فقال:
وكم مدّعٍ للعلم من فرط جهله
ولم يدرِ ما جهل ولم يدرِ ما علمُ
فليس له من علمه غير جهله
وليس له إلّا العمامة والكمّ
وأمراض النفس كثيرة منها حبّ الصيت والشهرة ومنها الغرور والاستطالة والتعنّت، وصاحبها يعتمد على ضعف الناس وغفلتهم وما هو وأمثاله إلّا كالثعابين تخيف الناس بالوهم وان لم تلدغ ولولا ذلك للعب الصبيان بها واتخذوها حبالاً. وتراه يسفّه كل من لا يجهل جهله ولا يمدح فعله ولا ينعب نعيبه، فهو كالغراب الذي زعم أنه فقيه وكاتب وعالم فلما سألوه في الفقه، قال: غاق. فسألوه في الكتابة، قال: غيق. فسألوه في العلم، قال: غوق. فقالوا له: لسنا معك إلّا في غاق وغيق وغوق، فأين الفقه والكتابة والعلم؟. ووجد ان المفسد أصبح سيداً في المجتمع فقال فيه:
ذا زمان لم يسد فيه سوى
ذي فساد وعناد وهوى
شقة الأكدار فيه انتشرت
وبساط البسط باللّف انطوى
قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: فساد العامة من فساد الخاصة والخاصة على أربعة أقسام: 1) العلماء وهم الداعون الى الله والادلاء عليه. 2) الزهّاد والنسّاك وطريقهم هو الموصل الى معرفة الله وآداب الدين. 3) التجار وهم أمناء الله على الأموال. 4) الملوك وهم رعاة دين الله. فإذا كل العالم طامعا وللمال جامعا فبمن يُقتدى؟! وإذا كان الزاهد الناسك راغبا فبمن يقتدى؟ وإذا كان الملك جائرا فلمن يلتجئ؟ فوالله ما أهلك الرعية إلّا العلماء الطامعون والزهّاد الراغبون والتجار الخائنون والملوك الجائرون.
ففي كل عصر يوجد من يظهر الأمانة ويبطن الخيانة فإذا اعترض البعض على أقواله قال آخرون ان للتأويل أبواباً وللقول وجوه ومعانٍ فإن لم يكن فيه إلّا جزء واحد صادق وكان فيه تسعة وتسعون من الباطل وجب حمله على الصدق، وكان أن غرّه ذلك منهم وظنّه ضعفاً فأقنع نفسه بأنه فوق الناس وانه الرئيس وهم التابعون فصرف نفسه فيما تميل إليه نفسه وحذّر غيره من مخالفته. لقد أوغلت فيه النرجسية حتى كره أن يشار له الى عيب فيه فصمّ أذنيه عن حديث أبناء جلدته حين تحدثوا إليه عن الفجوة التي تفصل عنده بين القول والعمل وهو المقت الكبير عند الله. فجوة تنزل بالمجتمع ضرراً بيّناً على حد قول الفقهاء وفاحشاً على حد تعبير رجال القانون، ومما يؤسف له أن هذه الفجوة نشهدها لدى الكثيرين ممن يتصدّرون الإرشاد من الذين بضاعتهم الرائجة هي الكلام صبحاً ومساء وما بينهما، كــــــلام لا يطعم جائعاً ولا يلبس عرياناً ولا يشفي مريضاً، وويل للمجتمع إذا كثر فيه من يكسب مناصبه بالكلام وقلّ من يعمل عملاً منتجاً كالفلاح والخباز والطبيب والمهندس والعامل والمدرّس.

* مؤرخ