بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 تشرين الثاني 2023 12:00ص بيروتيّات (58).. وفاء البيارتة للقاضي عبـد الله جمال الدين (نائب قاضي عسكر الأناضول في بيروت) (1/7)

كتاب «مجالي الإسلام» كتاب «مجالي الإسلام»
حجم الخط
أهدى إليّ الصديق الأستاذ محمد عبد الله الشعار، صاحب المكتبة الكتانية، صورة العريضة التي قدّمها أهل بيروت، مسلمين ومسيحيين، بتاريخ 21 رجب 1301هـ/1883م الى القاضي عبد الله جمال الدين (نائب قاضي عسكر الأناضول في بيروت) ذاكرين فضله في جعل بيروت شامة في وجه بلاد الشام وفي انتظام مدارسها ولا سيما المدرسة السلطانية. وقد حملت العريضة بعشرات التواقيع من علماء المدينة ووجهائها وشيوخها وتجارها.
ولما كنت من المعجبين بسيرة القاضي المذكور ولا سيما إسهامه بتأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية وتولّي رئاستها (بعد حلّها) تحت عباءة شعبة المعارف الأهلية فقد عمدت الى نشر العريضة والتعليق عليها بما يلزم.

القضاء في الإسلام

إن القضاء أعلى مقام استطاع البشر الإرتقاء إليه، وارفعوا القضاء إن شئتم في تاريخ الناس، تروه انحدر الى درك البهائم، حيث يأكل القوي الضعيف، ويظلم الكبير الصغير، ويطغى الغني على الفقير، ولكن القضاء يحقق معنى الإنسانية في الحياة، حيث لا يطغى فيها أحد على أحد وتُصان فيها الحيوات والحريات، وتحفظ الدماء والأعراض، ويتحقق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد ولا يكون ذلك كله إلّا بالقضاء. ثم إن القضاء عند المسلمين أقوى وجوه الإيمان، لأنه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السماوات والأرضين، وصف الله به نفسه إذ قال {فالله يحكم بينهم} (البقرة 113) و{ان ربك يقضي بينهم} (يونس 93).
والقضاء أول ما تفخر به الأمة إذا عدّت أمجادها ومفاخرها، وإذا أردنا الاستدلال بفرد واحد على أخلاق أمة وطبائعها، لم يكن غير القاضي العالم العادل أدلّ على مكارم شعبه ونبل أهله. وإذا كان بين شعوب الأرض اليوم من يفخر باستقلال قضائه واستعلائه على ظلمة الفاسدين المفسدين، فإن تاريخ القضاء الشرعي في بيروت مفخرة لأهل بيروت لما كان فيه من الاستقلال والترفّع والنزاهة والعلم.
كان القاضي قبل الإسلام حكماً. وكان لكل قبيلة حكم يفصل فيما يعرض عليه من منازعات. ذكر من هؤلاء الحكّام: قس بن ساعدة الإيادي وأكثم بن صيفي التميمي وعمر بن الخطاب العدوي وعامر بن الظرب والحاجب بن زرارة، وتذكر أخبار عديدة تولّي شيخ القبيلة دور الحكم بين أفراد قبيلته استناداً الى الأعراف والتجارب والفراسة والإستدلال. وأشهر محكمة في الجاهلية منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن الأحوص على أي أحق بالرئاسة وكان الأعشى حكماً بينهما، قال في قصيدة طويلة:
حكّمتوه فقضى بينكم
أبلج مثل القمر الباهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه
ولا يبالي غبن الخاسر
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم  هو أول من قام بوظيفة القاضي في الإسلام. وسار الخليفة أبو بكر على طريقته. ولما انتشر الإسلام واتسعت دار الإسلام في عهد الخليفـة عمر بن الخطاب فصل القضاء عن الولاية وعيّن للقضاء أشخاصاً غير الولاة فاصلاً بذلك بين السلطتين التنفيذية والقضائية. وسار الخليفتان عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه على هذا السبيل. واستمر الأمر في الدولة الأموية على ما كان عليه الحال في عهد الخلفاء إلّا انه تميّز بمعاملة تدوين الأحكام في سجل خاص. واختلف الأمر في الدولة العباسية فقد نشأت المذاهب الأربعة ووظيفة قاضي القضاة وانتشر الجدل الفقهي واختلفت أحكام القضاة باختلاف المذاهب وازداد تدخّل الخلفاء في أحكام القضاة مما دعا الفقهاء الى الزهد في منصب القضاء والتمنّع من قبوله كما حصل مع الإمام ابي حنيفة النعمان وتلميذه زفر ومع الإمام أحمد بن حنبل.

القضاء في الدولة العثمانية

وضع حيدر بامَّات سنة 1946 كتابا بعنوان «مجالي الإسلام» ترجمه عادل زعيتر سنة 1956 ومما جاء فيه «ويكفينا للحكم في مدى التقدير الذي كان يساور المعاصرين حول النظم العثمانية أن نذكر ان هنري الثامن ملك انكلترة أرسل الى تركيا لجنة لدرس القضاء العثماني وصولا الى إصلاح النظام القضائي الانكليزي».(1)
وكتب شكري العسلي في كتابه «القضاة والنواب» عن القضاء في الدولة العثمانية ومما جاء فيه ان السلطان عثمان مؤسس الدولة استخدم قضاة للشرع والحكم بالدعاوى، وكانت الفتوى في عهد السلطان سليم موكولة الى عالم بالفقه وعلوم الشرع، وفي عهد السلطان بايزيد الأول أسند منصب الفتيا الى محمد شمس الدين أفندي. وكان المفتي ناظراً عاماً على جميع العلماء والقضاة والمدرّسين.
وتم في عهد السلطان محمد الفاتح تنظيم مراتب العلماء وكان في آخر أيامه قاضٍ واحد للعسكر - باعتبار ان العثمانيين كانوا أصلاً قبائل محاربة - فلما فتحت القسطنطينية وكثرت الأعمال قسم القضاء الى قاضي عسكر للروم إيلي أي للأراضي الواقعة في أوروبا - بلاد الروم - وقاضي عسكر الأناضولي في آسية.

تنصيب خضر بك قاضياً

ونُصّب خضر بك قاضياً على استانبول ومفتياَ في مقر السلطنة وأُسند بعد ذلك منصب الفتيا الى رجلين شهيرين هما: ابن كمال باشا وأبو السعود أفندي، وكان كل منهما قاضياً للعسكر. وأطلق بعد ذلك على منصب الإفتاء مقام المشيخة الإسلامية وصار هذا المنصب فوق منصب قاضي عسكر الروم إيلي وقاضي عسكر الأناضول، كما اختصت به رئاسة الطرق العلمية وصار يُقال لشيخ الإسلام «ولي النعم» وعُدّ أمر المعارف والعدل من حقوق مقام المشيخة حتى ان طلبة العلوم متى قيّدوا أسمائهم في الدولة عند إنجاز دروسهم عدّوا قضاة. وكانت رتبة المولوية «المولى» منتهى رتب التدريس وفي سنة 1272هـ فتح مكتب النواب وشرط أن يكون النائب من متخرّجي هذه المدرسة.
ثم انقسم مستخدمو الشريعة الى قسمين: الأول للفتوى والثاني للقضاء، وصار في مركز كل ولاية ولواء وقضاء مفتٍ وغدا المفتي مرجعاً لحل الأمور الشرعية وغدا شيخ الإسلام المفتي الحقيقي وشرط في الإفتاء ان لا تعطى الفتوى لأرباب المصالح قبل تصديق شيخ الإسلام عليها.
وكما ان شيخ الإسلام يعيّن القضاة لا بد له كذلك من أن يخصص مفتياً لكل بلدة من البلاد التي يعيّن لها قاضياً ويكون من المتضلعين بمعرفة الأمور الشرعية لمراقبة ما يجريه ذلك القاضي من الأحكام الشاذة أو ليستعين به القاضي في القضايا المشكلة فلا يبرم حكماً إلّا من بعد أن يستشيره ويحصل على جواب ممضي ومختوم منه مبني على نص شرعي يوثق به.
وأصبح تعيين القضاة منذ صدور تعيين النواب سنة 1855م يتم بنتيجة امتحان. وقد صُنّفوا الى خمس فئات هي: 1) الموالي الدورية والمدرّسين. 2) الذين لم يسبق استخدامهم في الخدمة الشرعية سابقاً وأظهروا مقدرة لدى امتحانهم. 3- 4- 5) من هم أقل استعداداً.وبموجب هذا النظام حصرت النيابة الشرعية في مقر الولاية بالفئة الأولى وجعلت مدة النائب في القضاء القريب من مركز الولاية ثمانية عشر شهراً وفي القضاء البعيد سنتين قابلة للتجديد.
ولم تكن مدة ولاية قاضي بيروت قبل جعلها من الموالي الدورية، محددة بمدة زمنية معينة. وكانت هذه المدة تخضع لعدة عوامل سياسية واجتماعية وكانت تنتهي بالاستقالة أو الإقالة أو بنقل القاضي أو وفاته.
وكان مجلس انتخاب الحكام ينتخب الحكام ويصادق عليه شيخ الإسلام ويختمه قاضي عسكر، وهكذا حصر أمر القضاء في قاضي عسكر الأناضول الذي غدا قاضياً على آسيا وأفريقيا، وقاضي عسكر الروم إيلي الذي غدا قاضياً على الروم إيلي (الأراضي الواقعة في أوروبا).
أما بقية البلاد فيحكمها «نواب» هؤلاء القضاة فلكل مركز ولاية نائب ولكل مركز لواء نائب ولكل مركز قضاء نائب. فنواب آسيا وأفريقيا هم نواب قاضي عسكر الأناضول ونواب أوروبا هم نواب قاضي عسكر الروم ايلي وكان للنيابة رتب منها خامسة ورابعة وثالثة ومسبوق ومستخدم الخ.
ويعود أصل إطلاق كلمة النائب على القاضي الى مفهوم الإنابة القضائية المعروف في الإسلام. فالسلطان أو الخليفة هو صاحب السلطة القضائية التي يفوضها من يشاء كي ينوب عنه في ممارستها لإحقاق الحق وتحقيق العدالة. وقد عبّر عن هذه النيابة الشيخ أحمد العريشي، قاضي عسكر مصر، ردّاً على سؤال علماء الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م والمتعلق بتنظيم القضاء في مصر فقال في جوابه «وأما صفات وكيفية لبسهم هما كنايتان عن إذن كبير القضاة لهم بسماع الدعوى وفصل الخصومات وكتابة الوقائع الشرعية وقيدها في السجلات المحفوظة ويكون المأذون نائباً عن موليه».(2)
وكانت المحكمة الشرعية هي المحكمة العادية التي تنظر في قضايا الأحوال الشخصية والدعاوى المالية والعقارية والبيوعات والتأمينات والقضايا الجنائية ومع الزمن حدت صلاحياتها بقضايا الأحوال الشخصية كالطلاق والفريق والنفقة والمهر والحجر.

(1) حيدر بامَّات. «مجالي الإسلام». ص474
(2) القضاء الشرعي في مصر. ص105.