بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 تشرين الثاني 2023 12:00ص بيروتيّات (59).. وفاء البيارتة للقاضي الشرعي عبد الله جمال الديـن (2/7)

كتاب تاريخ القضاء كتاب تاريخ القضاء
حجم الخط
بقيت في القوانين الوضعية في لبنان رواسب من الاختصاص الأصلي العادي للمحكمة الشرعية منها الاستمرار باستعمال مصطلح «الشرعي» وحتى اليوم تضع وزارة العدل جدولاً بأسماء الأطباء الشرعيين، وان نظام الجمارك يحيل النزاع بين الإدارة والتاجر الى لجنة من قاضٍ وخبيرين شرعيين، يحدّد المجلس الأعلى للجمارك شروط تعيين هؤلاء الخبراء، علما بان التعامل القضائي لا يزال يستعمل عبارة بدون مسوغ شرعي.
ويلاحظ ان الأحكام الشرعية تخلو من كلمة «حيث» التي كثيراً ما ترد في قرارات القضاء المدني بما يعرف بالحيثيات. ونعتقد أن استعمالها في هذا القضاء الأخير هو في غير محله اللغوي. ففي «لسان العرب» «حيث» هي ظرف مبهم من الأمكنة، فهي كلمة تدلّ على المكان. فحيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة. قال الأصمعي: مما تخطئ فيه العامة والخاصة باب حين وحيث.

القضاء الشرعي في بيروت

وكان القاضي يُختار قديماً من قبل الحاكم الاقطاعي ثم صار يعيّن من قبل الوالي وأخيرا يعيّن من الاستانة، وكان العلماء يتورعون عن تولّي مهمة القضاء لما كانوا يدركون من ظلم الحكام وتعسّفهم وعدم التزامهم بتنفيذ أحكام القضاة. وكانت بيروت بين سنتي 1769 - 1780م في عهدة الأمير يوسف الشهابي فاستدعى الشيخ أحمد البربير وطلب منه تولّي القضاء ولكن البربير تردد واعتذر وبعد إصرار الأمير نزل البربير عند رغبته مشترطا عليه شروطا متى أخلّ بها لم يعد للأمير سبيل عليه في البقاء في منصبه. ومما شرطه البربير على الأمير تنفيذ أحكامه وعدم التدخّل في قضائه وتكليف مندوب الأمير لتحصيل الرسوم القضائية تفادياً مما كان يفعله الولاة عند عزل القضاة من تعسّف في محاسبتهم.
وممن تولّى قضاء بيروت بعد البربير الشيخ أحمد الأغر والشيخ يونس البزري الصيداوي والشيخ عبد الغني الغزي الدمشقي والشيخ عبد الهادي قرنفل البيروتي. وبعد إخراج جيش إبراهيم باشا من بيروت أدركت الدولة العثمانية أهمية المدينة بموقعها ومينائها فعمدت الى إعادة تنظيم إدارتها فأنشأت الثكنة العسكرية (القشلة الهمايونية) والمستشفى العسكري (الخسته خانه) ووضعت في الأولى حامية عسكرية كما عمدت الى تنظيم القضاء الشرعي فعيّنت الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي قاضيا شرعيا فافتتح القاضي المذكور أول سجل شرعي في الثالث عشر من شهر صفر الخير سنة 1259هـ/ 1843م.
ليس تاريخ القضاء الشرعي في حقيقته تاريخ الملوك والسلاطين والأمراء الذين حكموا البلاد، أو تولّوا أمور الناس، ولا هو تاريخ الحروب وإحصاء قتلاها ووصف وقائعها، وإنما التاريخ هو تأريخ الحياة التي عاشها الشعب بجوانبها كافة، وقدّم فيها للأجيال الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة.
وقد نظرت فوجدت في القضاء الشرعي في بيروت كثيراً من الوقائع التي تدلّ على مقدار ما كان أجدادنا عليه من سموّ الأخلاق ونبل المقاصد وسماحة الأنفس، وذلك جليّ ظاهر في فتاواهم وأحكامهم، فضلاً عما تجده في تلك الفتاوى والأحكام من الوقائع اليومية لأهل بيروت وطرق حياتهم وأساليب معاملاتهم، واتصال علاقاتهم بين مسلمين ومسيحيين على السواء، لا يمتاز بعضهم عن الآخر إلّا بالعمل الحسن، في ظل قضاة يفخر بهم تاريخ القضاء، لما امتازوا به من العلم والمعرفة والفقه والدراية.
والصحيح أن تاريخ أهل بيروت ليس تاريخ ملائكة مطهرين، أو أنبياء معصوميـن لا خطايا فيه ولا أخطاء، إنما هو تاريخ بشر يصيبون ويخطئون شأنهم شأن البشر، صفحتهم بيضاء وإن جاء فيها نقط سوداء. وقد ظلت الشريعة مصدراً للتشريع ومصدراً للقضاء والفتيا، واعتبار الناس لها مرجعاً لهم في معاملاتهم وسلوكهم، وذلك قبل إقرار التشريعات المدنية. والفرد مهما كانت فرادته أو تميّزه بملكات غير مألوفة، فإنه لا بد أن يتأثر بالنسق الاجتماعي السائد في مجتمعه، وبالمقابل فإنه لا بد أن يؤثر بالمجموع، فالعلاقة بينهما علاقة تبادل وتكامل.
كانت أصول المحاكمات لدى القضاء الشرعي، ولا تزال، بسيطة وسهلة، والعدالة فيه ليست بطيئة ولا مكلفة. فكثير من الدعاوى الشرعية لا يفرض فيها تمثيل المتقاضي بمحام. ومن الإجراءات السهلة في المحاكم الشرعية تنظيم التوكيل في قلم المحكمة لقاء رسوم غير مرتفعة، إضافة الى أن مدة الفصل في الدعاوى ليست طويلة فضلاً عن أن القاضي الشرعي غير خاضع للسلطة التنفيذية المدنية بل يستمد في أحكامه إلى الأحكام الشرعية.

أول نائب شرعي لبيروت

يذكر أن أول نائب شرعي عُيّن لبيروت من قبل قاضي عسكر الأناضول هو حالت خليل بيرامي من خريجي معهد القضاة في إسطنبول بعد أن جعلت بيروت مولوية دورية يُعيّن نائبها الشرعي من خريجي المعهد المذكور. وقد وصل النائب المذكور الى بيروت في محرم سنة 1267هـ/ 1850م وافتتح سجله الشرعي بعبارة «الحمد للّه الذي شرّع كتب الصكوك والسجلات تحرّزاً عن ضياع حقوق المسلمين والمسلمات والصلاة والسلام على نبيه محمد أفضل الأنبياء في الهدايات وعلى آله وأصحابه واضح الحجج والبيّنات، وبعد فهذه اتخذت جريدة جيدة بكتب الصكوك والسجلات في زمن العيد المفتقر الى كرم ربه الجليل بيرامي زاده السيد حالت خليل القاضي بمدينة بيروت عفي عنهما لسنة سبع وستين ومايتين بعد الألف في غرّة محـــرّم الحرام».
وكان لكل من نواب الشرع في بيروت اثره وأفضاله بما قدّم واجتهد وكان من أهمهم عبد الله جمال الدين.

مجلة الأحكام العدلية

عندما صدر نظام تشكيل الولايات في 7 جمادى الآخرة سنة 1281هـ/ 1864م نصّ على إقامة ديوان تمييز في الولايات تنظر في أمور الجنايات، ترفع أحكامه إلى الوالي فيصدّق الأحكام إذا كان من صلاحيته، وإلّا فيرفعها إلى ديوان التمييز في استانبول.
أما في مركز اللواء - كانت بيروت مركز لواء حتى سنة 1887م عندما أصبحت مركز ولاية فيشكّل مجلس تمييز حقوقي برئاسة القاضي الشرعي.
أصدرت الدولة العثمانية، قوانين مقتبسة من الشريعة الإسلامية كمجلة الأحكام العدلية الذي استغرق العمل بها سبع سنوات من قبل جمعية خاصة من العلماء سمّيت «مجلة جمعيتي» اشترك في تنظيمها لجنة من ناظر ديوان الأحكام العدلية أحمد جودت ومفتش الأوقاف الهمايونية خليل وأحد أعضاء مجلس شورى الدولة سيف الدين، وأحد أعضاء ديوان الأحكام العدلية أحمد خلوصي وأحمد حلمي من أعضاء ديوان الأحكام العالية، وأحمد أمين الجندي من أعضاء مجلس شورى الدولة، وعلاء الدين إبن عابدين من أعضاء الجمعية.
وقدّمت اللجنة تقريراً إلى الصدر الأعظم في غرة محرم 1286هـ/ 1869م صرّحوا فيه بأنهم رتّبوا المجلة عن المسائل والأمور الكثيرة الوقوع مجموعة من أقوال السادة الحنفية. أعطيت نسخة منها لمقام مشيخة الإسلام ونسخ أخرى لمن له مهارة ومعرفة كافية في علم الفقه، وبعد إجراء ما لزم من التهذيب والتعديل فيها حرّرت منها نسخة عرضت على الصدر الأعظم. وقد صدرت إرادة سنية للعمل بها في شعبان سنة 1292هـ/ 1876م.
وتضمنت كتب المجلة الستة عشر (1851) مادة وضمّت ما يلي: المقدمة وفيها بيان القواعد الفقهية أو القواعد الكلية وضعت في مائة مادة منها: الضرورات تبيح المحظورات ولا ضرر ولا ضرار وإذا زال المانع عاد الممنوع ولا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان وإذا سقط الأصل سقط الفرع وإعمال الكلام أولى من إهماله ولا ينسب لساكت قول والغرم بالغنم ومن سعى لنقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه الخ.
ويختص الكتاب الأول ببيان الاصطلاحات الفقهية المتعلقة بالبيع والثاني بالإيجارات والثالث بالكفالة، والرابع بالحوالة، والخامس بالرهن، والسادس بالأمانات والسابع... والثامن بالغصب والإتلاف والتاسع بالحجر والإكراه والشفعة، والعاشر بالشركات والحادي عشر بالوكالة، والثاني عشر بالصلح والإبراء والثالث عشر بالأمور المتعلقة بالإقرار، أما الرابع عشر فيختص بالدعوى، والخامس عشر بالبيّنات والتحليف، والسادس عشر بالقضاء.وقد شرحها علي حيدر رئيس محكمة التمييز في الاستانة وأمين الفتيا وناظر العدلية الأسبق ومدرّس المجلة في مدرسة الحقوق. وعرّب الشرح المحامي فهمي الحسيني، كما شرحها بالعربية سليم رستم باز.
وكان السلطان قد أنشأ سنة 1288هـ/ 1869م المحاكم النظامية إلى جانب القاضي الشرعي. ولم يكن اختصاص هذه المحاكم النظامية إلّا في القضايا التي نص على موضوعاتها بإرادة سنية وما عدا ذلك يبقى من اختصاص القاضي الشرعي كمسائل الأحوال الشخصية سواء العائلية منها كالزواج والطلاق والنسب أم المالية كالنفقة والولاية والوصاية والحجر والمواريث، إضافة إلى الأوقاف. وذلك حتى سنة 1912م عندما صدر قانون الأصول الشرعية الذي أورد بشكل محدد المسائل التي ينظر فيها القاضي الشرعي. وفي 30 ايلول 1330 مالية (1912م) صدر قانون توجيه الجهات بالفصل بين السلطات القضائية النظامية والشرعية.
وقد لاحظنا ان تقنين مجلة الأحكام العدلية سهّل على القضاة الفصل في الدعاوى وخفّف من لجوئهم الى الفتاوى.

* مؤرخ